استمع إلى الملخص
- تأسست كارفور في فرنسا عام 1963 وابتكرت نموذج الهايبرماركت، وتوسعت عالميًا رغم التحديات في بعض الأسواق مثل ألمانيا، مما دفعها للبحث عن فرص جديدة في أفريقيا والشرق الأوسط.
- ساهمت كارفور في تشكيل "مجتمع الاستهلاك"، مما أدى إلى تدمير المحلات الصغيرة وزيادة الاستهلاك المفرط، وتواجه تحديات جديدة من التجارة الإلكترونية ومنافسين مثل أمازون.
تتناول الحلقة الرابعة من سلسلة "كيانات مفترسة"* تاريخ شركة كارفور الفرنسية، على ضوء ارتباطاتها المباشرة والضمنية بإسرائيل.
في الرابع من نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، أعلنت كارفور إغلاق سلسلة محلاتها في الأردن، والتي تتجاوز الخمسين عدداً، إثر خسائر متتالية سجّلتها الشركة الفرنسية نتيجة حملات المقاطعة لداعمي الاحتلال الإسرائيلي. حققت يومها حملات المقاطعة العربية أكبر انتصاراتها. وتدعّم ذلك بعد شهرين بإعلان إغلاق محلات كارفور في عُمان. بذلك دفعت العلامة الفرنسية ثمن تبجّحها السافر بدعم جيش الاحتلال، فقد راجت منذ بداية حرب الإبادة في غزة صور لأكياس تحمل علامة كارفور مهداة إلى الجنود الإسرائيليين.
ولطالما كانت كارفور على رأس قائمة أهداف المقاطعة، ليس في العالم العربي وحده، بل في فرنسا ذاتها، بلدها الأم، وحتى قبل بدء الحرب على غزة. تتعدّد الأسباب ويبقى على رأسها ثبات نهجها في دعم الاحتلال، فلم تكن تلك الأكياس التي تصل إلى مجرمي الحرب سوى حركة رمزية سبقها ما هو أعظم، من ضخ تمويلات في السوق الإسرائيلية ودعم لبناء المستوطنات وتموينها وفق نشطاء حركة مقاطعة إسرائيل "BDS" فرنسا.
كان يمكن لمدّ المقاطعة أن يمتد أبعد من الأردن وعُمان، مع ظهور حملات واسعة في المغرب وتونس ومصر ودول الخليج وغيرها من الأسواق العربية، غير أنّ الموجة تبدو وقد انحسرت بمرور الوقت، ما يشير إلى أن اجتثاث شركة كهذه من الأسواق العربية أمر ليس هيناً، في ظل قدرات التغلغل الإداري واللعب على أوتار الصعوبات الاقتصادية للبلدان التي تتمركز فيها، فضلاً عن أوراق أخرى يمكن أن تلعبها مثل تغيير الأسماء والتخفي خلف الشركاء.
في تونس مثلاً نشطت حملات المقاطعة ضد كارفور منذ بداية حرب الإبادة في غزة، لكن العلامة الفرنسية نجحت في احتوائها بترتيب دفاعها على أساس محورية دورها استقرار سوق المواد الأساسية في تونس، والتداعيات الاجتماعية لخطوة إغلاق محلات كارفور في ظل أزمة على مستوى التشغيل وأخرى على صعيد التوزيع ضمن ما تعيشه البلاد من أزمات. وإلى ذلك، حاول الفرع التونسي تصدير صورة لا تربطه بالأصل الفرنسي، كأن تقرأ لافتة داخل فضاء كارفور في "مول مدينة سوسة" تقول: "كارفور تدعم القدرة الشرائية... قلوبنا مع أهلنا في فلسطين". هكذا، إذا أخذنا بالظاهر، فإن قلوب كارفور تونس مع فلسطين وسيوف كارفور فرنسا مع إسرائيل. وفي الحقيقة، لا تدعم كارفور الاحتلال فحسب، إنها في حد ذاتها شكل من أشكال الاحتلال.
حكاية البُحبوحة وأختها التبعية
إذا ما طرحنا سؤال لماذا نجحت حملات مقاطعة كارفور في الأردن وفشلت في تونس، فلا يتعلّق الأمر بعقد مقارنة بين استراتيجيات الفاعلين بين هذا البلد وذاك. لا ينبغي أن يفوتنا النظر إلى المسألة من زاوية كارفور. وبالنسبة لها ليست تونس كالأردن، والأمر لا يخضع للحسابات الاقتصادية وحدها. توجد علاقة استعمارية قديمة لا يزال أثرها يتمظهر في علاقة تونس بفرنسا في صدارتها مركزية فرنسا في التبادل التجاري وفي خلفيتها تبعية لغوية وثقافية لا تخطئها العين.
