دول أوروبية تضخ الأموال في روسيا عبر أطراف ثالثة

دول أوروبية تضخ الأموال في روسيا عبر أطراف ثالثة... ماذا بقي من العقوبات على موسكو؟

25 مايو 2023
قدرة روسيا استغلال الثغرات في العقوبات تثير قلق صناع القرار الغربي (فرانس برس)
+ الخط -

بالرغم من جولات الاتحاد الأوروبي لمعاقبة روسيا اقتصادياً على حربها في أوكرانيا التي بدأتها في فبراير/ شباط من العام الماضي، وتجاوزت 11 حزمة من العقوبات المشددة، إلا أن الكرملين لديه أسبابه التي تجعله يهزأ ببعضها، وبصورة خاصة الاستيراد من القارة الأوروبية وزيادة صادراته النفطية أكثر من السابق، إذ تصل منتجاته المكررة إلى الغرب نفسه.

وتكشف بعض التقارير الغربية المتابعة لتأثير عقوبات الاتحاد الأوروبي على روسيا أن موسكو تتفلّت مما وصفه الأوروبيون بخطط "تدمير قدرة روسيا على تمويل آلتها الحربية". ففكرة منع موسكو من استيراد وتصدير السلع الحيوية، وفرض عقوبات على الشركات والأفراد المرتبطين بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وبالطبع الخروج من الاعتماد على الطاقة الروسية، تبدو جميعها تعاني من ثغرات تسمح بالتحايل عليها.

صحيح أن الاتحاد الأوروبي وواشنطن عبّرا عن سعادتهما في يناير/ كانون الثاني وفبراير/ شباط الماضيين، بعد الكشف عن أن عائدات النفط الروسية تراجعت إلى النصف، بعد عام من غزو أوكرانيا، ولكن سرعان ما تحولت السعادة إلى خيبة من تدفق الأموال إلى موسكو خلال الأشهر الماضية.

ووفقاً لمركز أبحاث الطاقة والهواء النظيف "كريا" CREA شهدت عائدات النفط الروسية تزايداً من نحو 10 مليارات دولار إلى 12 ملياراً من يناير/ كانون الثاني حتى إبريل/ نيسان الماضي.

وتثير التقارير عن قدرة روسيا استغلال الثغرات في العقوبات الأوروبية قلقاً لدى صناع القرار الغربي. فموسكو التي انخفض تصديرها الطاقة عبر خطوط الأنابيب ذهبت إلى البحث عن عملاء جدد لشحن المزيد من النفط، إذ تزايد التصدير إلى الصين والهند وتركيا، إضافة إلى دول أخرى.

القلق الغربي مفهوم في سياق قدرة روسيا على تصدير منتجات نفطها إلى الأوروبيين أنفسهم، عبر تحايل واضح من خلال شركات أخرى تقوم باستيراد النفط وتكريره ثم إعادة شحنه إلى موانئ القارة العجوز، الحائرة في سد تلك الثغرات.

بل وبحسب تقارير وحسابات وكالة الطاقة الدولية، فإن روسيا صدرت من النفط أكثر من أي وقت مضى منذ إبريل/ نيسان 2020، بل واستفادت من فرض الدول السبع الكبار في ديسمبر/ كانون الأول الماضي سقف 60 دولاراً لبرميل النفط الروسي، إذ باتت فرصة لموسكو من أجل مفاوضة العملاء الجدد على السعر الذي ارتفع وفقاً لحسابات مركز أبحاث الطاقة والهواء النظيف "كريا"، وبشكل خاص منذ إبريل/ نيسان الماضي إلى ما فوق 60 دولاراً للبرميل.

غسل النفط الروسي في دول وسيطة

تكشف تقارير غربية متخصصة، وبعض الباحثين المتخصصين في متابعة العقوبات الغربية، أن غرض سقف السعر المحدد على النفط الروسي، والقاضي بتقليل أرباح روسيا، مع ضمان استمرار إمداد السوق العالمية بالنفط حتى لا ترتفع الأسعار بشكل فجائي، يعاني ضربات موجعة بعد أن أصبحت الصين والهند مشتريين رئيسيين بأكثر من 60 دولاراً للبرميل. بينما تنامي هذه التجارة بات يتسرب إلى أوروبا والولايات المتحدة واليابان وبريطانيا وكندا وأستراليا، والتي عملت بشكل حثيث على وضع سقف السعر ذاك.

