قاطرة أوروبا تتعثر... الاضطرابات ورسوم ترامب تدفع ألمانيا نحو الركود

25 نوفمبر 2024
مصنع سيارات "بي إم دبليو" في ميونخ، 5 ديسمبر 2023 (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- يعاني الاقتصاد الألماني من تباطؤ حاد في النمو بسبب الاضطرابات السياسية الداخلية والترقب لسياسات الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب، مع توقعات بانكماش بنسبة 0.2% هذا العام.

- تهدد سياسات ترامب التجارية، مثل فرض تعريفات جمركية تصل إلى 20%، الصادرات الألمانية إلى الولايات المتحدة، مما يؤثر على قطاعات حيوية كصناعة السيارات والأدوية.

- تواجه منطقة اليورو ضغوطًا اقتصادية متزايدة بسبب التوترات التجارية وارتفاع أسعار الطاقة والمواد الغذائية، مما يزيد من حالة عدم اليقين الاقتصادي.

تعكس مؤشرات أداء الاقتصاد الألماني حالة الارتباك البالغة التي تسيطر على الأوضاع السياسية الداخلية، وكذلك الترقب الشديد للحواجز التجارية، التي يعتزم الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب وضعها أمام صادرات الحلفاء والأعداء على حد سواء، وهو ما يحذر محللون من تداعياته على ألمانيا التي توصف بقاطرة أوروبا ويدفعها نحو ركود مؤلم يتجاوز حدودها ويصيب منطقة اليورو.

تعاني ألمانيا تراجعاً في النمو الاقتصادي يعد من بين الأشد حدة في الدول المتقدمة، إذ نما بنسبة 0.1% على أساس فصلي في الربع الثالث من العام الجاري (بين يوليو/تموز وسبتمبر/أيلول)، وفق بيانات مكتب الإحصاء (ديستات)، بينما انكمش بنسبة 0.3% على أساس سنوي، فيما ينتظر الاقتصاد الألماني شتاء قاس على أثر تباطؤ ماكيناته وتراجع صادراته، وسط تحذيرات محللين من ضعف حاد وانزلاق نحو الركود بفعل الرسوم الجمركية التي تعهد ترامب بفرضها.

ومن المتوقع أن ينكمش الاقتصاد الألماني بنسبة 0.2% هذا العام، وفقاً لأحدث التوقعات الحكومية. وتعكس بيانات النمو والتوقعات باستمرار الضعف خلال عام 2025 المقبل، جزئياً حالة الجمود التي تسيطر على قرارات الاستثمار في أكبر اقتصاد أوروبي حتى قبل عودة ترامب إلى البيت الأبيض، إذ تؤجل الشركات الالتزامات الكبيرة أو حتى تنقل الإنتاج، فضلاً عن تداعيات الاضطرابات السياسية الداخلية، إذ اضطر رئيس الوزراء أولاف شولتز هذا الشهر للدعوة إلى انتخابات مبكرة بعد انهيار ائتلافه الحاكم.

ويتولى شولتز المستشارية عبر ائتلاف من ثلاثة أحزاب هي الحزب الاشتراكي الديمقراطي بزعامته، والحزب الديمقراطي الحر بزعامة وزير المالية المقال كريستيان ليندنر، وحزب الخضر. وأكد خبراء اقتصاد أن هذه الاضطرابات تزيد الوضع صعوبة.

ومن المقرر إجراء انتخابات مبكرة في 23 فبراير/شباط المقبل، لكن من المرجح أن تستمر محادثات الائتلاف لتشكيل حكومة جديدة لأشهر. وقال رئيس التجارة الخارجية في اتحاد الصناعات الألمانية، ماتياس كرامر: "القلق والعصبية بين رجال الأعمال الألمان مرتفعان للغاية"، مضيفاً أن الضربة الإضافية الناجمة عن فرض الحواجز التجارية من قبل ترامب ستكون "مؤلمة للغاية أيضاً"، وفق تقرير لصحيفة فايننشال تايمز البريطانية، أمس الأحد.

في السياق، قال موريتز شولاريك، رئيس معهد كيل للاقتصاد العالمي ومقره ولاية شليسفيغ هولشتاين الألمانية، إن "ركائز المعجزة الاقتصادية الألمانية المتمثلة في التجارة العالمية الحرة وصناعة السيارات وحلف شمال الأطلسي تهتز في نفس الوقت"، مضيفاً أن هذا يضرب اقتصاداً يعاني شيخوخة القوى العاملة والبيروقراطية المفرطة.

وظل الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي لألمانيا راكداً منذ النصف الثاني من عام 2021. وكان على استعداد لعام آخر من النمو الفاتر العام المقبل حتى قبل فوز ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية، لكن خبراء الاقتصاد يخفضون الآن توقعاتهم للناتج بشكل أكبر.