دخلت كارفور إلى تونس رسمياً عام 2001 حين أنشأت فضاء يبعد عن وسط العاصمة بضعة كيلومترات في الطريق الرابط مع ضاحية المرسى. كان ذلك حدثاً. ملأ الموقع فراغات عدة فضاعف ترابط مراكز الثقل التي كانت مشتتة في تونس العاصمة. انبجس مبنى كارفور كجنّي طلع من المصباح، وأتبع معه تحوّلاً عمرانياً شاملاً في المنطقة التي ظهر فيها، فغلبت عليها النزعة التجارية ثم سرعان ما تمددت بالتدريج فصبغت أرجاء أخرى من تونس العاصمة. وبذلك لم يكن كارفور مجرد فضاء تجاري، كان نقلة في إيقاع المدينة صادفت بداية قرن جديد فتضاعف الشعور بالتغيير.
وفي داخل المبنى ذي الواجهة الزجاجية العريضة كانت تنتظر التونسيين أشكال جديدة من العلاقة بالمأكولات والمشروبات وأجهزة الرفاهة المنزلية ومواد التجميل. وما كل ذلك إلا علاقة جديدة مع التسوّق ومع العالم. لم تتجمع من قبل في مكان واحد تلك الوفرة وذلك الاتساع، تلك الألوان والروائح، وأضواء العلامات التجارية العالمية الشهيرة.
لكم خدمت تلك اللحظة بروباغندا "نظام السابع من نوفمبر" تحت "الرعاية الموصولة" للرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، فقد أظهرت البلد وقد قطع خطوات واسعة في الحداثة والتنمية. بدا زمن "التحوّل المبارك" (ما بعد 1987) عصراً للوفرة والخيرات وتلمّعت صورة الرئيس حتى تجلى مثل إمبراطور روماني ملأ بطون رعيته وزاد على ذلك بالترفيه عنها، ففي العام نفسه افتتح ملعب رادس بما صاحبه من نجاحات رياضية لم تزد التونسيين إلا تنعّماً، وسرعان ما استفادت كارفور بتتالي افتتاح فروعها في أحياء تونس العاصمة، ثم في المدن الكبيرة في البلاد حتى لم يعد يخلو حي من كارفور ومثيلاتها.
ما يزال المزاج الشعبي العام يتذكّر تلك الفترة بوصفها بحبوحة عاش على وقعها التونسيون، وقلما استعيدت الفترة نفسها على أنها التحوّل الذي جرّ لاحقاً ما يكرهه التونسيون اليوم من غلاء وانحدار السلوكات. فإذا كانت كارفور ترتبط في المخيال التونسي بذكريات هذه "المرحلة الزاهية"، فإن تتبع مسار توسعها، يُظهر أن العلامة الفرنسية أينما وصلت كانت تزاحم محلات التجارة الصغيرة في أرزاقها؛ تضايق المخابز وتستولي على زبائن بائعي الخضر وتضرب المكتبات في مقتل. نفذت كارفور توسعها بقفازات مخملية، كانت فقط تُطلق الومضات الإشهارية وتقترح أسعاراً لا يمكن مجاراتها بفضل دمج حلقتي التوزيع والبيع، وإلى ذلك توفر لزبائنها مأوى السيارات المجاني وفضاءات للترفيه، وقبلها فرصة أن يجدوا كل ما يحتاجون إليه متوفراً في مكان واحد.
هل حدث تغلغل العلامة الفرنسية في تونس مصادفة؟ كانت هناك بنية ذهنية جاهزة لاستقبال كارفور وتحويلها إلى محور الحياة الجديدة. فاستهلاك نمط الحياة الفرنسي قد بدأ منذ زمن طويل، منذ الصدمة الاستعمارية ثم بعد ذلك بشكل ناعم من خلال متابعة ما تبثه القنوات الفرنسية التي كانت مهرب التونسيين من إعلام وطني مقموع.
ولم تدمّر كارفور منافسيها الصغار وحدهم، بل وضعت الصناعات التونسية – ومعظمها متوسط الحجم – في قلب رحى سوق تنافسية لا ترحم. فذلك الفضاء المرتّب بعنايةٍ بوصفه مساحة كبرى للبيع بالتجزئة ليس إلا حلبة مصارعة يُقذف فيها بفتيان لم يكتمل نموّهم ليواجهوا وحوشاً ضارية. كان ذلك حال المُنتجات التونسية وهي تتنافس مع مخرجات الصناعة الفرنسية والأوروبية والأميركية، ما قطع الطريق أمام اكتمال بنية كثير من المشاريع فتحوّل معظمها إلى وكلاء لعلامات أجنبية أو رضي بفتاتٍ. كان تطوّر هذه المشاريع يعني أن تخلق الثروة ذات يوم. وتلك الثروة التي لم يحققها المُنتح التونسي هي التي يقطفها المنتج الأجنبي جاهزة، وهو ما يصب في المعنى العميق للاستعمار بوصفه عملية تنظيم لنهب ثروة بلد آخر.
