عندما تعتبر الدول التفريط في أصولها الاستراتيجية "خيانة"

05 يناير 2025
إدارة بايدن تدافع عن قطاع الصلب الأميركي/geety
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- رفض الرئيس الأمريكي جو بايدن صفقة استحواذ نيبون ستيل اليابانية على يونايتد ستيتس ستيل الأمريكية، مشيرًا إلى تهديدها للأمن القومي وأهمية بقاء صناعة الصلب تحت إدارة أمريكية.
- حظي القرار بتأييد واسع من لجنة الاستثمار الأجنبي ونقابات العمال والسياسيين، مما يعكس القلق من تأثير الصفقة على الوظائف وملكية الأصول الاستراتيجية.
- يعكس الرفض توجهاً عالمياً لحماية الأصول الاستراتيجية من الاستحواذات الأجنبية، كما يظهر في سياسات بريطانيا وفرنسا وكندا وألمانيا، بينما تواجه بعض الدول العربية تحديات مشابهة.

هناك دول باتت تعتبر أن التفريط في أصولها الاستراتيجية والحيوية هو تهديد مباشر للأمن القومي، بل "خيانة" بحق الدولة والاقتصاد والمواطن لتداعياته الخطيرة على الجميع، أحدث مثال على ذلك رفض الرئيس الأميركي جو بايدن، يوم الجمعة الماضي، صفقة شراء شركة نيبون ستيل Nippon Steel اليابانية نظيرتها الأميركية، شركة يونايتد ستيتس ستيل United States Steel وبشكل رسمي، واضعاً حداً للصفقة التي أثارت مخاوف وقلق الأميركيين من سيطرة الأجانب على أصول استراتيجية وحيوية داخل بلادهم، وتغلغل الأموال الخارجية في شرايين صناعات حيوية بالولايات المتحدة.

اعتبر بايدن وبشكل مباشر أن الصفقة تشكل خطراً على الأمن القومي الأميركي، وأن صناعة الصلب القوية التي يملكها ويديرها أميركيون تمثل أولوية أساسية للأمن القومي، وهي ضرورية لمرونة سلاسل التوريد، بل اعتبر أنه "من دون إنتاج الصلب المحلي وعمال الصلب المحليين، تصبح أمتنا أقل قوة وأقل أماناً".

موقف بايدن معلن وتكرر مرات عدة على مدى أكثر من عام حينما قال إنه يريد أن تكون ملكية وإدارة شركة يو. إس ستيل US Steel في أيد أميركية وليس تحت سيطرة شركة أجنبية حتى وإن كانت من دولة حليفة للولايات المتحدة.

موقف الرئيس المنتخب دونالد ترامب ونائبه جي دي فانس لم يختلف كثيراً عن موقف بايدن؛ حيث تعهد ترامب بمنع استحواذ طرف أجنبي على الشركة الأميركية العريقة والتي تعد ثاني أكبر شركة منتجة للصلب في الولايات المتحدة، بعد توليه منصبه في 20 يناير/كانون الثاني.

الدول الغربية تحافظ على أصولها من شركات وأراضٍ وغيرها رغم أنها تتزعم مدرسة الرأسمالية والاقتصاد الحر في العالم

أجهزة الدولة ساندت بايدن وبقوة في قرار الرفض للصفقة الضخمة والعرض المغري، فقد قدمت لجنة الاستثمار الأجنبي الحكومية التي راجعت بنود الصفقة على مدى عام كامل للتحقق من عدم وجود مخاطر تتعلق بالأمن القومي، رسالة من 29 صفحة للبيت الأبيض تحدثت فيها عن مخاطر أمنية وطنية غير محسومة للصفقة، مما مهد الطريق أمام بايدن، المعروف بمعارضته الطويلة للصفقة، لاتخاذ قرار برفضها.

كما عارض عرض الاستحواذ الياباني رئيس نقابة عمال الصلب الأميركية، ديفيد ماكول. وكذا اتحاد عمال الصلب الأميركي "يو إس دبليو" (USW)، وهو من أقوى النقابات العمالية في الولايات المتحدة، الذي عارض الصفقة بشدة، لأنها قد تُعرّض الوظائف المحلية للخطر. كما واجهت الصفقة انتقادات حادة من سياسيين أميركيين حرصوا على إبقاء ملكية شركة الصلب محلية. ومن أبرز هؤلاء نائبة الرئيس الأميركي ومرشحة الحزب الديمقراطي في الانتخابات الرئاسية كامالا هاريس.

