سمير أبو مدللة: واقع مشوه لاقتصاد غزة وسط أرقام كارثية
استمع إلى الملخص
- السوق السوداء تسيطر على النشاط الاقتصادي، مع استغلال بعض التجار للأزمة برفع الأسعار، وقلة الشاحنات التي تغطي 15% فقط من احتياجات السكان، مما يزيد من تعقيد الوضع.
- الاعتماد على المساعدات أصبح حتمياً، حيث تقدم برامج مثل برنامج الغذاء العالمي والأونروا الدعم، ويتطلب تغيير هذا الواقع جهوداً دولية لإعادة بناء البنية التحتية.
قال أستاذ الاقتصاد بجامعة الأزهر في غزة والخبير الاقتصادي الفلسطيني سمير أبو مدللة، في مقابلة مع "العربي الجديد"، إن اقتصاد غزة تحول من منظومة إنتاجية إلى اقتصاد بقاء مشوه بفعل الحصار والحروب، وسط أرقام كارثية.
وأكد أن الاقتصاد أصبح قائماً على المساعدات بنسبة 95%، مع بطالة 83% وفقر مدقع وارتفاع أسعار خانق نتيجة سياسة التجويع الممنهج التي يتبعها الاحتلال. وفيما يلي نص الحوار:
· مضى نحو عامين على الحرب، ماذا حل بالاقتصاد الفلسطيني في غزة والقطاعات الاقتصادية المختلفة، وما المطلوب للنهوض بها؟
منذ فرض الحصار على القطاع في يونيو/ حزيران 2006، مرّ القطاع بأربع حروب كبرى: 2008، 2012، 2014، و2021، إضافة إلى جولات تصعيد متكررة، وصولا إلى عدوان السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 الذي ما زال مستمرا منذ قرابة عامين.
جاء هذا العدوان في وقت كانت فيه القطاعات الاقتصادية منهكة بفعل الحصار، حيث فرض الاحتلال سيطرته على المعابر ومناطق الغلاف والبحر، ومنع دخول المواد الخام للصناعة والزراعة، ما جعل الاقتصاد هشا ومثقلا بالأعباء.
ثم جاء العدوان الأخير ليقضي على ما تبقى من مقومات الاقتصاد الفلسطيني؛ فاستهدفت الأراضي الزراعية وآبار المياه بالتجريف، ودمرت المناطق الممتدة من بيت حانون شمالا حتى رفح جنوبا مرورا بخانيونس والمناطق الوسطى، وجميعها مناطق زراعية. كما طاول التدمير شبكات الطاقة الكهربائية بما فيها الطاقة الشمسية، فضلا عن المصانع والمنطقة الصناعية، والجامعات والمدارس والبنية التحتية، وحتى البنوك وأجهزة الصراف الآلي.
هذا العدوان الممنهج حوّل الاقتصاد الفلسطيني خلال سنتين إلى اقتصاد مدمر بالكامل. ولا يمكن الحديث عن تعافٍ اقتصادي قبل وقف الحرب وفتح المعابر وإدخال المواد الخام ووضع خطة لإعادة الإعمار، فالتدمير كان شاملا، والتعافي يحتاج سنوات طويلة.
· الاقتصاد الغزي تحول من اقتصاد منظم إلى اقتصاد بقاء، تسيطر عليه السوق السوداء دون أي عدالة اقتصادية، كيف تحولنا تدريجيا إلى هذا الوضع؟ وكيف يمكن إنهاؤه وعودة الاقتصاد المنظم؟
الاقتصاد الغزّي تحول بفعل العدوان إلى اقتصاد غير منظم، حيث يختفي الاقتصاد الحقيقي ورجال الأعمال الفعليون، ويبرز اقتصاد السوق السوداء. بعض التجار استغلوا الأزمة عبر سرقة المساعدات أو إدخال بضائع محدودة وبيعها بأسعار فاقت قيمتها الحقيقية بنسبة تجاوزت 1000%، خاصة السلع الغذائية والأساسية، كما لجأ صغار الباعة إلى رفع الأسعار بشكل مبالغ فيه مستغلين حاجة المواطنين. وبهذا يمكن وصف الوضع بـ"اقتصاد الكوارث" أو "اقتصاد الأزمات".
أما التعافي فيتطلب إجراءات أساسية تبدأ بوقف العدوان وفتح المعابر وإعادة الإعمار إلى جانب دعم المانحين لقطاعي الصحة والتعليم باعتبارهما قطاعي خدمات أساسية، والصناعة والزراعة باعتبارهما قطاعين إنتاجيين.
· بخصوص الشاحنات التي تدخل غزة، سواء مساعدات أو بضائع تجارية.. ما يدخل لا يتجاوز 15% من حاجة السكان، وهو ما يفسر بقاء الأسعار مرتفعة، هل قلة الشاحنات تأتي ضمن أسلوب مخطط، ماذا تريد إسرائيل من ذلك؟
قبل العدوان كانت غزة تحتاج يوميا لنحو 1000 شاحنة من السلع الأساسية ومواد البناء والأدوية، بينما بعد توقف القطاعات الإنتاجية تقلصت الحاجة إلى 600 شاحنة غذائية. لكن إسرائيل لم تسمح بإدخال أكثر من 100 شاحنة يوميا في أفضل الأحوال، ثم أوقفتها كليا لخمسة أشهر، ولا تسمح حاليا بأكثر من 80 شاحنة يوميا، سواء مساعدات أو بضائع عبر تنسيقات باهظة.
