سمير رضوان: ضغوط الديون تخرج مصر من إدارة شؤون المنطقة

12 يونيو 2025   |  آخر تحديث: 05:42 (توقيت القدس)
وزير المالية المصري الأسبق سمير رضوان، خلال المقابلة (عيد خليل/العربي الجديد)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- يوضح سمير رضوان أن مصر تواجه أزمة اقتصادية بسبب تكرار السياسات نفسها، مما أدى إلى تراكم الديون وتدهور مستوى المعيشة. يشير إلى أن التركيز على البنية التحتية دون التعليم والصحة يعيق النمو الحقيقي.

- يشدد رضوان على ضرورة تغيير المسار الاقتصادي بالتركيز على التصنيع والتصدير واستثمار رأس المال البشري، وينتقد الاعتماد على الاقتراض لتمويل مشروعات كبرى دون دراسة الأولويات.

- يرى رضوان أن السياسات الحالية تفتقر إلى الشفافية، مما يضعف الثقة في القرارات الحكومية، ويقترح رؤية واضحة لجذب الاستثمارات وتوظيف الكفاءات الوطنية لتحقيق التنمية المستدامة.

يبشر وزير المالية المصري الأسبق والخبير بالمعهد القومي للتخطيط الحكومي حالياً، سمير رضوان، بحلول بديلة تخرج مصر من حالة الفوضى والارتباك الاقتصادي الذي تكابده منذ سنوات.

ويشدد وزير المالية المصري الأسبق في مقابلة مع "العربي الجديد" على أن كثرة الديون والأزمة الاقتصادية تدفع أميركا إلى إبعاد القاهرة عن المشهد في إدارة المنطقة.

وفيما يلي نص الحوار:

- تمر مصر بأزمة اقتصادية عميقة خلال عقد كامل، تزداد خطورة سنوياً، فما تحليلك للسياسات التي أدت إلى هذا الحال؟

القضية لا تحتاج كثيراً من الشرح. ببساطة، إن واصلت السير في الطريق نفسه، فسينتهي بك كل مرة إلى النقطة نفسها. وهذا ليس كلامي، بل ما قاله عالم الفيزياء الشهير ألبرت أينشتين منذ قرن: "من الجنون أن تكرر الفعل نفسه، وتتوقع نتيجة مختلفة". والمشكلة التي تواجه مصر أن الحكومات تكرر السياسات نفسها، ونستغرب ما نحصده من الأزمات نفسها.
وهذا تكرر في السنوات العشر الأخيرة، بعد استبعاد نظام جماعة الإخوان المسلمين من المشهد، واستقرت الحالة السياسية، وبدأ الحديث عن "جمهورية جديدة" الكلمة كانت براقة، وذكرتنا بما قاله الجنرال شارل دي غول بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، الذي أراد أن يكافئ شعبه الذي ضحى بحياة الملايين والثروات الهائلة في معركة التحرر من النازية، فإذا به يعلن "الجمهورية الثانية" ليعد الشعب بأن تكون دولة الرفاة الاجتماعي، التي توفر للمواطنين السكن والتعليم والخدمات الصحية والأجور الجيدة، ولكن نحن بعد عشر سنوات من "الجمهورية الجديدة، لا حصلنا على هذا، ولا أسسنا عليه".

- لماذا نجد تناقضاً بين بيانات تظهر فائضاً بالموازنة العامة، وحالة وردية عن مستقبل الاقتصاد، وواقع صعب يؤرق حياة الناس؟

الحكومة تعرف الواقع جيداً، والدليل أن وزير المالية الحالي، أحمد كوجك، وهو أحد تلاميذي في الجامعة، يعمل حالياً على ضبط الدين العام وإيرادات الضرائب في خطوة إيجابية، مغايرة لسلفه الذي اعتمد على إدارة الدين العام، عبر نظام تدوير القروض، بشكل مخيف، فليس من مصلحة الحكومة أن تصدق الصورة التي ترسمها بالمخالفة للواقع لأننا في مركب واحد، ونحتاج إلى وقفة حاسمة مع النفس تقضي الكف عن إقامة مشروعات تستنزف موارد الدولة بلا عائد.

