سر التحسن السريع في مؤشرات الاقتصاد السوري

13 يناير 2025
مسافرون في مطار دمشق الدولي حيث جرى استئناف الرحلات في 7 يناير 2025 (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- شهدت سوريا تحولات اقتصادية سريعة بعد سقوط نظام الأسد، حيث ارتفعت قيمة الليرة السورية وانخفضت أسعار المواد الغذائية، مع تحسن في الخدمات الحكومية.
- التحسينات تعود إلى إلغاء قرارات النظام السابق، اختفاء الاحتكارات، فتح الطرقات، وتحويلات السوريين في الخارج، بالإضافة إلى المساعدات الخليجية.
- تعتمد التحسينات على عوامل خارجية ومؤقتة، مما يستدعي الحذر والتركيز على بناء اقتصاد مستدام يتطلب إصلاحات هيكلية لضمان استمرارية التحسن.

بعد أكثر من عقد من النزاعات المسلحة التي أنهكت المقدرات الأساسية للشعب السوري، جاء سقوط نظام الأسد ليشكل نقطة تحول محورية في مسار الدولة السورية بصفة عامة، وفي المسار الاقتصادي السوري على وجه الخصوص، وقد ترقب السوريون تدشين مرحلة جديدة من الاستقرار السياسي والاجتماعي، آملين انعكاس ذلك على المؤشرات الاقتصادية الكلية وفي مقدمتها مستوى معيشة المواطنين.

ولم ينتظر السوريون طويلاً، حيث حدثت بالفعل تحسينات اقتصادية ملموسة جاءت شبه فورية في أعقاب سقوط النظام، وجاء التحسن على الرغم من عدم بسط الإدارة الجديدة لسيطرتها كاملة على كل الأراضي السورية، وعدم حدوث تغييرات هيكلية على الجوانب الاقتصادية، بل مع استمرار معظم معالم المعطيات السابقة على حالها المتردي بفعل إهمال وفساد النظام السابق.

ومن الطبيعي أن ترفع تلك التحسينات توقعات المواطنين وتعجلهم للمزيد منها، ولكنها على الجانب الآخر تثير الكثير من تساؤلات مهمة حول كيفية حدوث تلك التحسينات ومدى استمراريتها في الأجلين القصير والمتوسط، وهل ستنسحب أية تحسينات في المؤشرات الاقتصادية الكلية على مستويات معيشة المواطنين؟ وما هي الهياكل والآليات الاقتصادية التي تضمن نسبة معقولة من عدالة التوزيع في ظل هيمنة السوق الحرة التي أكدتها الإدارة الجديدة مذهباً اقتصادياً سيتم تطبيقه؟

وقبل التطرق إلى أهم المؤشرات الاقتصادية التي تحسنت فعلياً بعد أيام قلائل من سقوط النظام يجدر تأكيد أنه في ظل نزاعات مسلحة استمرت 13 سنة كاملة، وتصارع العديد من الدول والمليشيات على الأرض السورية لسنوات طويلة، وتغييب الخطط الاقتصادية وتغليب النواحي الأمنية القمعية ووضعها في قمة سلم أولويات الإنفاق الحكومي، فإنه من المنطقي في هذا المناخ أن تتآكل الخدمات المقدمة للمواطنين، وأن ترتفع الأسعار وتختفي السلع الأساسية، وذلك يعني ببساطة أن أية تحسينات اقتصادية سيشعر بها المواطن بصورة فورية.

مؤشرات تحسنت بصورة فورية

كان الارتفاع الكبير لسعر الليرة السورية مثيراً للانتباه، ففي غضون أيام قلائل سجل السعر ارتفاعاً كبيراً ليصل إلى 13 ألف ليرة تقريباً مقابل الدولار حالياً، فيما كان سعر صرفها 30 ألف ليرة قبل إطاحة نظام الأسد، ما يعني أنها استعادت أكثر من 50% من قيمتها. كما شهدت أسعار المواد الغذائية الأساسية انخفاضاً ملحوظاً في العاصمة السورية دمشق، بعد إطاحة نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر/كانون الأول الماضي.

وفي دمشق، انخفضت أسعار الخضار والفواكه، والدقيق والسكر والزيت النباتي، واللحوم، والبيض، والبقوليات بنسب كبيرة تصل إلى 50-60% في بعض المنتجات، مقارنة بما كانت عليه قبل سقوط النظام البائد.

كما زادت ساعات توصيل التيار الكهربائي لمعظم المناطق السورية، وهي الأزمة التي عاناها السوريون لسنوات طويلة، وارتفع متوسط ساعات وصول الكهرباء اليومية من ست ساعات خلال سنوات الحرب إلى 18 ساعة حالياً.

تزامن ذلك مع عودة الخدمات الحكومية الرئيسية في المستشفيات والمدارس والجامعات والمطارات والقنصليات، وغيرها من الجهات الحكومية التي باتت تقدم خدماتها بصورة آدمية طالما غابت عن المواطن السوري طيلة الحقبة السابقة، وبالطبع دعمت هذه المؤشرات ودللت على درجة لا بأس بها من الاستقرار الاقتصادي المنتشي بالتغيرات السياسية والتوجهات الاقتصادية الجديدة، ولكن مراجعة أسباب تسارع حدوث تلك التحسينات ربما تجيب عن بعض التساؤلات التي تقلق المواطنين في هذا الإطار.