لم تكن الأرقام تكشف شيئاً من ذلك الانحدار، بل كانت أجهزة الإحصاء تأتي بمنظورات تُبرز تطوراً في التبادل التجاري وتحسناً في معدلات التشغيل. أرقام لعلها دقيقة لكنها تخفي علاقة تبادل غير متكافئ تربط كارفور بتونس. ماذا استفاد كل طرف من الآخر؟ لم يكن العقل المسيّر للشأن العام ليسمح لأحد أن يجيب عن السؤال أو يطرحه أصلاً فيرى الأمور من غير الوجه الذي حدده النظام. كان الجميع مجبراً على الاستمتاع بالتحوّل. وحين انتهى أثر التخدير بالتدريج، كان نمط الحياة الجديد قد تمأسس وترسَّخ، ولم تكن كارفور إلا التعبيرة الحاسمة بدخول الشعب التونسي عصر الاستهلاك المعمّم.
حرب الفيلة التي دمّرت كل الأزهار
ما حدث في تونس كان متأخراً ببضعة عقود عما حدث في فرنسا وقبلها الولايات المتحدة الأميركية ومنها استلهم مؤسس كارفور نموذجه؛ فضاء تجاري رحب يقوم على الخدمة الذاتية، ويمكّن الحريف من الاختيار بين كل الماركات التي تحضر أمامه في مكان واحد؛ أو هكذا يوحى له. إنها مختصر اقتصاد السوق وقد تكسّد في مكان واحد.
انبعثت كارفور فكرةً في ذهن مارسيل فورنييه (1914 – 1985)، سليل إحدى أبرز الأسر التجارية في مدينة أنيسي شرق فرنسا. شعر فورنييه في نهاية الخمسينيات بأن نموذج السوبرماركت (بمساحة تزيد عادة عن الـ100 متر مربع بقليل) قد استوفى قدرته على استدرار المرابيح، ولا بدّ من الانتقال إلى تصوّر جديد، اسمه الهايبرماركت، بفضاءات تجارية تزيد مساحتها عن الألف متر مربع؛ كان قد شاهدها في "العالم الجديد".
بدأت "تجارب" فورنييه للبحث عن العلاقة المثالية بين الجدوى الاقتصادية ومساحة المحل في تقاطع شارعي بارمولان وأندريه تورييه في مسقط رأسه، وأصبح ذلك الموقع أحد تفسيرات اختيار الاسم لاحقاً، إذ تعني كلمة كارفور بالفرنسية تقاطع شارعين أو أكثر. لكن الشاب الفرنسي فهم أن مدينته تضيق عن تحقيق طموحاته، ولا بد من خوض مغامرته في باريس، وهو ما جعله في حاجة إلى تمويلات تتجاوز قدرات أسرته، فاستعان بشريك عُرف باسم السيد كاري، وأصبح لاسم كارفور تفسير آخر فهو يُدمج في كلمة واحدة مقطعين من اسمي الشريكين. وفي بداية صائفة 1963، تحقّق حلم فورنييه في ضاحية سانت جونيفياف (30 كليومتراً جنوب باريس) وسرعان ما لقي ترحيباً شعبياً دفع بطموحات العلامة الجديدة إلى الأمام.
حين تجسّد الهايبرماركت أصبح حلقة جديدة في مسار تطوّر التجارة في فرنسا؛ البلد الذي مثّل مع بريطانيا الأرضية التي ارتسمت فيها الخطوات الحاسمة في تاريخ الرأسمالية في القرن التاسع عشر مع الانتقال إلى التصنيع وتحوّل التجارة إلى لعبة رؤوس أموال ضخمة. مثّل حي "لي هال" في وسط باريس بؤرة المجتمع التجاري الممتد تاريخياً إلى عدة قرون، غير أن إعادة هندسة المدينة في النصف الثاني القرن التاسع عشر أطاح الحيَّ وأعيد بناؤه وفق رؤية معاصرة محت معالم تاريخية فيه بحكايات أسواقها وذكريات مقاهيها لم يبق منها إلا أثر في روايات إميل زولا.
