عقد على ثورة 25 يناير: عودة إلى نقطة الصفر معيشياً

عقد على ثورة 25 يناير: عودة إلى نقطة الصفر معيشياً

24 يناير 2021
المطالب المعيشية للثورة لم يتحقق منها شيء (Getty)
+ الخط -

كان هتافهم يسمع البلدة بأكملها، ويمتد صداه شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا، ليخبر عمال كل مصنع على أرض مصر، أنه لا يضيع حق وراءه مطالب. فعندما انطلقت الهتافات الأولى لعمال شركة الغزل والنسيج في المحلة الكبرى "غزل المحلة" قبل نحو 13 عامًا، اهتز النظام السياسي، وانتشرت الاحتجاجات على سوء الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، ومُهد الطريق للثورة.

"سامع صوت المكن الداير.. بيقول بسّ كفاية مذلة.. نفس الصوت اللي في حلوان.. بيقول شدي الحيل يا محلة"، واحد من أشهر هتافات الطبقة العاملة المصرية، لطالما ردده عمال ونقابيون وناشطون في وقفات احتجاجية واعتصامات وإضرابات قبل أعوام من اندلاع ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، بعدما خرج للمرة الأولى يوم السادس من إبريل/نيسان عام 2008 من داخل مصنع غزل المحلة في مدينة المحلة الكبرى بدلتا مصر.

ضد الفقر والجوع والخصخصة
الاحتجاجات العمالية بدأت قبل اندلاع الثورة بأعوام، لتكون بمثابة شرارة الانتفاضة الأولى، بعد ارتفاع معدلات الفقر وعدم المساواة والبطالة وتفشي الفساد ووحشية الشرطة ونقص الحقوق المدنية والسياسية. حيث كانت مصر تفتقر إلى التوزيع العادل للثروات، حسب تقرير صادر عن منظمة العفو الدولية عام 2011، أشار إلى أنه في عام 2009، كان حوالي 32 مليون نسمة، من مجموع المصريين البالغ عددهم نحو 80 مليون نسمة، يعيشون على خط الفقر أو أدنى منه، وآنذاك كان خط الفقر محددا دوليًا بدولارين اثنين يوميًا، حيث يعتمد غالبيتهم على ما تقدمه الدولة من دعم الزيت والخبز.

اقتصاد عربي
التحديثات الحية

وكان من شأن برامج الخصخصة الحكومية، حسب التقرير نفسه الذي لفت إلى فقد مئات الآلاف من العمال السابقين في الشركات المملوكة للدولة، أن يجردهم من بقية حوافزهم والمزايا التي يحصلون عليها تحت وطأة غول التضخم.
وكانت معدلات البطالة في تزايد مستمر، حيث إن أعداد الشباب الداخلين إلى سوق العمل، ومنهم خريجو الجامعات، يفوق بشكل كبير عدد الوظائف التي يتم توليدها. أما الزيادات السريعة في أسعار السلع الغذائية، خاصة في عام 2008، فأثرت بشدة على المصريين، خاصة الفقراء منهم، وذلك مع الوضع في الاعتبار أن نسبة كبيرة من دخولهم تخصص للطعام.
لذا كانت الاحتجاجات العمالية، الوسيلة الرئيسية للتعبير عن تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.

وبالفعل خلال عام 2009، رصد المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية- منظمة مجتمع مدني مصرية- تنظيم حوالي 478 احتجاجًا عماليًا، وتعرّض حوالي 126 ألف عامل لفقد وظائفهم خلال عام 2009، كذلك إقدام 58 عاملا على الانتحار، لعدم ملاءمة دخولهم مع احتياجات أسرهم.

كما أشارت تقارير صادرة عن منظمتي العمل العربية والدولية، عام 2009، إلى أن ما يقرب من 22 مليون عامل في مصر يعانون من تدن في المعيشة، وتدهور في علاقات العمل، ثم جاءت الأزمة المالية العالمية، لترفع من المعاناة اليومية للعامل المصري.
الثورة ومعضلة عجلة الإنتاج
ثم مع اندلاع ثورة الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني 2011، حدث انفجار للحركات الاحتجاجية وانتقلت عدوى الاحتجاجات إلى كافة الفئات العامة في المجتمع المصري، لذا كان المصطلح الأقرب هو وصفها "احتجاجات شعبية"، لكنه تحوّل فيما بعد إلى مصطلح "احتجاجات فئوية"، للتقليل من شأنها ومحاولة إظهار النظام العسكري الحاكم آنذاك، أنها مطالب فئة محدودة ضيقة، تُعطل عجلة الإنتاج بالكامل.