يكفي ما أقيم من مشروعات بنية تحتية، نريد مشروعات تخدم الصادرات وأولويات واضحة لمشروعات يديرها أصحاب الكفاءات وذوي الرؤية المستقبلية المخلصة، بدلاً من إدارة الشخص الواحد "وان مان شو"، فلا يوجد إنسان قادر على العمل ليل نهار ومراقبة كل ما يدور في الدولة. لا نشكك في إخلاص الناس، نريد نظاماً جيداً لإدارة الدولة وأجهزة رقابية مستقلة، تتحقق من توظيف المال والمشروعات العامة بكفاءة.
يجب أن نغير المسار، فالإدارة الحالية للاقتصاد لا تصلح، في وقت نحتاج فيه إلى تحول هيكلي جذري نحو التصنيع والتصدير لاستيعاب مليون شاب يدخل سوق العمل سنوياً، والاستثمار في رأس المال البشري بالعودة إلى النظام التعليمي والصحي الجيد، الذي سيمكن الدولة من إدارة ملفاتها الاستراتيجية وممارسة دورها على المستويين الإقليمي والعالمي.

- هناك أموال هائلة أنفقت على مشروعات قومية كبرى وبنية تحتية واسعة تؤكد الحكومة أنها استثمار جيد للمستقبل؟

الإنفاق الواسع حدث بالفعل، وشخصياً أعتبر نفسي من أشد المؤمنين بأهمية الإنفاق على البنية الأساسية بالدولة، وهذه التجربة وقعت من قبل في عهد محمد علي حينما بنى القناطر الخيرية، على ملتقى مجري النيل بروافد الدلتا، لكن بعدها مباشرة تضاعفت المحاصيل، لأنه بدلاً من زراعة محصول واحد في العام، أصبحت الأراضي تزرع محصولين، في الشتاء والصيف، وكذلك عندما بنت الدولة خزان أسوان عام 1902 جنوبي البلاد، زادت مساحة أراضي الري في الصعيد نحو مليون فدان، وعندما خضنا معارك سياسية لبناء السد العالي، أصبح لدينا مياه تكفي لتأمين الدولة مائة سنة، وزادت مساحة الأراضي والمشروعات الصناعية الكبرى، كمصانع الألومنيوم والكيماويات، ونهضت الصناعة مباشرة.

ولكن عندما توجه الحكومة كل جهدها والمال العام للبنية الأساسية فقط، مثل الطرق والكباري وبناء عاصمة إدارية وتنسى التعليم والصحة والاستثمار في الشباب، ساعتها النمو الاقتصادي لن يكون حقيقياً، لأننا فقدنا فقه الأولويات. فهل من المنطقي أن أبني عاصمة جديدة قبل إصلاح القاهرة التاريخية، وهي مدينة من أجمل عواصم العالم، وكتب عنها عشرات الكتب التي تشهد بروعتها وقيمتها، الأمر الذي يمكننا من تحويلها إلى مصدر لجلب العملة الصعبة بسهولة وسرعة؟!

- هل اعتراضكم على تمويل هذه المشروعات أم تنفيذها؟

هناك مشروعات نفذت في توقيت غير مناسب، مثل توسعة قناة السويس. فرغم أهمية المشروع، فإنه مرتبط بحدوث انفراجة كبرى في حركة التجارة الدولية، لكي أستفيد منه بامتياز، بكونه مصدر عملة صعبة، ولكنه كان بداية بعيدة عن "فقه الأولويات" الذي جرنا بعد ذلك إلى تمويل العاصمة الإدارية، وما ارتبط بها من مشروعات كبرى، تعتمد كلها على الاقتراض.