وتحت مسمّى "غسيل النفط الروسي" يشير الباحثون في مركز أبحاث الطاقة النظيفة إلى أن حوالي ثلاث من كل أربع سفن تنقل النفط الروسي مملوكة أو مؤمن عليها في بلد غربي ساهم بوضع سقف لذلك السعر، أي من الدول الغربية، ما اعتبره المركز انتهاكاً للعقوبات على روسيا.

ووفقاً لحسابات المركز، فإن المشاركة الأوروبية في استغلال روسيا للثغرات في العقوبات تساهم بوضوح في زيادة عائدات النفط الروسية. ويوضح الباحثون أن 5 دول تشارك بصورة واضحة في منح روسيا فرصة التغلب على العقوبات وزيادة صادراتها من المنتجات البترولية المكررة، وهي الصين والهند وتركيا والإمارات العربية المتحدة وسنغافورة.

فعلى سبيل المثال زادت واردات الهند من النفط الروسي وحده بعشرة أضعاف في العام الماضي 2022، مقارنة بعام 2021. ويشير مركز الطاقة النظيفة إلى وجود "عملية غسل للنفط الروسي"، لافتاً إلى أن في دول الاتحاد الأوروبي هناك "عميل نهائي" للمنتجات النفطية الروسية المكررة رغم العقوبات.

وقال إسحاق ليفي، الباحث في مركز مركز الطاقة النظيفة، في تصريحات صحافية تعقيباً على ما توصل إليه الباحثون في المركز أخيراً، إلى أن عمليات تصدير النفط الروسي المكرر "تزيد من الطلب على النفط الخام الروسي، وهذا الأمر الذي يجعل من الممكن بشكل أساسي لبوتين تمويل الحرب".

بعبارات أخرى، يبدو أن الغرب الذي دفع نحو تضييق الخناق على روسيا باتت بعض دوله وجهة لصادرات روسيا النفطية. فقد كشفت تقارير صحافية أوروبية زيادة متسارعة لواردات الهند من النفط الروسي. وفي الأسبوع الماضي جرى الكشف عن أن سفينة Nautical Deborah غادرت ميناء فادينار على الساحل الغربي الهندي في مايو/ أيار العام الماضي، وبعد رسو مؤقت في بريطانيا، رست السفينة في ميناء كوبنهاغن الدنماركي، حيث تم تفريغ حمولتها، بحسب ما كشفت سجلات الميناء وفقاً لما نشرت صحيفة "يولاندس بوستن" في كوبنهاغن في التاسع من مايو/ أيار الجاري.

ويتعلق الأمر بصورة خاصة بإعادة تكرير النفط وتحويله إلى وقود للطائرات. بل من المثير أن الدنمارك وحدها اشترت منذ مارس/ آذار 2022 نحو 40% من وقود الطائرات من الهند، بينما لم يسجل شراء ذلك في سنوات سابقة. ويعطي ذلك بوضوح صورة عن مستوى تفلت روسيا من العقوبات، بل قدرتها على إشراك الغرب نفسه في تمويل ما تشحنه إلى الدول التي تعيد التكرير والتصدير إلى دوله.

الهند تزيد وارداتها من النفط الروسي بنحو 1400%

وأشارت كبيرة الاقتصاديين في البنك الوطني الفنلندي هيلي سيمولا إلى أن القواعد الحالية المتبعة في أوروبا لمحاصرة تصدير روسيا للنفط "تتطلب تغييراً شاملاً وجذرياً، إذ يبدو أن العقوبات تسمح باستيراد النفط الروسي وتكريره أو ما شابه ثم تصديره إلى أوروبا".

