استمع إلى الملخص
- يراهن لبنان على اتفاق مع صندوق النقد لإعادة جدولة الدين وتنفيذ إصلاحات مالية وهيكلية، مع تحديات في الالتزام بالإصلاحات واستعادة الثقة الشعبية، وهو ما يتطلب انتظام عمل المؤسسات وتحسين التصنيف الائتماني.
- يشير الخبراء إلى أن المفاوضات لا تحسّن الوضع الاجتماعي والاقتصادي مباشرة، وتتطلب إصلاحات شاملة للقطاع العام واستعادة الثقة الداخلية لتحقيق نمو مستدام.
تجد السلطات اللبنانية في عهد الرئيس جوزاف عون نفسها أمام تحديات كبرى، ومن أبرزها حل أزمة الديون المتعثرة منذ نحو أربع سنوات، لا سيما عقدة سندات اليوروبوند التي تتطلب تسوية مع المستثمرين الأجانب في الأسواق العالمية تمهيداً لاستعادة الثقة. إذ يشهد لبنان تحركات اقتصادية ومالية متسارعة في ظل محاولاته للخروج من أزمة الديون والاقتصاد العميقة التي انطلقت شرارتها عام 2019، وأدت إلى تخلفه عن سداد ديونه السيادية في عام 2020. في هذا السياق، بدأت الدولة اللبنانية خطوات جدية لإعادة الانتظام المؤسسي عبر انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة جديدة، إلى جانب إطلاق مسار التعيينات الأساسية في مراكز حساسة، ما أعاد تحريك عجلة المفاوضات مع صندوق النقد الدولي وحملة سندات اليوروبوندز.
وقد أثار اختيار حملة السندات بنك "هوليهان لوكي" مستشاراً مالياً للمفاوضات، وإقرار قوانين إصلاحية كقانون السرية المصرفية، اهتمام الأوساط الاقتصادية، وسط توقعات ببدء مرحلة جديدة من إعادة الهيكلة المالية تمهيداً لاستعادة الثقة الداخلية والخارجية. في هذا الإطار، يبرز رهان لبنان على اتفاق شامل مع الصندوق باعتباره مدخلاً أساسياً لإعادة جدولة الدين العام وضمان استدامته، بالتوازي مع تنفيذ إصلاحات مالية وهيكلية عميقة، تمهيداً للعودة إلى الأسواق المالية العالمية وتحسين التصنيف الائتماني.
غير أن هذا المسار، بحسب خبراء، لا يخلو من تحديات، سواء على مستوى الالتزام بالإصلاحات المطلوبة أو القدرة على إعادة هيكلة الدين بطريقة تحقق التوازن بين مصالح الدولة وحملة السندات، مع ضرورة التركيز على استعادة الثقة الشعبية، التي تبقى حجر الأساس لأي عملية نهوض اقتصادي مستدام.
في السياق، صرّح الخبير الاقتصادي وعضو المجلس الاقتصادي والاجتماعي أنيس أبو دياب، في حديث خاص لـ"العربي الجديد"، بأن هناك جدية من قبل الدولة اللبنانية للعودة إلى الأسواق المالية، خاصة بعد انتظام عمل مؤسسات الدولة، من انتخاب رئيس للجمهورية إلى تشكيل حكومة، والبدء بالتعيينات في مراكز حساسة كحاكم مصرف لبنان، وقائد الجيش، والقيادات الأمنية، والهيئات الناظمة.
وأشار إلى أن أدوات النجاح مرتبطة بانتظام الدولة اللبنانية وبالإصلاحات التي يجب أن تُنفذ، خصوصاً مع بدء المفاوضات مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، طبعاً إذا تمت هذه الإصلاحات بجدية في التعاطي مع الملفات. وأضاف أنه لن يكون هناك اتفاق مع صندوق النقد قبل إعادة جدولة الدين العام وضمان استدامته، وهو من أهم الشروط التي كانت ضمن الاتفاق الأولي على مستوى الموظفين الذي عُقد في إبريل/ نيسان 2022. بناءً عليه، يجب أن تتضمن خطة الإصلاح الاقتصادية إعادة جدولة الدين، لا سيما اليوروبوندز.