هناك إذاً إجماع أميركي على رفض صفقة استحوذ شركة حديد يابانية على عملاق الصلب الأميركي، ومالت الحكومة للرأي العام، ولذا لم تروج حكومة بايدن للصفقة التي أثارت عاصفة سياسية وتوترات بين الولايات المتحدة واليابان، بل عارضتها بشدة رغم التحالف والعلاقة القوية بين البلدين.

ولم يخضع بايدن للضغوط التي مارستها الحكومة اليابانية لتمرير الصفقة، ولم يطلق مزاعم بأنها دليل على نجاح حكومته في جذب استثمارات أجنبية ضخمة والترويج للدولة في الخارج، ودليل ثقة على متانة الاقتصاد الأميركي.

ولم يخدع المواطن الأميركي بقوله إن قيمة الصفقة تعد الأعلى في تاريخ الاستحواذات على شركات أميركية حيث تبلغ قيمتها 14.9 مليار دولار، بل خرج في بيان رسمي قائلاً: "ستظل يو. إس ستيل شركة أميركية رائدة، وستبقى مملوكة لأميركا، وتديرها الولايات المتحدة، من قبل عمال أميركيين نقابيين، وستظل الأفضل في العالم".

ولم يخرج علينا الإعلام الأميركي ليؤكد أن رفض الصفقة يهز العلاقات المتينة بين واشنطن وطوكيو، خاصة أن اليابان حليف رئيسي للولايات المتحدة في منطقة المحيطين الهندي والهادي، وأن الرفض يهدد مناخ الاستثمار والاستثمارات الأجنبية، حيث إن اليابان هي المستثمر الأكبر في الولايات المتحدة.

تفرط حكومات في أصول الدولة من شركات ومصانع وأراضٍ وجزر، وتبيعها للأجانب من دون أن تدرك حجم الخطر الشديد الذي يواجه الدولة واقتصادها

الكل تكاتف خلف بايدن في رفض صفقة اليابان شراء واحد من أبرز الأصول الأميركية، البيت الأبيض والحكومة، أحزاب مؤيدة ومعارضة، اتحادات العمال، النقابات المهنية، الإعلام، الأجهزة المسؤولة في الدولة.

كان صوت الجميع مجمعاً على أن الصفقة تمثل تهديدا للأمن القومي الأميركي رغم ضغوط اليابان الشديدة لإنجازها، من حكومة برئاسة شيغيرو إيشيبا، وشركات وقطاع أعمال ولوبي المستثمرين اليابانيين داخل الولايات المتحدة، بل وتلويح حكومة طوكيو أكثر من مرة بأن رفض الصفقة يقوض التعاون السياسي والاقتصادي بين البلدين.

ليست هذه هي المرة الأولى التي ترفض فيها الحكومة الأميركية صفقات استحواذ من أجانب على أصول مهمة من أصول الدولة، فقد سبق أن رفضت عروض صينية وأجنبية أخرى مغرية. وفي عام 2017، اعترضت لجنة حكومية أميركية سرا على 10 استحواذات من مشترين أجانب، أغلبهم من الصين، لشركات أميركية.

يتكرر الموقف في دول رأسمالية كبرى؛ فقد رفضت بورصة لندن عرض استحواذ عليها من قبل بورصة هونغ كونغ بقيمة 39 مليار دولار في عام 2019. وتكرر الحال في فرنسا وكندا وألمانيا والتي ترفض من وقت لأخر عروض شراء أجنبية مغرية لأصولها.

الدول الغربية تحافظ على أصولها من شركات وأراضٍ وغيرها رغم أنها تتزعم مدرسة الرأسمالية والاقتصاد الحر في العالم. وفي المقابل، تفرط حكومات المنطقة في أصول الدولة من شركات ومصانع وأراضٍ وجزر، وتبيعها للمستثمرين الأجانب من دون أن تدرك حجم الخطر الشديد الذي يواجه الدولة واقتصادها وموازنتها العامة من تلك القرارات الخطيرة، وأن الدولة تفقد يوماً بعد يوم أصولاً مهمة وحيوية، وتتيح للأجانب بسياساتها الخاطئة السيطرة عليها واحتكار الخدمات. وما يحدث في مصر الآن من معركة ساخنة بين ثلاث نقابات مصرية وشركات إماراتية باتت تحتكر خدمات القطاع الطبي والتحاليل، هو أكبر دليل على ذلك.

المساهمون