في البداية، لجأت الحكومة إلى الاقتراض من الداخل، ثم استدانت من الخارج، بزعم أن الفائدة السائدة دولياً منخفضة جداً، وتكاد تكون صفراً كما في اليابان وسويسرا، على سبيل المثال، لكن غاب عنهم أن سداد الدين بالدولار أو بأي عملة أجنبية قرار مكلف، فاليوم أصبح الدين الخارجي يمثل نحو 50% من الناتج المحلي الإجمالي، وصعدت خدمة الدين الأجنبي لتعادل بمفردها نصف قيمة صادرات مصر من السلع والخدمات سنوياً.

- يقول المسؤولون إن ديون الدول، وعلى رأسها أميركا والصين واليابان، من الأمور الطبيعية، ولا تمثل خطورة على الدولة، لأنها لم تتوقف يوماً عن سداد أية مستحقات للأجانب؟

صحيح أن ديون دولة مثل الولايات المتحدة، تفوق ناتجها المحلي، ولكنها قادرة على تصدير منتجات مدنية وعسكرية وخدمات بتريليونات الدولارات، وهي دولة مصدرة للدولار، تطبعه والعالم بأسره يسعى وراءه للظفر به عملةَ تبادل دولية، بينما الجنيه نطبعه للداخل، وليس مطلوباً دولياً، وصادراتنا لا توازي نصف الواردات.

فإذا كنا نستورد بنحو 80 مليار دولار سنوياً، فإننا نصدر بحوالى 40 مليار دولار، فضلاً عن أن ما بين 50% إلى 80% من مدخلات هذه الصادرات مستوردة أصلاً من الخارج.
هذه المشكلة تراها في أبسط السلع الآن، مثل علبة الزبادي، ذاك المنتج الزراعي البسيط، الذي كان يصنع بالمنازل أو المحلات الشعبية من اللبن المحلي وعلب الفخار، الآن نستورد منتجات الألبان والعلب وكل وسائل الإنتاج من الخارج. وهذا يستدعي أن نوجه الأموال لبناء البشر، والاستثمار في المستقبل في التعليم والصحة، وفي تشغيل حقيقي للشباب يمنحهم الدخل اللائق، وهذا يتطلب مواجهة الأزمة المالية بصدق، بأن نبدأ بتعريف المرض ووضع "روشتة" للحلول، خصوصاً أن لدينا خبرات علمية ذات كفاءة على مستوى عالمي، كالأطباء والمهندسين والجامعات وفي الإدارة، يمكن الاستعانة بهم، لأن المشكلة الآن نراها في المنظومة الحاكمة لهذه الخبرات، ولا ترغب في الاستفادة منها، بينما يذهب جهدها للخارج، أو يجري تهميشها دون أن تستفيد منها الدولة.

من مصلحتنا أن نفهم الأزمة ونرسم طريقاً للحل، ولا بد أن نعترف بالواقع، ونرجع للعقل وصوته، قبل فوات الأوان. ويكفي أننا بدأنا تصنيع السيارة الشعبية منذ 70 عاماً بالتوازي مع الهند، وها نحن نراها تصعد للقمر، بينما لم ينجح أي مشروع لصناعة سيارة مصرية خالصة.

- هل السياسات الاقتصادية السبب المباشر للأزمة التي يمر بها الاقتصاد؟ أم نحن ضحايا أزمات وظروف دولية فرضت علينا بقسوة؟

بصراحة، النموذج الاقتصادي الذي نعيشه نتيجة مباشرة للسياسات المتبعة منذ سنوات، فالمشكلة الأساسية أن صناعة السياسة العامة الاقتصادية لا تفتقر فقط إلى الهوية، ولكن إلى الشفافية أيضاً، فنحن ببساطة لا نعرف ما يجري إلا بعد أن يُنفَّذ. خذ مثلاً مشروع بيع رأس الحكمة لشركات أجنبية، لسنا ضد البيع أو فتح الاستثمار أمام أي شركات أو دول، ولكن المطلوب أن نفهم: هل ما وقع من اتفاق هو بيع للأرض أم أيجار؟ وما طبيعة الصفقة؟ وأين تذهب الأموال الناتجة منها؟ فهناك ضبابية تامة في صنع القرار، وهذا لا يصب في مصلحة أحد، حتى الحكومة نفسها، لأن الضبابية تفتح الباب للشائعات.