ولفت إلى أن تمديد فترة السماح جاء بهدف التوصل إلى بنية أو اتفاق مع صندوق النقد الدولي حول كيفية إعادة الجدولة. ولهذا يجب الاتفاق على الآلية المناسبة، وعلى ضوء ذلك، يمكن للدولة اللبنانية أن تصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي، خاصة إذا جرى الالتزام بكافة الاتفاقيات، بما فيها تطبيق القرار 1701، الذي يُعد من المتطلبات الأساسية لدخول لبنان إلى الأسواق المالية. واعتبر أبو دياب إلى أن أي اتفاق مع المؤسسات المالية الدولية وصندوق النقد الدولي سيؤدي إلى تحسين التصنيف الائتماني للبنان، خصوصاً أن لبنان اليوم في أدنى مستويات التصنيف. بالتالي، فإن إعادة الجدولة ستعيد لبنان إلى مصاف الدول غير المتعثرة أو غير الممتنعة عن السداد، إضافة إلى ضرورة إعادة هيكلة القطاع المصرفي، ومعالجة مشكلة الاقتصاد النقدي (Cash Economy) وتبييض الأموال، وهو ما سيتراجع في حال انتظام إيرادات الدولة عبر إعداد موازنة للعام 2026.
وأوضح أن المفاوضات مع حملة السندات لا تحسّن مباشرة الوضعين الاجتماعي والاقتصادي للمواطن اللبناني، بل إن كل هذه الأمور مرتبطة بانتظام عمل الدولة. فالمفاوضات هي جزء من عملية أوسع، تشمل تقديمات صحية واجتماعية تسهم في تحسين أوضاع المواطنين، مع التأكيد أن الأهم هو إعادة الودائع.
وأضاف أبو دياب أن هناك تقشفاً واضحاً في الموازنة اللبنانية، حيث يبلغ حجم الموازنة حالياً نحو خمسة مليارات دولار، بينما كان في عام 2018 نحو 17 مليار دولار، ما أدى إلى تدهور القدرة الشرائية وتراجع مستوى معيشة المواطنين. مؤكداً أن لا مجال لمزيد من التقشف، محذراً من اللجوء إلى سياسات ضريبية جديدة، لأن ذلك سيؤدي إلى انكماش اقتصادي، وهو أمر مستبعد حالياً، لأن الدولة ليست في وارد فرض ضرائب إضافية. بل على العكس، نحن بحاجة إلى زيادة الإنفاق الحكومي لتحسين القدرة الشرائية، وهذا يتطلب انتظاماً في الإيرادات، عبر وقف التهريب، وتحسين عمليات الجباية الجمركية، والاستفادة من الأملاك البحرية... ما قد ينعكس إيجاباً بدءاً من عام 2026، كما شدد على ضرورة أن تكون الموازنة القادمة أكبر بنسبة 50% مما هي عليه حالياً.
كما أكد الخبير الاقتصادي أنه لا يمكن ولا يجوز للبنان العودة إلى الأسواق المالية من دون استعادة الثقة الداخلية، التي لا تُبنى إلا بوجود دولة مؤسسات وهيبة حقيقية، وإن لم يتحقق ذلك، فلن تكون هناك أية مساعدات خارجية، خاصة على صعيد إعادة الإعمار، الذي يعد من أهم ركائز المرحلة المقبلة. ولفت إلى أن الحلول المقترحة مثل رفع السرية المصرفية، وإصلاح القطاع المصرفي، وتحقيق التوازن المالي، رغم أهميتها، تبقى غير كافية بمفردها، بل يجب أن تقترن بإصلاح شامل للقطاع العام، وإعادة توصيف الوظيفة العامة، وهو ما يتطلب وقتاً طويلاً ومرحلة انتقالية جادة، وأكد أن ما يحصل حالياً يضع لبنان على السكة الصحيحة، ولكن النتائج النهائية بانتظار الأيام المقبلة.