وبحسب ما نقلت وكالة بلومبيرغ الأميركية في 28 إبريل/ نيسان الماضي، فإن الفترة التالية للغزو الروسي لأوكرانيا شهدت زيادة الهند وارداتها من النفط الروسي الخام بنحو 1400%، وهو ما يوضح ما أشار إليه "مركز أبحاث الطاقة والهواء النظيف" بشأن أن العديد من الدول زاد استيرادها للنفط الروسي أكثر بكثير مما كان عليه قبل فرض العقوبات الغربية، فمثلاً زادت صادرات الصين من المنتجات النفطية إلى أوروبا وأستراليا في أواخر العام الماضي 2022 إلى أكثر من 150% من المتوسط، مقارنة بالربع الأول من نفس العام، ووصلت إلى 2.9 مليون طن في الربع الأخير.

ووفق تقرير مركز أبحاث الطاقة والهواء النظيف "كريا"، فإن الاتحاد الأوروبي ساهم في شراء النفط الروسي المكرر عبر دول أخرى بدفع نحو 17.7 مليار يورو (19.1 مليار دولار)، وأستراليا بـ8 مليارات يورو، وأميركا 6.6 مليارات يورو وكل من بريطانيا واليابان بنحو 5 مليارات يورو لكل منهما، خلال 12 شهراً من العقوبات.

كما أنه في السنة الأولى التي أعقبت الغزو الروسي لأوكرانيا، زادت وتيرة شحن روسيا لنفطها بحراً بنسبة 140% مقارنة بالفترة السابقة للغزو، وبصورة رئيسية نحو الدول التي أعادت تصديره، وذلك يشمل الصين والهند وتركيا والإمارات وسنغافورة، وبما يشكل 70% من صادرات الخام الروسية، حيث بلغت القيمة الإجمالية للواردات أكثر من 74 مليار يورو.

وذكر معدّو تقرير "كريا" أنه "نظراً لأن روسيا مجبرة على تقديم نفط مخفض سعرياً لضمان قدرتها على العثور على مشترين، فإن "دول المغسلة" تقوم بتكرير كميات أكبر من الخام الروسي المستورد ثم تقوم بتصدير المنتجات المكررة إلى الدول التي تفرض عقوبات، وبنسبة 26% من مجمل ما يجرى تكريره.

وأشار التقرير إلى أن دول تحالف "الحد الأقصى لسعر النفط الروسي" تساهم بصورة كبيرة في زيادة تصديره إلى "دول المغسلة"، والتي زادت في المتوسط حجم صادراتها من النفط المكرر بنحو 80%.

ومن الملفت أن مسألة إعادة تصدير النفط الروسي المكرر تجرى عملياً في الهند في مصفاة نفط مملوكة جزئياً لروسيا، ما يعني على سبيل المثال أن ما يصل ميناء كوبنهاغن من وقود طائرات هو بصورة غير مباشرة روسي المصدر وعوائده المالية يعود جزء منه إلى موسكو عبر نيودلهي.

وإذا جرى احتساب أن تكلفة إنتاج النفط الروسي لا تتجاوز 15 دولاراً للبرميل الواحد فمن الواضح أن احتساب 60 دولاراً وما فوق يعتبر "حافزاً كبيراً لمواصلة الإنتاج والتصدير، حتى ولو بسعر أقل من ذلك"، كما يوضح الباحثون في دراسة مسارات استغلال موسكو للثغرات في تطبيق العقوبات الغربية.

زيادة الصادرات لروسيا عبر "الحدائق الخلفية"

وخرق روسيا للعقوبات الغربية لم يعد يتعلق فقط بغسيل النفط وإعادة تصديره حتى للدول التي تفرض المقاطعة، بل من المثير للانتباه أن تقارير عدة باتت تؤكد أن تلك العقوبات لا تؤثر بالشكل الذي أمله الساسة الغربيون وفق ما كشفته صحيفة "بيلد" الألمانية نقلاً عن مكتب الإحصاء الحكومي في ألمانيا. فبرلين المنخرطة في جهود إضعاف موارد موسكو المالية تواجه ورطة قيام شركاتها بشكل متزايد بالتعامل مع دول لم تتعامل معها سابقاً، وتشكل "حدائق خلفية" لتحايل روسيا على عقوبات الغرب، مثل كازاخستان وأرمينيا وجورجيا، وغيرها في وسط آسيا.