محاصرة الفساد والاحتكارات وراء التحسن

تشير مراجعة أسباب التحسن في أسعار السلع داخل الأسواق السورية إلى إلغاء كل قرارات النظام المخلوع التي كانت تقيد قيام القطاع الخاص باستيراد هذه المواد، وعلى رأس تلك القرارات إلغاء منصة "تمويل المستوردات" التي كانت سبباً رئيسياً في ارتفاع أسعار هذه المواد. كما ترجع إلى اختفاء الفرقة الرابعة التي كان يقودها ماهر الأسد، شقيق رئيس النظام المخلوع، والتي كانت تضع حواجز على الطرقات، وأخذ مبالغ باهظة على عمليات "الترسيم والترفيق" الخاصة بشاحنات المواد الغذائية وغيرها من المواد، واختفاء احتكار هذه الفرقة لأسعار العلف وغيره من السلع المستوردة وبيعها في السوق بأسعار باهظة.

ويعود الانخفاض كذلك إلى فتح الطرقات بين حلب وإدلب وصولاً إلى الحدود التركية، الأمر الذي سمح بتدفق السلع عبر الحدود، بالإضافة إلى عودة تدفق الفاكهة والخضروات الأردنية إلى سورية بعد 13 عاماً من الانقطاع.

كما ساهم ارتفاع الليرة السورية في المزيد من انخفاض أسعار السلع في الأسواق، وقبل أن نتطرق إلى أسباب ذلك، من المهم الإشارة إلى أن تحطيم أصنام الاحتكارات التي تعد أحد أركان الاستبداد من الطبيعي أن يؤدي وبسرعة إلى خفض أسعار السلع بعد اقتطاع الإتاوات من إجمالي التكاليف.

أما عن تعافي الليرة السورية بنسبة تزيد عن 50% كاملة بعد سنوات من الانكماش فيعود للعديد من الأسباب، ومن بينها تزايد تحويلات السوريين في الخارج، وتدفق المساعدات الخليجية، والإقبال المتزايد على شراء العملة المحلية، مع توجه المستثمرين إلى أسواق مثل الأردن وتركيا للاستفادة من التحسن الملحوظ في سعر صرف هذه العملة مقابل الدولار.

وكذلك إصدار الخزانة الأميركية رخصة لسورية -استثناء من العقوبات- تتيح إجراء معاملات مع المؤسسات الحكومية وبعض معاملات الطاقة، والسماح بتحويل الأموال الشخصية إلى سورية، بما في ذلك عبر البنك المركزي السوري، وتبعتها بعض دول الاتحاد الأوروبي في الاتجاه ذاته.

أما عن العوامل الداعمة لتحسن الكهرباء، فقد برز الدور الوطني والقطري والتركي في إعادة تأهيل محطات التوليد حيث أصلحت أكثر من 70% من البنية التحتية المتضررة، وأضيفت بعض مشاريع الطاقة المتجددة العاطلة إلى الشبكة الرئيسية، بالإضافة إلى حصول سورية على دعم مالي وتقني من دول صديقة مثل ألمانيا والصين.

خدعة التحسن السريع

لا يحتاج الأمر إلى تدقيق كبير في معظم العوامل السابق الإشارة إليها باختصار بوصفها مسببات لتحسن بعض مؤشرات الاقتصاد السوري، فكلها عوامل لم تحتج إلى إجراءات أو ترتيبات مخططة من الإدارة الجديدة، ومعظمها جاء من الخارج في ظل تسابق دولي على بناء علاقات مع الإدارة الجديدة، أو من خلال تحطيم الاحتكارات نتيجةً لسقوط النظام البائد، كما أن فتح المعابر وإلغاء الجمارك وفتح الأسواق من المرجح أنه سيكون إجراء مؤقتاً لا بد من مراجعته قريباً في ظل تنامي الحاجة إلى تنويع مصادر الإيرادات العامة.

وحتى توافر المشتقات النفطية والغاز يعود إلى طرح الاحتياطي الموجود في محطات الوقود ومؤسسة سادكوب للمحروقات التي كانت موجودة لدى النظام السابق للبيع في السوق، ومن الطبيعي أن يعود تناقص الكميات في الأسواق حال نفاد هذا المخزون الاحتياطي.

لم يكن المقصود مطلقاً مما سبق التقليل من الطاقة الإيجابية لدى المواطن والحكومة السورية الجديدة جراء هذه التحسينات أو التقليل من وجود إرادة قوية لإعادة بناء البلاد على أسس جديدة، ولكن من الضروري التنبيه إلى خدعة الانزلاق نحو الارتياح للتحسن السريع، وإغفال حقيقة الأسباب المؤدية له، وأن معظمها خارجي ومؤقت، وأن التحسن المستدام لا شك يحتاج إلى جهد شاق وسعي دؤوب لدفع الاقتصاد السوري نحو التنمية المستدامة، ولم تتولد واقعياً ملامح جادة وحقيقة دافعة نحو هذه الاتجاه.

وعموماً فإنه على الرغم من التحديات المستمرة والمتوقعة خلال المراحل القادمة من عمر الإدارة الوليدة، لكن بوادر الأمل تتجلى في تحسين مستوى المعيشة واستعادة الثقة بالاقتصاد الوطني، الذي يمتلك كل مقومات البناء التي يمكن بها تحقيق نهضة اقتصادية شاملة تعيد لسورية مكانتها الإقليمية والدولية.

المساهمون