قال البعض: "باعوا رأس الحكمة وحطوا الفلوس في جيوبهم"، وقد يكون هذا غير صحيح على الإطلاق، ولكن لأن الأمر لم يطرح بشفافية فتُترك المساحة لهذه التأويلات. وللأسف الشفافية غائبة داخل البرلمان الحالي الذي لا يناقش القضايا الجوهرية ويركز على أمور هامشية ويدع الملفات الأهم. أنا لا أعارض جذب الاستثمارات، سواء في رأس الحكمة أو قناة السويس، ولكن المطلوب وضوح الرؤية، وأن تكون هوية الاقتصاد المصري واضحة أمام الكافة.

فنحن أمام اقتصاد يعكس "رأسمالية الدولة" التي بدأت تحديداً بعد صدور قانون الاستثمار عام 1974، الذي أراد الابتعاد عن الحقبة الاشتراكية، وتأسيس رأسمالية السوق، ولكنه لم يحقق ما نعرفه من رأسمالية غربية، بل عمل على تركيز رؤوس الأموال لصالح الدولة، لدرجة أنه أقصى القطاع الخاص، الذي كان يستحوذ على 70% من القروض البنكية في الحقبة الإشتراكية، فإذا به الآن لا يتجاوز 30%، فأصبحت الدولة بحكم الواقع تستحوذ على 70% من موارد التمويل، لتسيطر على القطاعات الإنتاجية الحقيقية مثل الصناعة والزراعات الواسعة، بينما القطاع الخاص ينحصر في الاستثمارات العقارية.

- تقول الحكومة إن ما حصلت عليه من تمويلات أسهم في تنمية الصناعة والمشروعات الكبرى التي لا يقدر القطاع الخاص على تحمل أخطار الاستثمار بها؟

لم يحدث نمو صناعي على مدار 55 عاماً مضت، فقد قمت بدراسة عن التحول الهيكلي للاقتصاد المصري، منذ عام 1970، وحتى اليوم، وجدت أن نسبة الصناعة في الناتج المحلي لم تتجاوز 19%، طوال هذه الفترة، وفي بعض الأحيان كانت تقل عن 14%، أو 15%. عندما نقارن هذا النمو بدولة مثل كوريا الجنوبية التي بدأت في العام نفسه مشروعها الصناعي، فإن الصناعة هناك جعلت دخل المواطن الكوري حالياً يعادل 16 مرة دخل الفرد في مصر، وهي دولة تقود الإبداع التكنولوجي في العالم، بينما لم ندخل نحن حقبة الثورة الصناعية الثالثة.

- ما تأثير هذه السياسات مباشرةً بالطبقة الوسطي والفقيرة التي تعاني من ضغوط تكاليف المعيشة؟

بشكل مؤكد، سُحقَت الطبقة الوسطى، لأن الدولة تخلت عن دورها في تقديم الخدمات العامة، وخصوصاً التعليم والصحة، التي ارتفعت تكاليفها كثيراً، فلم يعد بإمكان الطبقة المتوسطة الوصول إلى خدمات جيدة بأسعار مقبولة.
دعني أعطيك مثلاً: إذا كنت تتقاضى راتباً يتيح لك شراء 10 كيلوغرامات لحم في الشهر، فبالكاد اليوم تشتري كيلوغراماً واحداً، فهناك تآكل واضح في الدخل الحقيقي، وتدهور مستمر في مستوى المعيشة. فحسب دراسة رسمية أجريت بالتعاون بين الجهاز المركزي للإحصاء والبنك الدولي، فإن 32% من المصريين يعيشون تحت خط الفقر، أضف إليهم 20% آخرين يصنفون "قريبين من الفقر" أي إنهم معرضون للهبوط تحت هذا الخط في حال حدوث أي أزمة، فهذا يعني أن أكثر من نصف سكان مصر فقراء أو على وشك الفقر، وهذه كارثة اجتماعية وليست مجرد أرقام.