كانت الرؤية الهندسية الجديدة القائمة على توسيع الشوارع قد حوّلت المدينة في مجملها إلى سوق كبير، وحين فقد أساطين أسواق "لي هال" مركزيّتهم تفرّق دم الثروة التجارية بين قبائل عدة، وكذلك أصبح من الممكن للتجار الطامحين من خارج باريس أن يأتوا إليها غزاة. وحين ظهر فورنييه في الصورة كانت المعارك قد انتهت على وسط المدينة فاضطر أن ينصب فسطاطه خارجها بعض الوقت. ومع كارفور، ومن أتى معها أو بعدها، أصبح هناك باريس أوسع انتقلت بمجتمع التجارة إلى مرحلة جديدة أكثر جذرية في الليبرالية الاقتصادية.
ورغم أن جميع خطواتها كانت نتاجاً منطقياً لعقلنة الخيارات لدى مقاولي التجارة، لا تدخل كارفور ضمن الخط التطوّري الطبيعي للرأسمالية الفرنسية، والذي تمثله أساسًا سلسلة مغازات كازينو (مستمرة إلى اليوم ولكن بصعوبة شديدة في التنافس) وقد تأسست في نهاية القرن التاسع عشر وانتقلت مع كل مرحلة، انطلاقاً من النموذج التقليدي للمحلات التجارية حيث الفصل بين فضاءي الباعة والمشترين بمنضدة، إلى التوسع التدريجي في الفضاء الواحد، ثم إلى تعدد نقاط البيع تحت اليافطة نفسها، وصولاً إلى صيغة السوبرماركت. لكن كارفور بدأت من نقطة تتجاوز كل ذلك، فكانت أقرب إلى إنزال أميركي في شواطئ التجارة الفرنسية.
مع الجاذبية التي مارستها سريعاً فضاءاتها، أعادت كارفور ترتيب مفهوم السوق، فبات محورها الهايبرماركت، ولم يكن ذلك ممكناً لولا رياح اجتماعية وتكنولوجية مواتية، مع شعبية السيارات وتوسع الطبقة الوسطى، ونواتها الموظّف الذي يعيش على تدفق مداخيل منتظم ويحتاج من ثم إلى ضبط مصاريف مواز سيجد حلاً مناسباً لمعادلته في الهايبرماركت حيث يمكنه مع كل نهاية أسبوع اقتناء حاجياته محققاً ربحاً في الوقت، وتوفيراً في المال بما أن الأسعار مخفضة مقارنة بتجار التفصيل. أضف إلى ذلك تجربة الاستمتاع بالتسوّق وقد تحوّلت بالتدريج إلى شكل أساسي من السعادة تحت غطاء دمقرطةٍ للملذات والمتع بعد احتكارها طويلاً في أعالي الهرم الاجتماعي.
نجاح التجربة أغرى آخرين بطموحات فورنييه نفسها. استطاع إدوار لوكلير تنفيذ خطته في إطلاق سلسلة متاجر في معظم المدن الفرنسية تحمل اسم أسرته، تستمر إلى اليوم منافساً رئيسياً لكارفور، أتى بعضها على صيغة الهايبرماركت، ونجح جيرار مولييز في تشييد إمبراطورية أوشون، ومن ثم بدأت حرب مواقع طاحنة على محيط كل مدينة فرنسية. أسفرت تلك الحرب إلى خروج المشاركين فيها رابحين، أما نتيجتها الظاهرية فهي تضخم المدن مع تحويل معظم الأراضي الفلاحية القريبة إلى فضاءات تجارية، خاصة أن ضوضاء المعركة قد لفت انتباه عشرات المستثمرين من مختلف المشارب إلى أهمية التموقع في مداخل المدن.
لم تهدأ تلك الحروب إلا بسبب حجز كل المواقع المثمرة، فعاد التفكير إلى قلب المدن الذي ما يزال ينبض بالحياة وبالنقود. وهنا كان لا بد من خوض حروب أخرى مع شركات تخصّصت في نموذج السوبرماكت؛ مثل مونوبري وكازينو وماتش البلجيكية التي انتشرت في فرنسا منذ السبعينيات قبل أن تبتلعها كارفور عام 2024. كان يمكن لكارفور أن تتخصّص في نموذج الهايبرماركت، لكنها لم تكن تسمح بالبقاء في موقع المتفرج على نهر من أموال المستهلكين لم يغيّر مساره بعد، فابتدعت علامات كارفور سيتي وكارفور إكسبرس للنفاذ إلى جيوبهم.
بين السبعينيات والثمانينيات، تنافست هذه الشركات جميعها بالعقلية الافتراسية نفسها؛ ذئابٌ طليقة كانت ترتع في شوارع المدن تستحوذ على كل ما تطاوله، ولا يمنع سيطرتها على مساحة إلا أسبقية ذئب آخر إليها أو الزهد في الفرائس غير السمينة. ستدفع المحلات التجارية الصغيرة والمتوسطة فاتورة ذلك التسابق نقداً. لا تستطيع هذه المحلات أن تعيش إلا في شوارع وسط المدينة. قاومت لسنوات، واستنجدت بالدولة والقانون، ثم بدأت تخلي مواقعها أمام ارتفاع الكلفة العقارية وإغراءات الغزاة، فلم يصمد منها إلا القليل.