وتابع قائلاً إنه شخصياً يأمل قيام دولة حقيقية، معبراً عن تفاؤله النسبي بالسلطة القائمة حالياً. كما تمنى أن تُجرى انتخابات نيابية في عام 2026، مشدداً على أهمية الاستحقاق البلدي الجاري هذه الأيام في لبنان، إذ إن الانتخابات البلدية تمثل أصغر وحدة اقتصادية-اجتماعية في الدولة، ومن دونها لا يمكن تحقيق نمو مستدام. وأكد أن الحلول تكمن أيضاً في التطبيق الفعلي لاتفاق الطائف والانتقال إلى اللامركزية الإدارية، وهو ما يتطلب انخراطاً كبيراً من المجتمع، لا سيما من فئة الشباب، في العمل البلدي.
من جانبه، صرّح الإعلامي والباحث الاقتصادي منير يونس، في حديث خاص لـ"العربي الجديد"، بأن تعيين مستشار مالي لحملة السندات هو إجراء طبيعي، إذ يُفترض دائماً وجود مستشارين ماليين، خاصة أن ممثلي البنك زاروا لبنان وأجروا عدة لقاءات. وأوضح أن البحث الجدي في إعادة هيكلة سندات اليوروبوندز لا يزال بعيدًا نسبياً، وهم بانتظار صدور قانون الفجوة المالية الذي يوزّع الخسائر ويُظهر مدى قدرة الدولة على تحمّل أعباء الودائع، مشيراً إلى أن هذه المسألة تهمّ حملة السندات بشدة، إذ إن حقوقهم تسبق حقوق المودعين وفقًا لبنود إصدارات السندات، خصوصاً إذا اعتبرت الدولة أن الودائع دين عليها.
وفي ما يتعلق بالتفاوض مع حاملي السندات، أشار يونس إلى أن وزير المالية ياسين جابر صرّح بأن هذا التفاوض سيحصل في غضون عام، لأن هناك خطوة أساسية تسبقه، وهي التوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي وبدء تنفيذ بعض الشروط، خاصة تلك المتعلقة بالقطاع المصرفي والودائع. وأكد أنه بعد الاتفاق النهائي مع الصندوق، يمكن للبنان أن يبدأ التفاوض مع حملة سندات اليوروبوندز من موقع أقوى، موضحاً أن ارتفاع أسعار السندات حالياً يعود إلى الرهان على قدرة لبنان على تسديد نسبة من هذه السندات تتراوح بين 15% و30%، إضافة إلى عمليات المضاربة لتحقيق أرباح سريعة.
خيارات حاملي سندات الديون اللبنانية
يبدو أن حملة السندات لا يملكون إلا خيار رفع الدعاوى القضائية، ولكنهم حتى الآن لم يسلكوا هذا المسار، مما يرجّح استمرارهم في الانتظار، خصوصاً أن سندات لبنان لا تشكل وزناً كبيراً في السوق العالمية، ما يمنحهم مرونة زمنية. ولفت إلى أن "الهيركات" المتوقعة على السندات قد تتراوح بين 60% و80%، مع احتمال أن يدفع لبنان ما بين 20% و40% من قيمتها.
وفي هذا الصدد، يؤكد يونس لـ"العربي الجديد" أن الحكومة اللبنانية لا يمكنها استخدام عامل الوقت ورقة ضغط ضد حملة السندات، بل تسعى للوصول إلى اتفاق مع صندوق النقد كشرط أساسي لإعادة التفاوض مع حاملي السندات، واستعادة القدرة على الاقتراض من الأسواق المالية العالمية. وأضاف أن المصارف اللبنانية تحمل حوالي 10 مليارات دولار من سندات اليوروبوندز بالقيمة الاسمية من أصل 31.7 مليار دولار، وقد أخذت مخصصات تتراوح بين 75% و85% منها، مما يجعلها مستعدة لتحمّل "هيركات" كبير عند التفاوض. وأشار يونس إلى أن الحكومة اللبنانية لا تستطيع أن تمنع حملة السندات من رفع دعاوى قضائية، ولكن احتمالية أن يتمكن هؤلاء من وضع اليد على أصول الدولة اللبنانية في الخارج ضئيلة جداً.