- لماذا تحدثت بحدة عن أرقام التراجع في مستوى المعيشة؟

لأن هذا الوضع كارثي قد يؤدي إلى انفجار اجتماعي، وقد حصل هذا بالفعل في يناير 2011، وكانت ثورة مهذبة، لم يخرج فيها الشباب على الجيش ولم يرفعوا سلاحاً، بينما الخوف من المستقبل ألا يكون الانفجار كذلك. فاستمرار الأزمة يطيح الطبقة الوسطى، التي هي العمود الفقري لأي أمة. انظر إلى كندا حيث تمثل الطبقة الوسطى ما بين 70%-80%، وهو مجتمع يعتمد على المشروعات الصغيرة والمتوسطة، وكذلك الحال في الصين وماليزيا، فالسياسات التي تسحق هذه الطبقة تقتل الدولة.

وأنا أحد نتاج هذه الطبقة، حيث درست مع زميلي بالدراسة عمرو موسى، الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية ووزير الخارجية السابق ومثل أحمد زويل وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ في مدارس حكومية، وعندما عملنا في مؤسسات دولية بالخارج كانوا يعتقدون أننا تعلمنا في مدارس خاصة لارتفاع مستوى الكفاءة والتعليم الذي حصلنا عليه مجاناً بالمدن الصغيرة التي قدمنا منها.

- هل إلغاء الدعم عن السلع والخدمات العامة، يمكن أن يغذي تلك الحالة أو يمكن الدولة من تحقيق التوازن المالي وقد يؤدي في النهاية إلى تحسين الوضع الاقتصادي؟

كل هذه السياسات لن تحل المشكلة من جذورها، لأننا نعالج أعراضاً، وليست الأسباب الحقيقية، فالمشكلة في هيكل الإنتاج والتصدير غير القادر على مواكبة النمو السكاني. صادراتنا تعتمد على الخضار والفواكه، وهذا لا يمكن أن يُبنى عليه اقتصاد، وتسببت هذه السياسات في حرمان السوق المحلي منتجاته التي يعيش عليها المصريون كافة، وظلت لعقود رخيصة السعر، بينما قفزت أسعارها حالياً لحرص الحكومة على جلب الدولار عن المنفعة التي يجنيها المواطن من توافر السلع الرخيصة.
أما مسألة الدعم، فقد كنت أحد الداعمين لفكرة إلغاء دعم الدولة لكل السلع والخدمات، في أثناء عملي مستشاراً في منظمات دولية.

توليت مسؤولية الإشراف على إلغاء الدعم في بولندا عقب تحولها من النظام الشيوعي إلى الرأسمالي الغربي، لأني وجدت أن دعم كل شيء على حساب الدولة نظام غير كفء على الإطلاق، ولكن وضعنا ضوابط بألا يُرفع الدعم عن سلعة أو خدمة إلا بوضع نظام موازٍ يعوض الفئات التي ستتضرر من رفعه، بحيث نضمن عدم تعرض المواطنين لضغوط مالية قاسية. واستطاع النظام الاستفادة من الاستثمار في التعليم، بتوجيه المزارعين نحو تصدير الحاصلات الزراعية، مع الاستفادة الكاملة من ورائها، على سبيل المثال تحول "الفجل"، ذلك المنتج الخضري الزراعي البسيط إلى محصول ذي أهمية كبرى في صناعة التجميل للمصانع الفرنسية والسويد، فجاء الدخل سريعاً ومرتفع القيمة للفلاحين.
لست ضد إلغاء الدعم، على أن يكون مدروساً ومستهدفاً، فقد كنت أول من فكر في مشروع "تكافل وكرامة" بمصر، حينما توليت الوزارة عام 2012، مستفيداً من الخبرات التي طُبقت في بولندا وقدمناها إلى تونس قبل ثورات الربيع العربي، وطالبت برفع الدعم خلال 5 سنوات، على أن نضع كل عام قائمة بالمنتجات والخدمات التي سيرفع عنها الدعم، تقابلها قائمة بالمميزات التي ستمنح للمواطنين لمواجهة الضغوط الناتجة من رفع الدعم.

