سوق سوداء للدواء في غزة يفاقمها الاجتياح... حصار واحتكار

19 سبتمبر 2025   |  آخر تحديث: 03:33 (توقيت القدس)
صيدلي يبيع أدوية على الرصيف في أحد أسواق غزة، 27 مايو 2024 (عبد الرحيم الخطيب/الأناضول)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- تشهد أسواق الأدوية في غزة أزمة حادة بسبب الحصار والاجتياح الإسرائيلي، مما أدى إلى ارتفاع الأسعار وفقدان أدوية حيوية، وظهور سوق سوداء يتلاعب فيها التجار بالأسعار.
- يعاني المرضى من نقص الأدوية الأساسية، مما يؤثر على صحتهم النفسية والجسدية، حيث يضطرون لتحمل الألم أو تقليص الجرعات، مما يزيد من معاناتهم ويعرضهم لمضاعفات صحية خطيرة.
- تعود الأزمة إلى إغلاق المعابر وارتفاع الاحتكار، مما يفاقم الأعباء المالية على الأسر ويعرض المرضى لمخاطر صحية، مما يستدعي تدخلاً عاجلاً لتأمين الأدوية وتشديد الرقابة.

تشهد أسواق الأدوية في قطاع غزة أزمة غير مسبوقة تمثلت في الارتفاع الكبير لأسعار الأصناف الدوائية المتوفرة، إلى جانب فقدان أنواع أساسية وحيوية يحتاجها المرضى.

هذه الأزمة تعمّقت نتيجة الاجتياح الإسرائيلي البري لمدينة غزة وتشديد الحصار وإغلاق المعابر وما رافقها من انهيار اقتصادي شامل انعكس على القطاع الصحي بشكل مباشر.

ولا يقتصر الأمر على ندرة الدواء فحسب، بل يمتد إلى وجود سوق سوداء يتلاعب فيها بعض التجار والمحتكرين بالأسعار، مستغلين حاجة المرضى الماسة في ظل غياب الرقابة أو البدائل العلاجية، لتكون النتيجة أن كثيرا من الأسر باتت عاجزة عن شراء أدويتها أو تضطر لتقليص الجرعات بشكل خطير.

وأمام هذا المشهد المأساوي، تتعدد أصوات المتضررين من الأزمة بين المرضى وكبار السن والجرحى، وصولاً إلى الصيادلة والعاملين في شركات الأدوية، جميعهم يتفقون على أنّ الوضع وصل إلى مرحلة حرجة تستدعي تدخلاً عاجلاً لتأمين حياة الناس وصحتهم.

معاناة يومية في غزة

تُعاني المسنة الفلسطينية شفاء صلاح (67 عاماً) منذ سنوات من مرض ضغط الدم المزمن، وكانت تعتمد على دواء محدد لتثبيت حالتها الصحية، إلا أنها حالياً تجد نفسها محرومة من الدواء الذي أصبح مفقوداً من الصيدليات. تقول لـ"العربي الجديد": "كل حياتي مرتبطة بهذه الحبوب الصغيرة، أتناولها يوميا لأتمكن من النوم والأكل والعيش بسلام، منذ أسابيع وأنا أبحث عنها دون جدوى".

وتوضح أن محاولاتها للحصول على بدائل لم تنجح، فإما أن الدواء غير متوفر أصلاً، أو أن ثمنه تضاعف بشكل يفوق قدرتها المادية، في وقت تعيش على المساعدات القليلة: "أحيانا أقطع جرعة أو أتناول نصف الحبة حتى أؤخر نفاد ما تبقى عندي، لكن صحتي تتدهور وأشعر بالدوخة والصداع بشكل دائم". وتقول إنّ غياب الدواء جعلها تعيش في قلق دائم، إذ باتت تخشى من مضاعفات خطيرة قد تودي بحياتها: "الدواء بالنسبة لنا ليس رفاهية بل حياة أو موت، لا أعرف كيف يمكن للإنسان أن يصمد بلا دواء وهو يعاني من مرض مزمن".
ويروي الجريح أحمد المدهون (34 عاماً) وهو يعاني من إصابة شديدة بقدمه اليسرى، معاناته مع فقدان المسكنات الضرورية، قائلاً: "أعيش كل يوم مع ألم لا يحتمل، كنت أتناول مسكنات قوية تساعدني على النوم، لكن منذ فترة طويلة لم أجدها في الصيدليات". يضيف لـ"العربي الجديد": "غياب الأدوية المسكنة جعلني أضطر لتحمل أوجاعي لساعات طويلة، مما يؤثر على قدرتي على الحركة وحتى على حالتي النفسية، الألم المستمر يمنعني من ممارسة حياتي الطبيعية، لا أستطيع السير أو العمل أو حتى النوم بشكل منتظم". ويلفت إلى أن أزمة نقص الأدوية لا تمثل مجرد صعوبة صحية، بل هي مأساة إنسانية حقيقية خصوصا للجرحى الذين يحتاجون إلى علاجات ومسكنات بشكل عاجل ويومي، معتبرا أن غياب هذه الأدوية يضاعف من معاناتهم ويجعلهم أسرى الألم.