في كتابه "محلات تجارية صغرى ومساحات كبرى" (1987)، أرّخ الباحث الاقتصادي الفرنسي جاك فينيي لـ"انقراض محلات العطارة العامة" وقد مثّلت تاريخياً واجهة الحياة التجارية في فرنسا بوصفها منطقة اللقاء بين التجّار والحرفاء. اعتبر فينيي أنه بنهاية السبعينيات لم يعد هذا النموذج ضمن الجذع الرئيسي للدورة الاقتصادية. انتهى بذلك الحجم البشري للمشروع التجاري، واللمسة الإنسانية فيه، فلكل محلٍّ تجاري صغير هويته وشخصيته التي كانت تتأقلم مع روح المكان الذي تستقر فيه، فكانت أيضاً فضاءات للترابط الاجتماعي، وإلى ذلك كانت فرصة لتنويع العرض وفق منطق ابتكاري بسيط.
لا يعني ذلك أن التاجر الصغير قد جعل محله جنة أرضية، فله هو الآخر سهم في استغلال زبائنه، من تلاعب بالأسعار وترتيب تصريف المخزون بحسب أولويات مصالحه المادية، لكنها صغائر محدودة التأثير لم تفتأ أن ضخمتها شركات المساحات الكبرى الصاعدة في دعايتها، فيما كانت هي تُقدِم على ما هو أفظع منها سراً. كان الذئب وقتها ينبّه الخرفان من قسوة الراعي.
لما اكتمل تموقع هايبرماركت كارفور على الخريطة الفرنسية، لم يهدأ نهم مارسيل فورنييه ففكر في تنفيذ الميغاماركت بحجم يزيد عن 10 آلاف متر مربع وقد حققه فعلاً قبل التراجع عنه حيث أثبتت الأرقام أن تكلفة الاستثمار لا تتناسب مع المرابيح المنتظرة، وترسّخت قاعدة بأن حجم 2500 مربع هو النموذج المثالي فاستثمرت فيه كارفور إلى أبعد حد.
لم تتطابق حدود فرنسا مع المدى الذي تصل إليه طموحات فورنييه، ولعله لم يكن مخيّراً حين قررّ الذهاب بكارفور إلى الخارج، فمع تطورها المطرد وتصاعد المنافسة مع الأخوات أوشون ولوكلير ومونوبري، التي لم تتوقف هي الأخرى في تطبيق وصفات النجاح نفسها، لم يعد متاحاً لكارفور غير الاستمرار في التوسع أو التراجع، ولا يحدث ذلك إلا لصالح حيتان أخرى في السوق. مبكراً، صوّب فورنييه أنظاره نحو الجيران، فزرع كارفور في بلجيكا بدءاً من 1969 ثم في إيطاليا بدءاً من 1972 فإسبانيا في السنة الموالية.
وكان رجل الأعمال الفرنسي يمنّي النفس بأن يكون له نصيب من القدرة الشرائية المرتفعة للمواطن الألماني، واستفاد من أجواء بناء الاقتصاد الأوروبي الموحّد فظهرت علامة كارفور في ألمانيا بدءاً من 1977، لكنها فشلت في المنافسة حيث وجدت صداً شعبياً بتفضيل الألمان للعلامات المحلية، فضلاً عن تهيكل قطاع تجارة التجزئة على عكس البلدان الأخرى. أكثر من هذه الخيبة، كان على كارفور احتمال الهجوم المعاكس، مع دخول العلامات الألمانية إلى السوق الفرنسية في نهاية الثمانينيات، فأخذت "ليدل" و"آلدي" و"مترو" نصيباً غير هيّن من الكعكة الفرنسية.
تفسّر المعارك الخاسرة مع الألمان بعضاً من تحرّكات كارفور اللاحقة، إذ بدأت توجّه أنظارها إلى آفاق أخرى. في 1992 دخلت إلى تركيا واليونان، ومن ثمّ توغلت نحو جنوب المتوسط ثم إلى الأسواق الأفريقية، ملتقية مع تاريخ فرنسا الاستعماري في فضاءات كانت مهيأة لتقبّل النموذج الجديد، بل تحتضنه بوصفه علامة من علامات التحديث.