- بعد أن وقعنا 4 برامج متصلة مع صندوق النقد الدولي، وحصلنا على قروض تخطت 40 مليار دولار، للانتقال إلى مرحلة ما بعد الدعم بسلاسة لم تحدث، بل زاد العجز المالي والتضخم وتكلفة المعيشة، هل يمكن أن نتمرد على تعليمات الصندوق التي تتركز في رفع الدعم وخفض العملة؟

لماذا تتمرد على صندوق النقد وأنت الذي ذهبت إليه طواعية طلباً للنجدة؟! مثل المريض الذي يهرول إلى الطبيب بحثاً عن علاج بعد أن أصبحت حالته شديدة السوء ومستعصية على الحل. فصندوق النقد أنشئ بهدف تحسين الاستقرار المالي عالمياً. ليس له ذنب لأنك تطلب مساعدته وأنت في موقف ضعيف، وتتعهد بتنفيذ سياسات تضمن له استرداد أمواله والتزام سداد حقوق الدائنين الدوليين، فنحن السبب في الأزمة لأننا نترك الاقتصاد يعاني حتى يوشك على الانهيار، فتذهب للصندوق مثل الفرد الذي يبحث عن بيع أصوله وهو مديون، وتعوّل على دعم الأشقاء والأصدقاء والممولين، وأنت بموقف ضعيف، على عكس ما نفذناه لصالح سلطنة عمان عندما عملت مستشاراً اقتصادياً للسلطان قابوس لخمس سنوات، وما قام به الزعيم السياسي مهاتير محمد في ماليزيا، عندما رفضنا شروط الإقراض التي فرضها صندوق النقد، مقابل قروض دولية، وعملنا على توفيرها محلياً وترشيد النفقات العامة، دون أن يتحمل المواطنون أية ضغوط مالية.

- هل يمكن العودة إلى الدول الشقيقة، وخصوصاً الخليجية، للحصول على قروض ميسرة أسوة بالماضي، تغني مصر عن صندوق النقد، خصوصاً ممن لديهم وفرات مالية كبيرة استغلها الرئيس الأميركي دونالد ترامب في الحصول على استثمارات بقيمة 4.2 تريليونات دولار؟

حصلت مصر على قروض هائلة من دول الخليج خلال السنوات العشر الأخيرة، مرت بثلاث مراحل: الأولى خلال الفترة من 2011-2013، حيث توقفت تلك التمويلات تقريباً، لخوف تلك الدول من وصول الأموال إلى جماعة الإخوان المسلمين الذين يخشونهم وكانوا مرعوبين من وصولهم إلى الحكم، وقدرتهم على التأثير داخل دولهم. وخلال الفترة من 2013-2016، حصلت مصر على منح وودائع وقروض ميسرة هائلة بعشرات المليارات من الدولارات، في إطار صفقات لتأمين النظام وغلق طريق عودة نظام الإخوان. بعد هذه الفترة بدأت الأوامر تتجه إلى عدم دفع الأموال، وانتهاء فترة الأرز والقروض السهلة، التي شرعت لبرامج المساعدات المالية مقابل الاستثمار، فلا شيء مجاني.
الموقف من تمويل المشروعات المصرية مغاير تماماً لما تفعله تلك الدول مع ترامب، لأننا نقدم برامج الإصلاح الاقتصادي عبر تدوير الفكرة نفسها التي بدأناها منذ 10سنوات.

وبالنسبة إلى الدول المانحة أو المقرضة، لا تلزمها السياسات الجزئية، لأنها تريد أن تستثمر في خطط ومشروعات واضحة، فعندهم فوائض مالية هائلة، ولكن عندهم خطط لاستغلال هذه الأموال لصالح الصناديق السيادية والمخصصة عوائدها للأجيال القادمة، وخصوصاً لحقبة ما بعد النفط، ويحتاجون إلى فرص استثمارية تحمي مستقبل شبابهم وبلدهم.