أسباب وراء الأزمة

يصف صاحب صيدلية في مخيم النصيرات وسط القطاع، أسامة مؤنس، سوق الأدوية حالياً بأنه "شديد التعقيد"، موضحاً أن ارتفاع أسعار الأدوية سببه الرئيسي منع الاحتلال إدخال كميات كافية، فضلاً عن التكاليف الباهظة للتنسيق على الشاحنات وتأمينها حتى تصل للمستودعات.
ويقول مؤنس لـ"العربي الجديد": "المشكلة لا تتوقف عند الأسعار المرتفعة فقط، بل إن كثيرا من الأصناف الحيوية مفقودة تماما مثل المسكنات والمضادات الحيوية والتي يزداد الطلب عليها بسبب الإصابات المتكررة، كما أن ضيق الحال المادي يدفع المرضى إلى شراء كميات قليلة من الدواء لا تكفي الوصفة الطبية". ويلفت مؤنس إلى أن الصيدليات تواجه أزمة إضافية في طرق الدفع، فبعضها يبيع نقدا فقط، وأخرى إلكترونيا، وأحياناً يكون سعر الدفع الإلكتروني أعلى قليلاً بسبب عمولات التحويل، كما أن أزمة السيولة النقدية وتلف العملات الصغيرة تزيد من تعقيد الوضع، لتصبح معاناة الدواء مزدوجة بين الندرة والغلاء.
بدوره، يؤكد المدير المالي في إحدى شركات الأدوية بمدينة غزة، محمود العجل، أنّ الأسباب الرئيسية وراء أزمة الدواء تعود إلى إغلاق المعابر والحصار الشامل والنقص الحاد في الأدوية والمستلزمات الطبية إضافة إلى انهيار الاقتصاد وارتفاع معدلات الاحتكار وانتشار السوق السوداء.

يقول العجل في حديث لـ"العربي الجديد" إن هناك شحا كبيرا بالأدوية يصل إلى 37% من الأصناف الأساسية، خصوصًا الأدوية الحساسة مثل المسكنات القوية والمضادات الحيوية وبعض علاجات السرطان وحتى أدوية الرعاية الأولية، أما المستلزمات الطبية فقد نفد منها نحو 59% بالكامل، ما يفاقم الأزمة.
وحول السوق السوداء، يوضح العجل أن من يبيع الأدوية فيها غالباً تجار غير مرخصين يشترون كميات كبيرة ويخزنونها ثم يعيدون بيعها بأسعار أعلى وأحياناً بعض الصيدليات أو الوسطاء يشاركون في هذه الممارسات أو تُسرب بعض التبرعات والمعونات الطبية بعيدا عن مسارها الطبيعي. ويشير إلى أن شركات الأدوية نفسها تتضرر من هذه الفوضى، حيث يخسر المواطنون الثقة بالشركات نتيجة اختلاف الأسعار وتنخفض المبيعات الرسمية بسبب توجه الناس للشراء من السوق السوداء، كما أن انتشار الغش الدوائي يضر بسمعة الشركات ويفشل آليات التسعير الرسمية.
أما على مستوى المجتمع، فأوضح العجل أن غياب العدالة في الأسعار يفاقم الأعباء المالية على الأسر ويعرّض المرضى لمخاطر صحية خطيرة جراء استخدام أدوية مجهولة المصدر أو منتهية الصلاحية. ويوضح أن السبب الرئيسي في اختلاف أسلوب الدفع في الصيدليات، هو شح السيولة النقدية، "حيث تضطر بعض الصيدليات لإجبار الزبائن على الدفع نقدا لتسديد التزاماتها مع المستودعات، بينما تلجأ أخرى للدفع الإلكتروني لتسهيل التعامل مع الزبائن مع تفاوت في الأسعار نتيجة عمولات التحويل. ويلفت إلى أنّ "النتيجة الحتمية لهذه الأزمة هي تعميق معاناة المرضى والأسر في غزة" مطالباً بضرورة إيجاد حلول عاجلة على مستوى إدخال الأدوية وتشديد الرقابة على السوق السوداء وتوفير بدائل دفع مرنة تخفف من أعباء المواطنين.

المساهمون