وتوضح المؤشرات أن الصادرات الألمانية زادت إلى قرغيزستان بنسبة 994%، وإلى طاجيكستان بنحو 150%، بل وحتى إلى بيلاروسيا بواقع 77%. ما يعني أنه يجرى الالتفاف على العقوبات، فبدل التصدير المباشر إلى روسيا تقوم الشركات بتصدير إنتاجها إلى دول أخرى ليتم بعدها إعادة توجيهه إلى موسكو.

واختراق العقوبات الغربية على روسيا لا يتم فقط عبر صفقات مع دول من خارج الاتحاد الأوروبي، بل باتت قبرص، العضو في الاتحاد الأوروبي، سوقاً خلفياً لروسيا، بفضل التعاون الوثيق بين نيقوسيا وموسكو. ويعد باحثون أوروبيون قبرص ساحة لنشاط النخب الروسية لمساعدة بلدهم على تحقيق مصالحه والتغلب على العقوبات.

وكشفت في الآونة شبكة التحقيق الدولية، مشروع الإبلاغ عن الجريمة المنظمة والفساد (OCCRP) عن كيفية قيام "شركة قبرصية بمساعدة شركة روسية تتبع الأوليغارشي الروسي، كونستانتين مالوفييف، أحد المهندسين الرئيسيين وراء خطة الروس لسرقة الأصول الأوكرانية في الأراضي المحتلة (في أوكرانيا)".

اختراق قبرص يحرج الاتحاد الأوروبي

يشكل الاختراق الروسي في قبرص مشكلة للجزيرة في العلاقة مع الاتحاد الأوروبي، وبصورة خاصة بعد أن جرى توثيق استفادة الأوليغارشية الروسية من العلاقة الوثيقة بنيقوسيا.

ونشرت صحيفة "ذا غارديان" البريطانية وموقع "ستوك ووتش" مؤخراً أن الحكومة الأميركية أرسلت وثائق من 800 صفحة للحكومة القبرصية تتعلق بانتهاك الشركات القبرصية للعقوبات. دفع ذلك رئيس قبرص، نيكوس كريستودوليدس، خلال خطاب ألقاه أمام قادة الأعمال، إلى الإعلان أن "من الأهمية بمكان أن نتعامل مع هذا بالجدية اللازمة، وأن نفعل ما في وسعنا لتجنب أن يشوه أي شخص سمعة بلدنا".

وفي نهاية إبريل/نيسان الماضي نشرت صحيفة "سايبرس ميل" القبرصية أنه سيجري في الأشهر القادمة إغلاق آلاف الحسابات المصرفية، بناء على العقوبات الغربية. وذكرت الصحيفة أنه جرى إخطار نحو 4 آلاف روسي لا يقيمون في قبرص بأنه سيجرى تجميد حساباتهم خلال شهرين.

وعلى ضوء تزايد مؤشرات قدرة موسكو على استغلال الثغرات في العقوبات الغربية، ذهبت المفوضية الأوروبية، قبل أسبوعين، إلى اعتبار أن الحزمة الحادية عشر الجديدة التي تدرسها تهدف للتعامل مع انتهاك العقوبات والتحايل عليها.

واعترفت رئيسة المفوضية، أورسولا فون ديرلاين، بأنه "في الآونة الأخيرة شهدنا زيادة في حركة غير عادية للغاية للبضائع من الاتحاد الأوروبي إلى بلدان ثالثة معينة، ثم ينتهي الأمر بالبضائع في روسيا، وهذا هو السبب في أننا نقترح أداة جديدة للعقوبات".

ومن بين المقترحات على طاولة الأوروبيين، فرض عقوبات تشمل منع تصدير إلى طرف ثالث يشك بأنه يقوم بتصديرها إلى روسيا، وذلك بالطبع أمر صعب ويضر بمصالح الشركات الأوروبية وبمصالح الاتحاد الأوروبي عموماً، ما يوضح مدى صعوبة استخدام العقوبات كوسيلة سياسية في سياق النزاعات السياسية الكبرى حول العالم، وفق محللين.

المساهمون