استمع إلى الملخص
- بدأت الإصلاحات تتعثر بسبب الخلافات السياسية وتأخر إقرار مشاريع قوانين هامة، مع عدم استكمال عمليات التدقيق الجنائي في المصارف، مما أضعف الثقة في جدية الإصلاحات.
- انشغلت الأوساط السياسية بالمفاوضات مع إسرائيل والولايات المتحدة حول سلاح حزب الله، مما قلل التركيز على الإصلاحات الاقتصادية، وتزامن ذلك مع حملات إعلامية ضد الإصلاحات.
بمجرد نيل الحكومة اللبنانية الثقة البرلمانية في شهر فبراير/ شباط الماضي، ساد تفاؤلٌ واسع النطاق بقدرتها على تحقيق قفزات نوعية على مستوى الإصلاحات المالية. وبعبارة أدق، شاعت التوقعات بامتلاك الحكومة إمكانات الشروع بعملية الإنقاذ الاقتصادي، التي يحتاجها الخروج من أزمات النقد والمصارف والمديونية العامة. وجاءت هذه التطلعات الإيجابية لتنسجم مع أجواء الارتياح التي صاحبت انطلاقة العهد الرئاسي، بعد الفراغ الرئاسي الذي شل المؤسسات الدستورية. كان ثمة ما يبرر كل هذا التفاؤل.
فمعيار التخصص طغى على عملية انتقاء الوزراء في التشكيلة الحكومية. وكان هناك مؤشرات على قرب خروج البلاد من العزلة السياسية الدولية، بوجود الدعم العربي والغربي لعمليتي تشكيل الحكومة وانتخاب الرئيس. وحاجة القادة اللبنانيين للمساعدات الخارجية، في مرحلة ما بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان، كانت كفيلة بدفعهم لتنفيذ الإصلاحات المطلوبة، للحصول على دعم المؤسسات الدولية.
في شهري مارس/ آذار وإبريل/ نيسان الماضيين، بدا أن كل هذه التوقعات المتفائلة كانت في مكانها، إذ أقر مجلس الوزراء مشروع قانون رفع السرية المصرفية، قبل أن يصادق البرلمان على مشروع القانون بسرعة قياسية وغير متوقعة. كما أقرت الحكومة مشروع قانون إصلاح أوضاع المصارف، وأحالته للبرلمان. وسرعان ما أعلنت الحكومة عن آلية شفافة سيجري اعتمادها للتعيينات الوظيفية، في مراكز الفئة الأولى في الإدارة العامة، بدل الاعتماد على المحاصصة الحزبية المألوفة.
نال لبنان، بفعل هذه الخطوات، إطراءات متتالية من المؤسسات الدولية المعنية بالشأن اللبناني، وخصوصاً صندوق النقد الدولي. وبفعل هذه الاندفاعة، توقع وزير الاقتصاد، عامر البساط، أن يتمكن لبنان من توقيع اتفاق مبدئي مع صندوق النقد، قبل نهاية صيف العام الحالي. وكان من المفترض -بحسب البساط أيضاً- أن يتسلح لبنان بهذا الاتفاق، ليكون إشارة إيجابية لمباشرة المفاوضات مع حملة سندات الدين العام، من أجل إعادة هيكلة هذه الديون.
لكن هذا التفاؤل الذي استمر حتى أواخر إبريل الماضي لم يدم طويلاً. وخلال الأشهر الأربعة الماضية، بدأت البلاد تفقد هذه الاندفاعة الإصلاحية شيئاً فشيئاً، حتى بات يمكن القول إن لبنان عاد إلى مرحلة المراوحة على مستوى مسار الإنقاذ المالي والاقتصادي. وبطبيعة الحال، كان لتلك المراوحة أسبابها السياسية. على مستوى البرلمان، ما زال مشروع قانون إصلاح أوضاع المصارف ينتظر إقراره والتصويت النهائي عليه، منذ إحالة المشروع من قبل الحكومة في شهر إبريل الماضي.
وكانت الخلافات بين الحكومة والمصرف المركزي، حول بعض بنود مشروع القانون، سبباً رئيسياً لتأخير إقراره. مع الإشارة إلى أن هذا القانون هو ما سيحدد صلاحيات الهيئات التنظيمية والرقابية في المصرف المركزي، عند إتمام عملية إعادة هيكلة القطاع المصرفي. وعلى مستوى الحكومة، لم يجر البدء بعد بمناقشة مسودة مشروع الانتظام المالي، الذي يفترض أن يحدد أسس ومعايير التعامل مع خسائر المصارف، وتوزيعها، قبل التدرج في تسديد الودائع.