الكاتالوغ أو الموت
بدأ توزيع هذه الكاتالوغات في فرنسا عبر البريد ثم استحدثت له وظائف خاصة؛ شباب يمسحون المدن يلقون بالكتالوغات في جميع صناديق البريد بلا استثناء، قبل أن تأتي الإنترنت فيصل الكتالوغ عبر الإيميل ثم عبر تصفح مواقع التواصل الاجتماعي. بصفتك حريفاً محتملاً، يتجسّد أمامك عالم الحاجيات وقد صيغ في بضع ورقات ملونة. بنك من البضائع يُبرمِج على أساسه الزبائن جولتهم الآتية في كارفور. وقد تدفعهم التخفيضات إلى أن يضيفوا إلى لوائحهم حاجيات جديدة؛ يختبرون هذا المنتج ويخزنون ذاك.
لكن كاتالوغ كارفور ليس مجرد إشارات وتوجيهات للزبائن؛ فهو أيضاً عامل سيطرة على الفضاء الاقتصادي بمجمله. يستطيع الكاتالوغ أن يرفع من يشاء من العلامات التجارية ويذل من يشاء. فبورقة كهذه تستطيع كارفور أن تتحكم في المنتجين، فلها أن تلزم من تريد بمسايرة استراتيجياتها في التسويق ولا خيار لهم في الحقيقة لأن تغييبهم من رفوف مغازات كارفور يعني خروجهم من الدورة الاقتصادية تقريباً. تجعل المساحات الكبرى نفسها مكاناً تتجسّد فيه حرب الكل ضد الكل، وتنصّب نفسها حكماً على الجميع، في صورة تختزل الرأسمالية كاملة. أبطالها العلامات التي تتصارع بلا رحمة، وضحاياها الجانبية أناس جاؤوا بأقدامهم، وأحياناً شركات لا تريد أن تخضع للمنظومة.
وإذا علمنا ما وصلت إليه كارفور بعد تعملقها في التسعينيات، بوصفها قوة مالية وقوة ضغط سياسي، فهمنا أنه بات يمكنها التعامل من موقع قوة مع الشركات المنتجة، ما يمنحها تفوّقاً تفاوضياً وظفته لصالحها لتشتري بأبخس الأثمان وتبيع بأسعار تنافسية. كما تستطيع ضرب قطاعات في حال قررت تصنيع مادة ومن ثم تبيعها وفق رؤية خطة لإعادة ترتيب السوق بحسب مصالحها، فقد دمجت حلقة الإنتاج أيضاً مع التوزيع والتسويق. ومن نكد الدهر أن نرى كيف يمسك قطاع التجزئة غير المنتج بخناق جميع القطاعات المنتجة في اقتصاد السوق.
وإلى جانب الكاتالوغ، اخترعت كارفور بدءاً من الثمانينيات "بطاقات الوفاء" بوصفها ارتباطاً إضافياً بينها وبين حرفائها. وقد منحتهم بذلك امتيازات جديدة، وهل من هدف للامتيازات غير مزيد من المشتريات؟ لا تنغلق تلك الدائرة أبداً، فحاجيات الحرفاء لا تنتهي وآلات اختراعها لا تتوقف، والمساحات الكبرى لا تتورّع في استغلال الغرائز. فليشتروا من دون توقف، وليتجاوزوا قدراتهم لأن هناك تسهيلات لم تُخترع إلا كي يكدّسوا السلع في عربات التسوّق. وكلما امتلأت عربات التسوّق قالت كارفور هل من مزيد؟
الاستهلاك.. الاستهلاك.. تلك أغنية عرائس البحر التي لا تتوقف، وليس أمام عوليس إلا أن يربط نفسه في صارية سفينته كي ينجو. كوكب برمته ينبغي أن يربط نفسه فالاستهلاك المتسارع يمضي به رأساً ليصطدم بالصخور، فلا يعني تسريع وتيرة الاستهلاك غير استنزاف الثروات النباتية والحيوانية. لا يغفل عاقل عن أثر هذا الاستهلاك المفرط في تدمير الكوكب، فهل يغيب عن المشرفين عليه؟ ومن له يد في تدمير الأرض، هل يهمه تدمير غزة في شيء؟
ما فعلته كارفور بالمجتمعات
يذهب بورديار بعيداً في تحليل المفاعيل السحرية للبضاعة، أو للعلامات التي تسوّقها من مسميات وأغلفة وتصاميم وطرق عرض. نظام بلاغي متكامل ينطلق من البضاعة ويعود إليها. تستفيد كارفور في ذلك من جهود كل العلامات التجارية في تسويق سلعها، فهي ليست قابعة بانتظار الحرفاء. إنها عابرة لمجمل المجال الاجتماعي؛ كانت تتحرّك في الفضاء العمومي ليلتقيها الناس حين يخرجون لشؤونهم، ثم ولجت البيوت عبر الإعلانات التلفزيونية، وأخيراً باتت تصاحب الخلق في مخادعهم من خلال الإنترنت في هواتفهم. مصيدة عنكبوتٍ عملاق تعمل ليلاً ونهاراً كي تهيّئ الحريف الذي يدخل كارفور ويخضع لجبروت البضائع، فلقد زُرعت في نفسه رغباتٌ وفُبركت شهواتٌ من أجل أن تدفعه للشراء إلى أقصى حد.