وخفض كبير خبراء الاقتصاد في بنك بيرينبيرج الألماني، هولغر شميدينغ، توقعاته إلى النصف تقريباً إلى نمو بنسبة 0.3% في عام 2025، وهو أقل من توقعاته لاقتصادات منطقة اليورو الكبرى الأخرى وكذلك المملكة المتحدة والولايات المتحدة. وقال إن ألمانيا معرضة بشدة لمخاطر الحرب التجارية، لا سيما في ظل عدم يقين مرتفع بشأن السياسة الاقتصادية في الدولة.

أميركا تستحوذ على 10% من الصادرات الألمانية

استحوذت الولايات المتحدة على 10% من الصادرات الألمانية في عام 2023، وهو أعلى مستوى لها منذ أكثر من عقدين من الزمن. ومنذ عام 2015، حلت أميركا محل فرنسا باعتبارها الشريك التجاري الأكثر أهمية لألمانيا واستمرت أهميتها بالنمو، إذ قللت الصين، وهي سوق سريعة النمو في العقدين السابقين لوباء كورونا، من شهيتها للمنتجات الألمانية بشكل كبير، كذلك أثرت العقوبات الغربية الواسعة ضد موسكو على المبيعات الألمانية إلى روسيا.

ومع ارتفاع الصادرات الألمانية إلى الولايات المتحدة، صعد الفائض التجاري لألمانيا مع أميركا إلى مستوى قياسي بلغ 63.3 مليار يورو (65.8 مليار دولار) في عام 2023.

وقال ماتياس كرامر "تمكنت الشركات الألمانية على مدى العقود الماضية من إتقان تقسيم العمل العالمي والسعي إلى سلاسل توريد دولية عالية الكفاءة". لكن في ظل سيناريو فرض ترامب تعريفات جمركية تصل إلى 20% من مختلف دول العالم باستثناء الصين التي تعهد بأن تصل الرسوم على بضائعها إلى 60%، فإن الصادرات الألمانية إلى الولايات المتحدة قد تنخفض بنسبة 15%، وفقًا لتقديرات معهد إيفو الألماني للبحوث الاقتصادية ومقره ميونخ.

وفي معرض تسليط الضوء على تهديد "التفتت الجغرافي الاقتصادي"، قال محافظ البنك المركزي الألماني، يواكيم ناجل، مؤخراً إن التنفيذ الكامل لخطط ترامب للرسوم الجمركية قد يمحو نقطة مئوية واحدة من نمو الناتج المحلي الإجمالي. وبينما تترقب الأوساط الاقتصادية بشدة رسوم الرئيس العائد إلى البيت الأبيض، فإن الشعور بالألم بدأ بالفعل حتى قبل فرض الرسوم، وفق خبراء اقتصاد، إذ تؤجل الشركات الاستثمار في الداخل بسبب حالة عدم اليقين المزعجة، كما قد تنقل الشركات الأكبر حجماً المزيد من الإنتاج إلى الولايات المتحدة. وقال موريتز شولاريك لـ"فايننشال تايمز": "لقد ظهر هذا الموضوع في كل مناقشة مع المديرين الألمان".

منذ أواخر عام 2020، زادت الشركات الألمانية على نحو كبير من استثماراتها في الولايات المتحدة، خاصة في القطاعات المتعطشة للطاقة، كما تظهر بيانات البنك المركزي الألماني. ومع الحرب التجارية المتوقعة، سوف تتأثر شركات صناعة السيارات الألمانية، التي تكافح مع التحول المكلف إلى المركبات الكهربائية، والمنافسة الشديدة من المنافسين الصينيين والتكاليف المتضخمة، وكذلك ستتأثر شركات الأدوية بشكل خاص. وتستحوذ الولايات المتحدة على 13% من إجمالي صادرات السيارات الألمانية و22% من صادراتها الدوائية. وتشير تقديرات مركز أبحاث "إيفو" إلى أن كليهما سوف ينهار بمقدار الثلث في حرب تجارية كاملة. حتى في سوقها المحلية، سوف تصبح حياة الشركات الألمانية أكثر صعوبة.

ومع فرض ترامب رسوماً تجارية كبيرة على السلع الصينية، يحذر العديد من خبراء الاقتصاد من أن المنتجين الصينيين سوف يحولون المنتجات المخفضة الأسعار إلى الاتحاد الأوروبي. وفي حين أن هذا قد يساعد في تخفيف التضخم في الاتحاد الأوروبي، فإن الشركات المصنعة المحلية سوف تواجه منافسة متزايدة وسوف تتقلص أنشطتها بشكل أكبر.

ويواصل قطاع التصنيع في ألمانيا الانحدار منذ سنوات، إذ إن الإنتاج الصناعي أقل بنسبة 10% من مستواه قبل ظهور وباء كورونا في ديسمبر/كانون الأول 2019، وفقاً للإحصاءات الرسمية، بينما تعمل فيه دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية الأخرى بما في ذلك الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية على تعزيز الإنتاج. وتأسست المنظمة التي تضم 35 دولة عضواً عام 1961، لتحفيز التقدم الاقتصادي والتجارة العالمية.