على المستوى الشخصي، شاركت منذ سنوات بوضع خريطة استثمارية للدولة تجذب المستثمرين الخليجيين في القطاع الطبي داخل مصر، مستهدفاً جلب المرضى الخليجيين وأسرهم للعلاج وقضاء أوقات طويلة في المدن والريف، في مراكز استشفاء فندقية بجودة ألمانية، مستغلين ثقة الخليجيين بالأطباء والفنيين المصريين الذين يعملون بنسبة 60% داخل دولهم.

هذه الفكرة لم تلقَ الرواج الرسمي المشجع لها، بينما ترامب يقدم إلى هذه الدول الحصانة الدفاعية والضمانة المالية لعوائد الاستثمار، فلذلك لم يكن غريباً أن يطلب تريليون دولار استثمارات، فتأتيه كل هذه الأموال بسهولة، بينما نحن نطلب مليارات، فنحاط بكثير من القيود وطلبات للحصول على أصول ذات قيمة وطنية كبيرة.

المشكلة أن أزمات مصر الاقتصادية جعلت الولايات المتحدة تسعى لدمج دول الخليج مع إسرائيل مع محاولة دمج سورية والبحرين والكويت في مشروع الشرق الأوسط الجديد، على أن تكون مصر خارج المعادلة، لأن الحكومة لدينا فرحت بالقروض والسعي نحو مشروعات كبيرة عمق الأزمة الاقتصادية، فجعل البعض يتصور أن مصر حصلت على الثمن، وكأنها حصلت على مكافأة، لإدارة الإنجازات التي تحققت من القروض المدعومة أميركياً وخليجياً.

- إلى أي مدى أصبحت مصر خارج معادلة الشرق الأوسط الجديد؟

مصر عندها فرصة ذهبية للعب دور دولي، ليس على المستوى الإقليمي فقط، ولكن في كل الاتجاهات، مع روسيا والصين وأوروبا، وحتى الولايات المتحدة، لأنها تمتلك أوراق لعب وعلاقات مع الأطراف كافة التي تحتاج إليها لإدارة مصالحها مع الدول العربية وأفريقيا والشرق الأوسط وحول العالم.

لكنها في الوقت نفسه تحتاج إلى فكر سياسي مختلف، وإعادة تشكيل السياسة العامة بالكامل، وهذا لن يتحقق إلا إذا فتحت السلطة آذانها وقلبها للمواطنين ليتكلموا بصراحة عن مشاكل الدولة ويطرحوا الحلول بلا مخاوف من المساءلة، ويضمنوا أن السلطة تستمع إليهم وتسعى للعمل بنصائحهم، أسوة بما يفعله الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في بلاده، أو ما فعله الرئيس الراحل حسني مبارك من قبل، حينما اختار وفداً يضم الكفاءات الوطنية من جميع التخصصات لإدارة ملف استعادة طابا من الاحتلال الإسرائيلي، بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية والفكرية، بينما ذهب وزير ري سابق لإدارة ملف مياه النيل مع إثيوبيا، ووقع على اتفاقية دولية ملزمة لمصر، وهو لا يجيد الإنكليزية، فخسرت مصر الكثير من حقوقها، وقدرتها على التفاوض.

فالدول التي توظف كفاءاتها الوطنية كافة في حل أزماتها الداخلية والدولية، وتحترم رؤيتهم وتقدر خبراتهم، تجني الثمار الطيبة لصالح الدولة والشعب.
وهذا التحول أصبح ضرورياً الآن، لأن العالم يمر بأزمة قد تدفعه إلى معاناة شديدة مع الركود الناتج من تصاعد الحروب الاقتصادية بين الدول الكبرى، وقد نشهد حروباً حقيقية، لن ينجينا من آثارها إلا تغيير شامل لسبل مواجهة المشاكل المحلية المتراكمة عبر سنوات.

المساهمون