يرى المفكر الفرنسي أن التجوّل بين رفوف البضائع لم يُستحدث إلا لكي يكتمل تواصل السلع مع الحريف بالتلامس والمداعبة بوصفهما شكلاً أكثر اكتمالاً للإغواء. ولنشر هنا أن تحليل بودريار كان مقتصراً على نموذج السوبرماركت قبل أن تظهر النماذج الأخرى، وتكرِّس مجتمع الاستهلاك. تضخّمت المساحات، وكذلك ألاعيبها. وتهيّأ الأمر لمعركة ناعمة أهم ما فيها أنها غير متكافئة بين ديناصورات وكائنات بشرية خفيفة.
ينتقم الإنسان الحديث في المساحات الكبرى من تاريخ طويل من الندرة حيث تمنحه "فضاء تتجلى فيه الوفرة". والوفرة عند بودريار لا تقول حقيقتها المساحات الكبيرة فحسب، بل "الفضلات" أيضاً، ولذلك دعا ساخراً إلى إطلاق حقل معرفي باسم "سوسيولوجيا الفضلات" بما أنها المرآة التي يرتسم فيها الوجه القبيح من الحقيقة مثل لوحة دوريان غراي، أو لنتذكر المشهد الشهير في فيلم "ماتريكس"، المستوحى من أطروحات أخرى لبودريار، حيث يقف وراء المرئيِّ المزوّق دمارٌ شامل. ألا تتحوّل عربات التسوّق التي تخرج من المغازات محمّلة بالسلع إلى صناديق ممتلئة بالقمامة بعد أيام؟ وكلما امتلأت صناديق القمامة تلك امتلأت جيوب المساهمين في كارفور.
على مدى عقود تتعرّض الكائنات البشرية لأشعة العلامات التجارية فكيف لا تُمسخ؟ كيف لهذا المخلوق الهش أن يقاوم جاذبية هذه المساحات الكبرى وهي تعمل مثل آلة جبارة تحوّل قوالبُها الإنسانَ إلى زبون. تدرّبه، أو لنقل تُربّيه، كي لا يكون إلا حريفاً في كل شؤون حياته: في السياسة وفي العلاقات الاجتماعية والمعرفية. لا رابط له إلا بمن يوفر له حاجياته بالطريقة الأجدى؛ مادياً ومُتَعياً وزمنياً. لا سرّ إذا صارت المجتمعات الغربية محكومة بحسابات الربح والخسارة في أصغر تصرفاتها، فقد تعرّض أناسها مراراً وتكراراً لسحر كارفور ومثيلاتها.
وإذا كانت مقولات بودريار تتوقف عند حدود استشراف مآلات إنتاج المنطق الاستهلاكي وإعادة إنتاجه في المجتمعات الغربية في منعطف السبعينيات، فإن تحليله قابل للتمديد إلى أيامنا، وقادر على تفسير سلوكات راهنة منها سلبية شرائح كثيرة أمام جرائم الحروب التي تضرب العالم ومنها حرب الإبادة في غزة. صحيح أن هناك - داخل هذه المجتمعات - من يناضل بصدق، لكنها فئة قليلة (تبقى أفضل حالاً من المجتمعات العربية) مقابل طيف واسع غير معنيٍّ إلا باستدامة موقعه الزبوني من العالم.
قد لا تكون كارفور قد مارست دعاية مباشرة لجيش الاحتلال الإسرائيلي، لكنها قد هيأت أرضية للصمت على المظالم والمجازر. فخطابها المضمر يلتقي مع الدعاية الصهيونية في الغرب، وبمزجهما يتخلّق ارتباطٌ خفيٌّ بين شرائح واسعة في المجتمعات الغربية وإسرائيل. تكفي مقارنة صور مُدن الاحتلال مع نظيرتها الغربية حتى يتصدّر الرفاهُ قاسماً مشتركاً، فيما لن يرى المواطن الغربي قواسم مشتركة مع أصحاب الأرض. بذلك تصبح إسرائيل في اللاوعي سياجاً يحمي حديقة الرفاه الغربي، ويصبح العدوان دفاعاً استباقياً يحصّن رغد العيش. هكذا يرتبط الإنسان-الحريف بإسرائيل بعقد مضمرٍ من الربح والخسارة، أي العقد نفسه الذي يتعامل به مع كارفور.