مصطلح "الاحتجاجات الفئوية"، استخدمته السلطات المصرية والإعلام المحلي لإضافة دلالة سلبية عليها وعلى من يرفعونها، ولتحريض باقي الفئات ضدهم، وذلك من خلال الربط بين المطالب الفئوية، بتهديد الاستقرار وتعطيل عجلة الإنتاج.

فالحركات العمالية بدأت في تنظيم إضرابات واحتجاجات إسقاط مبارك، ووصل الأمر إلي زيادة عدد احتجاجات الحركة العمالية من 20 احتجاجا يوم 7 فبراير/شباط 2011 إلى 65 احتجاجًا يوميًا في 11 من نفس الشهر، أي بعد أربعة أيام فقط، حسب تقارير حقوقية.

وبعد حوالي شهر من خلع الرئيس المصري حسني مبارك في 11 فبراير/شباط 2011، أصدرت القيادة العامة للقوات المسلحة التي تولت مقاليد الحكم، بيانًا في مارس/آذار من نفس العام، بيانًا اعتبرت فيه أن "المطالب الفئوية، غير شرعية"، وتعهدت بمواجهة المخلّين بالأمن بالطرق القانونية.

كما أقرت حكومة رئيس الوزراء المصري آنذاك، عصام شرف، قانونًا يمنع التظاهرات والتجمعات والإضرابات التي تعيق عمل الشركات الخاصة والعامة، يعاقَب مرتكبوه بالسجن لمدة تصل إلى سنة وبغرامة مالية تناهز نصف مليون جنيه مصري.
رجال الأعمال يهددون بالإضرابات
بعد أن تولى الرئيس الراحل محمد مرسي، رئاسة الجمهورية في يونيو/حزيران 2012، حدثت تغيرات كبيرة على الساحة العمالية المصرية، الملمح الأبرز لهذه التغيرات، أنه لم يعد العمال وحدهم هم من يلوحوّن بالإضرابات للضغط على الحكومة لتنفيذ مطالبهم؛ بل إن رجال الأعمال أنفسهم باتوا يستخدمون آلية الترهيب تلك لمحاربة أول رئيس مدني منتخب.
ولا يمكن أن يسقط من ذاكرة الثورة ولا الصحافة، الإعلان الذي نشره رجل الأعمال المصري، محمد أبو العينين، صاحب مجموعة مصانع سيراميك شهيرة، في واحدة من أكبر الصحف القومية (الحكومية) في مصر، وهو الإعلان الذي هنأ من خلاله الرئيس مرسي بتولي الحكم، وتضمن تهديدًا مبطنًا، بكتابة "25 ألف عامل في سيراميكا كليوباترا يهنئون الرئيس"، وكأنه يلوح بقدرته على التحكم سياسيًا من خلال عدد العمال الضخم في مصنع واحد فقط لديه.