ضجة تعريفات ترامب لانتزاع تنازلات من الحلفاء

وسط حالة التشاؤم التي تسيطر على الكثيرين من القادم، فإن البعض يعلقون آمالاً على الخبرات المكتسبة من فترة ولاية ترامب الأولى، بحجة أنه أحدث ضجة كبيرة بشأن التعريفات الجمركية، لكنه في الواقع فرض رسوماً محدودة فقط، معتبرين أن ترامب قد يستخدم تهديد التعريفات الجمركية هذه المرة وسيلة لانتزاع تنازلات سياسية من الحلفاء مثل الضغط من أجل إبعاد الأوروبيين عن الصين، كما قال نيل شيرينغ من مؤسسة كابيتال إيكونوميكس، موضحاً أن ألمانيا مهمة للغاية في هذا الصدد، نظراً لأنها من بين الاقتصادات الأوروبية الكبرى التي لديها أقرب الروابط الاقتصادية مع الصين.

كما أن بيرت فلوسباخ، وهو خبير استثماري ألماني، غير منزعج نسبياً، فقد قال إن العديد من الشركات المصنعة الألمانية أنشأت بصمة إنتاجية كبيرة في الولايات المتحدة من شأنها أن تساعد في تعويض التعريفات الجمركية. وتشير رابطة صناعة السيارات الألمانية إلى أن التحركات الانتقامية من جانب برلين من شأنها أن تلحق الضرر بعمال صناعة السيارات الأميركيين، إذ يتم بيع نصف المركبات التي تنتجها شركات "فولكسفاغن" و"مرسيدس" و"بي إم دبليو" في الولايات المتحدة، والتي يبلغ عددها 900 ألف مركبة سنوياً. وأضاف فلوسباخ: "من المؤكد أن الأمور سوف تصبح أكثر فوضوية، لكنني لا أرى أن النزاع التجاري سوف يؤدي إلى أزمة كبرى".

انكماش النشاط التجاري في منطقة اليورو

لكن هذه التطمينات لا تبدو كافية، خاصة أن تحركات ترامب بدت وفق الخبرات السابقة مفاجئة وصادمة للحلفاء، وهو ما يضع الاقتصاد الألماني تحت ضغط كبير، ما ينعكس أيضاً على منطقة اليورو التي انكمش النشاط التجاري فيها هذا الشهر، حيث سجل مؤشر مديري المشتريات المركب الذي نشره بنك هامبورغ ومؤسسة ستاندرد آند بورز غلوبال، يوم الجمعة الماضي، 48.1 نقطة، وهو أدنى مستوى له منذ بداية العام. وتشير القراءة الأقل من 50 إلى انكماش اقتصادي. وكان من المتوقع أن ينخفض المؤشر على نحو أقل حدة، وفقاً لخبراء اقتصاد استطلعت آراءهم صحيفة وول ستريت جورنال الأميركية.

ومن الأسباب المثيرة للقلق بشكل خاص في منطقة اليورو احتمال فرض الولايات المتحدة تعريفات جمركية أعلى على الواردات. وقالت رئيسة البنك المركزي الأوروبي كريستين لاغارد، قبل يومين، إن اقتصاد منطقة اليورو المنفتح بالخصوص معرض بشدة لبيئة تجارية غير مواتية، مشيرة إلى "التهديدات المتزايدة للتجارة الحرة من جميع أنحاء العالم".

ويضاف عدم اليقين التجاري إلى الاضطرابات السياسية في أكبر عضوين في منطقة اليورو ألمانيا وفرنسا، وفي حين انهار الائتلاف الحاكم في ألمانيا، لا تزال حكومة ميشيل بارنييه الفرنسية متذبذبة وتكافح من أجل الحصول على الدعم التشريعي لميزانيتها. وقال الخبير الاقتصادي في بنك هامبورغ التجاري، سايروس دي لا روبيا، إن عدم اليقين السياسي، الذي زاد منذ انتخاب ترامب رئيساً للولايات المتحدة والإعلان عن انتخابات مبكرة في ألمانيا، يضع تحديات أمام الاقتصاد.

ويواجه اقتصاد منطقة اليورو بالأساس صعوبة في التعافي من ارتفاع أسعار الطاقة والمواد الغذائية الذي أعقب الغزو الروسي لأوكرانيا في أوائل عام 2022. وقال الخبير الاقتصادي السابق في البنك المركزي الأوروبي، والذي يعمل الآن في صندوق "بوينت 72"، سورين راد، في مذكرة، إن حالة عدم اليقين من المرجح أن تتفاقم قبل تنصيب ترامب.

المساهمون