ومن دون إقرار هذا المشروع في الحكومة، ثم في المجلس النيابي، لن يكون من الممكن الشروع بإعادة التوازن إلى القطاع المصرفي. وهنا أيضاً، لا يبدو أن الحكومة قد تمكّنت من صياغة مقاربة موحدة حول هذا المشروع، بالاتفاق مع المصرف المركزي. ورغم الوعود المتكررة، لم يستكمل المصرف المركزي عملية التدقيق الجنائي في ميزانياته، التي اقتصرت حتى هذه اللحظة على تدقيق أولي يتيم جرى إنجازه منذ عامين. كما لم يجر بدء التدقيق المحاسبي في ميزانيات المصارف التجارية، وفقاً للشروط التي وضعها صندوق النقد الدولي منذ عام 2022.
ومن المهم التذكير هنا بأن عدم استكمال أعمال التدقيق هذه، بات يحول دون تكوين فهم أعمق لأسباب تراكم الخسائر المصرفية، وهو ما سيؤثر بعدالة توزيع هذه الخسائر لاحقاً. ومنذ إعطاء مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف حق رفع السرية المصرفية، بموجب القانون الذي جرى إقراره هذا العام، لم يعد هناك عذر يفسر عدم فتح الدفاتر. وبحسب هذا القانون، صار بإمكان المصرف أو لجنة الرقابة تكليف شركات دولية متخصصة، لإنجاز هذا التدقيق. آخر المطاف كان التعيينات في المراكز المالية الحساسة، لرئيس وأعضاء لجنة الرقابة على المصارف ونواب حاكم مصرف لبنان الأربعة.
فرغم وصول وجوه جديدة تتمتع بالكفاءة والخبرة إلى العديد من هذه المناصب، طغى على بعض هذه التعيينات معيار التحاصص بين الزعامات التقليدية، وهو ما أظهر عدم جدية آلية التعيينات التي جرى الحديث عنها سابقاً. بطبيعة الحال، ثمة العديد من العوامل التي تفسر تباطؤ العمل على الإصلاحات الاقتصادية. وأحد العوامل البارزة، كما بات جلياً، يتصل بالتباينات التي بدأت تظهر ما بين الحكومة والمصرف المركزي، بخصوص العديد من الملفات المطروحة. وهذا ما يذكر بالخلافات ما بين حاكم المصرف السابق رياض سلامة وحكومة حسان دياب عام 2020، التي أدت إلى عرقلة تنفيذ الخطة المالية التي وضعتها الحكومة.
في الوقت نفسه، اتسعت تدريجياً رقعة الاهتمام المحلي بالمفاوضات الجارية مع إسرائيل والولايات المتحدة بخصوص مستقبل سلاح حزب الله، وهو ما قلل من اهتمام الأوساط السياسية اللبنانية بسائر الملفات المحلية، بل أصبح مألوفاً الربط في التحليلات السياسية ما بين بدء عملية إعادة الإعمار، والوصول إلى ترتيبات أمنية تنهي الاعتداءات الإسرائيلية على جنوب لبنان. وبذلك، لم تعد الإصلاحات الاقتصادية الشرط الأهم والحاسم للحصول على المساعدات الخارجية، وبدء عملية الإعمار.
وبالإضافة إلى كل ذلك، شنت بعض وسائل الإعلام طوال الأشهر الماضية حملات منظمة وقاسية في وجه الإصلاحات المطروحة، ومنها عملية إعادة هيكلة المصارف ورفع السرية المصرفية. وجرت شيطنة هذه الإصلاحات، بوصفها خطراً على الثقة الاستثمارية بالنظام المالي اللبناني. ولهذا السبب، خفتت تدريجياً الكثير من الأصوات التي كانت تشجع على المضي بهذه الإصلاحات. المشكلة الأهم حالياً، تكمن في اقتراب موعد الانتخابات النيابية المقبلة، في مايو/ أيار 2026. وهذا ما سيعني زيادة التعقيدات التي تحيط بالعمل على الإصلاحات الاقتصادية، ابتداءً من مطلع العام المقبل، مع انشغال الأوساط السياسية بالتحضير للمنازلات الانتخابية.
كما سيكون متوقعاً بحلول ذلك الوقت، زيادة منسوب الخطابات الشعبوية المتبادلة بين الأحزاب السياسية، وهو ما لا ينسجم مع النقاش الرصين المطلوب لصياغة المعالجات المالية. لكل هذه الأسباب، لا يملك لبنان ترف هدر المزيد من الوقت، لإنجاز أكبر قدر ممكن من الإصلاحات المنتظرة قبل انتهاء العام الحالي. فإرجاء هذه الإصلاحات إلى ما بعد الانتخابات النيابية، سيزيد من الكلفة التي سيتحملها جميع المقيمين، جراء تردي مستوى الخدمات العامة، وحالة الشلل التي يعيشها القطاع المصرفي، فضلاً عن التنامي المطرد في نسب الفقر والتفاوتات الاجتماعية. إن هذه المخاطر يفترض أن تكون كافية لدفع جميع القوى السياسية المحلية إلى تحمل مسؤوليتها.