هذا التهديد المبطن كشفت عنه الأرقام المرصودة على أرض الواقع لعدد الاحتجاجات العمالية عام 2013 مقارنة بعام سابق وعام لاحق.
ففي عام 2012، خرج حوالي 1969 احتجاجًا، ثم ارتفع عدد الاحتجاجات ليتخطى 2239 احتجاجًا في عام 2013، في معدلات غير مسبوقة في تاريخ مصر، لينخفض مرة أخرى إلى 1655 احتجاجا في عام 2014 بعد الإطاحة بالرئيس مرسي في انقلاب عسكري، طبقًا للأرقام الصادرة عن المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية. ثم في 2015، رصد مؤشر الديمقراطية التابع للشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان -منظمة مجتمع مدني مصرية- تنظيم 1117 احتجاجًا، وفصل أكثر من 1300 عامل، وتداول 15 ألف قضية عمالية في المحاكم.
ثم شهد عام 2016، صعودًا محدودًا في الاحتجاجات، حيث شهد 1736 احتجاجًا، وكانت الاحتجاجات العمالية هي أكثرها عددًا حيث بلغت 726 احتجاجًا، حسب المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
وفي عام 2017، أصدرت الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان، تقريرًا شاملًا عن الاحتجاجات العمالية والاجتماعية خلال عام 2017، أطلقت عليه "غضب مكتوم"، رصدت من خلاله نحو 505 احتجاجات عمالية واجتماعية، وقالت إنه على الرغم من انخفاض معدل الاحتجاجات في الشارع المصري، إلا أن هذا لا يرجع إلى تحسّن أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية، بل لـ"التعتيم الإعلامي وتغييب الأخبار التي تتناول الحراك العمالي والاجتماعي في مصر، ما يوضح الحدة التي واجهت بها السلطة الاحتجاجات والمحتجين، عبر الفض بالقوة والقنابل المسيلة للدموع، والقبض على قيادات المحتجين والزج بهم في السجون، ومحاكمتهم، كذلك تعرّض العمال في الكثير من المواقع للاضطهاد والفصل التعسفي من العمل كعقاب لهم على ممارسة الاحتجاج".
ثم في عام 2018، خرجت الشبكة العربية بتقريرها الرصدي السنوي للاحتجاجات، تحت عنوان "غضب متصاعد.. القادم أخطر"، رصدت من خلاله أشكال احتجاجات عمالية اجتماعية متزايدة مثل الانتحار لأسباب اقتصادية، واتجاه بوصلة القمع نحو التيارات المدنية والعلمانية: يسار، قوميين، ليبراليين، مجموعات علمانية غير مسيسة. وذلك بعدما رصدت 588 احتجاجًا عماليًا واجتماعيًا خلال عام 2018.
بينما شهد عام 2019 الذي خرجت فيه احتجاجات سياسية عارمة، 193 احتجاجًا عماليًا فقط. والوضع نفسه مع عام 2020، الذي شهد احتجاجات سياسية وعمالية محدودة، إثر انتشار جائحة فيروس كورونا الجديد "كوفيد-19" في العالم كله.
عودة إلى نقطة الصفر
صحيح أن وتيرة الاحتجاجات قلت تدريجيًا عن السنوات الماضية، نتيجة القبضة الأمنية الشرسة التي أحكمها النظام المصري على كافة مناحي الحياة، حسب التقارير الحقوقية التي رصدت هذه التحركات عامًا تلو الآخر، إلا أن هذا التراجع لا يعني أبدًا تحسنا في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، بل العكس تمامًا، فالوضع أسوأ، لكن الصمت حتمي.

فقد أدت جائحة كورونا إلى زيادات كبيرة في معدلات الفقر والجوع، وتدهور مستويات المعيشة لدى الأغلبية العظمى من السكان، في ظل تخوف عالمي من تفشي البطالة وتعميق فقر العمال في العالم، نتيجة انتشار هذا الوباء.

وتوصل تقرير لمنظمة العمل الدولية في ديسمبر/كانون الأول 2020، إلى أن جائحة كوفيد-19 أدت إلى انخفاض الأجور الشهرية أو ازديادها ببطء أكبر خلال الأشهر الستة الأولى من عام 2020 في ثلثي البلدان التي توفرت فيها معلومات رسمية، مرجحاً أن تفرض الأزمة ضغطاً هائلاً باتجاه انخفاض الأجور في المستقبل القريب.
لكن بعيدًا عن الجائحة، فإن الأرقام كافية للتعبير عن أوضاع العمال في مصر بعد 10 سنوات على اندلاع الثورة، فهناك أرقام تقديرية صادرة عن منظمات وهيئات بعضها حكومية، تشير إلى أن هناك أكثر من 8 آلاف مصنع مغلق، حسبما أعلنت لجنة الصناعة في مجلس النواب المصري، بينما يقل العدد كثيرًا لدى البيانات التي سجلتها وزارة التجارة والصناعة المصرية، إلى نحو 870 مصنعًا فقط.
إلا أن المؤشرات الصادرة عن دار الخدمات النقابية والعمالية -منظمة مجتمع مدني مصرية- تطرقت إلى أن عدد المصانع والشركات التي أغلقت أبوابها تجاوز أكثر من 4500 مصنع في 74 منطقة صناعية منتشرة في جميع المحافظات المصرية، وذلك من خلال المسح الميداني الذي تقوم به الفرق العمالية من نشطاء مؤتمر عمال مصر الديمقراطي ودار الخدمات النقابية والعمالية، ما أسفر عن تسريح مئات الآلاف من العمال في هذه المناطق الصناعية. وطبقًا للأرقام الرسمية الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء لعام 2017، فإنه من أصل 1.8 مليون منشأة عمل في محافظات الصعيد من الجيزة إلى الأقصر، يوجد أكثر من ربع مليون منشأة مغلقة نهائيا، والرقم تحديدًا هو 266.1 ألف منشأة مغلقة.
هكذا وبعد 10 سنوات، بات الأنين مكتوماً، ومحركات المصانع متوقفة عن الدوران، والفقر مدقعاً. والأمل باق في رفع شعار الثورة مجددًا "عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية".

المساهمون