هذا لا يغطي سوى 15% من احتياجات السكان، ما أدى إلى ارتفاع الأسعار بشكل غير مسبوق. ويعكس ذلك مخططا ممنهجا لتجويع غزة، حيث تُدخل إسرائيل كميات محدودة بالكاد تكفي للبقاء، وبأسعار لا يستطيع معظم السكان تحملها. والنتيجة هي تفاقم المجاعة ووفاة أكثر من 350 مواطنا جوعا، معظمهم أطفال، إلى جانب معاناة النساء الحوامل من فقر الدم وسوء التغذية.
· أزمة السيولة، لماذا تفتعلها إسرائيل؟ ولماذا هذا الصمت المطبق من سلطة النقد؟ وكيف ساهمت في فقدان الغزيين جزءاً كبيراً من أموالهم، وما هي آثار ذلك؟
بدأت أزمة السيولة في القطاع مع اندلاع الحرب، إذ تلزم اتفاقية باريس إسرائيل بإدخال النقد واستبدال الشيكل بعملات أجنبية، لكن الاحتلال استهدف البنوك وأجهزة الصراف الآلي. ووفق تقرير سلطة النقد، نهب الجيش الإسرائيلي نحو 180 مليون دولار، معظمها من بنك فلسطين.
ترتب على ذلك انهيار السيولة وتوقف النشاط الصناعي والتجاري والزراعي، ومع إغلاق البنوك فقدت الأموال قيمتها، فلجأ التجار لآلية "التكييش"، باقتطاع نصف راتب الموظف مقابل الكاش؛ فمثلا راتب 5000 شيكل يصرف 2500 فقط.
هذا عمق الغلاء وخفض القوة الشرائية، فيما بقيت الأموال نفسها تتداول دون سيولة جديدة، ما أدى لتلف جزء منها ورفض التجار التعامل بها. والنتيجة أن المواطن بات عرضة للابتزاز والسيولة شبه معدومة.
الأزمة تمثل أداة حصار وضغط، إذ تتنصل إسرائيل من اتفاقياتها، ما جعل الأموال البنكية تفقد قيمتها بفعل التضخم وارتفاع الأسعار.
· هناك حالة من التشوه الاقتصادي في الأسواق، نتجت عنها أزمة سعرين، سعر للدفع الإلكتروني أعلى من سعر الكاش، كيف نشأت هذه الأزمة ومن المستفيد؟ وكيف يمكن التخلص منها؟
شهد اقتصاد غزة تشوها شاملا في العرض والطلب وآليات التسعير بفعل الحصار وتدمير البنية التحتية. ومع شح السيولة ظهرت ممارسات استغلالية، إذ يباع كيلوغرام الدقيق بـ20 شيكلاً نقداً مقابل 30 شيكلاً عبر الدفع الإلكتروني، بزيادة 50%. كما فقدت العملات قيمتها، فمثلاً الـ100 دولار التي كانت تعادل 350 شيكلاً، تصرف اليوم بـ200 شيكل أو أقل، ما عمق أزمة الاستغلال.
ونتج عن ذلك وجود سعرين للسلع والخدمات، ليصبح كبار التجار المستفيد الأكبر عبر جمع السيولة وإعادة بيعها من خلال استبدال الرواتب والحوالات بمبالغ نقدية أقل بكثير. هذه الأزمة لن تحل إلا بإدخال السيولة وتحرك سلطة النقد بالتعاون مع المؤسسات الدولية ورفع شكاوى ضد الممارسات الإسرائيلية الممنهجة.
· لا شك أن الحرب ولّدت اقتصادا مغايرا عن الاقتصاد الذي كنا نعيشه قبل الحرب، كيف يمكن قراءة الوضعين؟
قبل العدوان بلغت البطالة في غزة نحو 45% والفقر 60%، أما اليوم فقد وصلت البطالة إلى 83% وانتشر الفقر والجوع وانعدام الأمن الغذائي. لم يعد بالإمكان وصف الوضع باقتصاد حروب، بل بانهيار كامل يحتاج لسنوات للتعافي.
فقد دمرت الأراضي الزراعية والمصانع والمنطقة الصناعية، وتوقف قطاع الصيد بمنع دخول البحر، ما أدى إلى فقر العاملين فيه. كما تضررت المحال الصغيرة وورش العمل اليومية بشكل كامل. إن إعادة بناء البنية الإنتاجية والزراعية والصناعية في غزة تتطلب جهوداً ضخمة وفترة طويلة لاستعادة الحد الأدنى من مقومات الاقتصاد والمعيشة.
· أغلبية سكان القطاع يعتمدون على المساعدات، هذا يكرس قضية المساعدات التي لا تصل للجميع اليوم، هل نحن أمام واقع مغاير بسبب الاعتماد على المساعدات؟ وكيف يمكن تغيير هذا الواقع؟
أصبح معظم سكان غزة يعتمدون على المساعدات، إذ لم تعد رواتب الموظفين تكفي، وحتى الأطباء والمهنيون يضطرون للذهاب إلى مراكز توزيع الغذاء رغم المخاطر. فقد توقفت القطاعات الاقتصادية والمنشآت وفرص العمل، وارتفعت معدلات البطالة والفقر، ما جعل المساعدات أمرا حتميا.
اليوم يعتمد نحو 95% من السكان عليها، بعدما كان نحو 60% منهم يعتمدون عليها قبل العدوان. على سبيل المثال، برنامج الغذاء العالمي يقدم مساعدات لمليون مواطن، والأونروا لـ1.1 مليون، ووزارة الشؤون الاجتماعية لأكثر من 60 ألف أسرة. وهكذا أصبح قطاع غزة بأكمله تقريبا يعيش على المساعدات الخارجية.