نهاية استغلال وبداية آخر
لم يبق على وجه الأرض من لم تستهدفه المساحات الكبرى والعلامات التجارية التي تسكنها. طوّرت كارفور نماذجها لتنهب كل ما يمكن تحويله إلى أرباح، فأسنّت الأسلحة وعقدت التحالفات وجرّبت وسائل الدعاية وبسطت نفوذها أينما حلّت من دون أن يهدأ جوعها. انتقلت من الهايبرماركت إلى الميغاماركت ثم عادت للسوبرماركت، فقتلت عشرات المنافسين، ومعظمهم ممن لم تشعر به وهي تدوسه.
لم ينغلق قوس هذا التجبّر إلا مع منعطف تكنولوجي جديد فخرجت التجارة الإلكترونية لكارفور مثل بُعبع، وبين ليلة وضحاها باتت أمازون "أكبر متجر في العالم" وعلى الشركة الفرنسية أن تتأقلم مع قواعد لعبة جديدة. وكما خنقت من حولها مشاريع كثيرة ظهر من يرسم نهايتها، وهكذا هي حروب الرأسمالية؛ "أيام نداولها بين الناس" وبين الشركات.
استغلّت كارفور كل شيء لصالحها، حتى لم يعد هناك ما تستغله على ما يبدو. ولعله حان الوقت أيضاً لتدفع ثمن بعض خياراتها اللاأخلاقية. المعضلة أن وحشاً لا يسقط إلا بمخالب وحش آخر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مراجع:
جان بودريار، مجتمع الاستهلاك، غاليمار، باريس، 1970
بونوا هايلبرون، المستهلك وعلومه الاجتماعية، أرمان كولان، باريس 2005
جاك فينيي، محلات تجارة صغرى ومساحات كبرى، المنشورات الجامعية، غرونوبل، 1987
فانسان شابو، سوسيولوجيا التجارة، أرمان كولان، باريس، 2024
ريمي بافين، تاريخ السعادة في فرنسا منذ 1945، روبير لافون، باريس، 2013
سمير أمين، التطور اللامتكافئ، دار الطليعة، بيروت، 1985
فانسان باكارد، فن التبذير، كالمان ليفي، 1962
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* تماماً مثل دول كثيرة لا تتورّع عن كشف دعمها اللامشروط لإسرائيل، تقف شركات وعلامات تجارية عالمية لتقوّي شوكة دولة الاحتلال في حربها على الفلسطينيين. فمن أجل المصالح الاقتصادية لا يرفّ جفن لهذه الشركات، وهي تدوس القيم الإنسانية من دون رحمة.
وكما فعلت الإمبراطوريات في القرن التاسع عشر، قسّمت هذه الشركات عالم اليوم بينها، فجعلته مثل حوانيت تبيع كلّ شيء: المأكل والمشرب والزينة والصحة والرفاهة والترفيه (...). وحين نراها تنحاز بشكل سافر ضدّ الحق الفلسطيني، نفهم كم نحن محاصرون من كل جانب.
لم تكن الحرب على غزة إلا مناسبة جديدة كي تسقط الأقنعة الملوّنة التي ترتديها الوحوش. مناسبة كي نعود إلى تشكّل هذه الشركات وتطوّرها وأسباب قوتها، والأدوار التي تلعبها معنا وضدّنا: تؤمّن من جهة كل حاجاتنا، ومن جهة أخرى تُغرقنا في ثقافة الاستهلاك وتناصر الطغيان والظلم وتدمّر الكوكب.
حين تتأمّل هذه السلسلة مسارات الشركات التي تصنع كل شيء حولنا، إنما هي تتأمّل كيف تتشكّل حياتُنا، كيف تتحوّل المنتجات إلى أطواق حول أعناقنا. "من لا يتحرّكون، لا يلاحظون أغلالهم"، قالت روزا لوكسمبورغ منذ قرن تقريباً، وكذلك من لم يُقصف إخوانهم لن يشعروا بالألم الذي طالما خدرته الملذات.
تحتاج الشركات الكبرى إلى استدامة دائرة الاستهلاك وتخدير الشعور إلى ما لا نهاية، وبعد ذلك علينا ألا نستغرب أن يغفل عالم المال -أو يتغافل- عن حقيقة الجريمة الصهيونية في فلسطين. كيف يمكن التعايش مع كيانات تحوّلت إلى وحوش تمزّق بأسنانها اللحم البشري، وتعمل على تنويمه في الوقت ذاته، ويحدث أيضاً أن تذرف الدموع... لكن على المُعتدين!