حديث الغضب مع فتاة بيع "البراندات"

حديث الغضب مع فتاة بيع "البراندات"

04 يوليو 2022
محلات ملابس نسائية في القاهرة (getty)
+ الخط -

بعد دخول المركز التجاري الشهير في العاصمة المصرية القاهرة، أدهشتني كثرة المحلات التجارية التي أغلقت أبوابها، والإضاءة الخافتة في محلات" البراندات" Brands، ونحن على أعتاب موسم تخفيضات الصيف والأعياد.

لاحظت الفتاة باريسية الأناقة، التي اعتدت رؤيتها واقفة على مقربة من المعروضات، تراقب حركتي من بعد. عندما فحصت قطعة ملابس، نويت شراءها منذ فترة، أنها هي ذات القطعة، التي رأيتها في موسم الشتاء.
دون أن أنطق بكلمة، قالت الفتاة بغضب: "نعم هي شتوية، وقديمة من الموسم الماضي". حاولت التظاهر بالابتسام، في وجه الموظفة التي طالما نظرت للعملاء بابتسامة رقيقة، رغم ما تلاقيه من مشقة لترضيتهم، فلاحظت أن وجهها النقي يزداد عبوساً. حاولت تلطيف الأجواء، بعد أن رأيت جدية شديدة في وجهها، والتجاعيد التي ظهرت، من كثرة التكشير، فطلبت التعرف على قائمة التخفيضات.
قالت: "في الحقيقة، لا تخفيضات الآن، رغم أن البضاعة قديمة، ولا تناسب موسم الصيف". تعجبت، وأصررت على المزاح، قلت: إذن هذه هدايا لعملائكم القدامى، فردت بحدة: هذه بضاعة راكدة، فلم يعد يهم الشركة إلا تواجدها على الأرفف، لحين معرفة مصيرنا المجهول!
تكلمت الفتاة المتحفظة، ضاربة بتعليمات إدارة شركتها الدولية عرض الحائط. خرجت الكلمات كالبركان الغاضب، وقالت: هذا ما نلناه من الحكومة وقراراتها السخيفة، فالبضائع الجديدة، معطلة في الجمارك منذ 4 أشهر، وترفض الجمارك خروج الشحنات، بعد قرار البنك المركزي المصري بتغيير نظام دخول الواردات.
وتكمل قائلة: "هكذا تتعامل الدولة مع الناس، تغير القوانين والتعليمات فجأة، دون أن تنظر إلى خطورة ما تفعله، ولا توقيتات التنفيذ. هل تعلم الحكومة أن رواتبنا الآن انخفضت 50%، ولا نحصل على أية حوافر، لأننا لا نبيع ولا نشتري؟!".
أشارت الفتاة بيدها للمحلات الشهيرة التي أغلقت فروعها بالمركز التجاري حديث العهد، وقالت: إذا لم تكن الحكومة مهتمة بالنظر إلى توابع قراراتها، وإلى الملايين التي أنفقت على هذه المشروعات، من أصحاب المحلات، فلم لا تهتم بأنها في لحظة أغلقت بيوت الناس العاملة بها، وحطمت حياتهم دون أن تدري؟!
استطردت الفتاة التي تحولت في لحظة إلى سيدة عجوز، تخرج الكلمات منها كالرصاص: هل يعلم صاحب القرار، أن واحدة مثلي، بل ومئات الآلاف، ستنقلب حياتهن رأسا على عقب، ألم يكن أولى أن تحذر الناس وتمنحهم فرصة لتدبير بدائل لأعمالهم وحياة العاملين معهم، فمن لم يكن لديه أولاد في مدارس أو أقساط شقة أو سيارة، فكيف سيضمن أن يعيش، في ظل هذا الوضع غير المحددة نهايته، وفي ظل حالة الغلاء الشديدة التي طاولت كل شيء، وعدم وجود أية فرصة عمل كريمة للنساء.

لم أجد كلمات أواسي بها الفتاة التي لا تعرف مع من تتحدث، ولم أرها من قبل إلا باسمة الوجه أنيقة المظهر، تتنقل بسرعة البرق بين المعروضات، وكأنها تلاحق فراشات. حاولت مواساتها، بأن الجميع يواجه مشاكل من نوع آخر، والدولة تحتاج الدولارات لتوفير الغذاء للمواطنين، فلو توقف الأمر على الملابس المستوردة، يمكنكم تدبير البديل من المصانع المحلية. أشارت الفتاة بيدها تجاه معروضات نشرتها مؤخرا إدارة المركز التجاري.
وقالت: هذه البضائع لمشروعات شباب الخريجين، وشركات صغيرة تحاول أن توفر الملابس الجيدة، كبديل للمستورد، اذهب لتعرف أن مبادراتهم، التي ترعاها الحكومة، تحولت إلى كوابيس، بعد أن أنفقوا كل ما لديهم لشراء ماكينات الإنتاج، بينما لا يقدرون حاليا على استكمال عملهم، لحاجهم الشديدة إلى خيوط التطريز أو أزار الملابس.
قالت الفتاة: لا توجد صناعة في مصر، مهما كانت بسيطة، لا تحتاج إلى بعض مكوناتها من الخارج، والدولة لم تراع هذه الحقيقة، وكل ما يقوله المسؤولون عن تسهيل الإنتاج، عبارات لا علاقة لها بالواقع، فهذا المشروع الذي ترعاه الدولة لشباب الخريجين أبرز مثال على ذلك، فهي لم تحطم الشركات الكبرى، التي يمكنها الصمود وعدم تسريح العمال بسرعة كما تفعل شركتنا، وإن كان ذلك لن يستمر للأبد، ولكن تميت المشروعات الصغيرة التي في حاجة ماسة إلى استيراد أبسط مكوناتها من الخارج.
لم أستطع ملاحقة حوار غاضب من فتاة جميلة، وقلت لها بخبث مهني، هل شركتك تستطيع أن تتحدث في هذا الأمر للمسؤولين أو الصحافة؟ قالت: أعلم أن الإدارة أرسلت شكاوى لمجلس الوزراء، مثل غيرها من الشركات، منذ فترة طويلة، وتتابع الأمر يوميا، ولكن الحكومة لا ترد عليهم، مع ذلك ما زال لديهم أمل، نخشى أن يتلاشى إذا استمر ذاك الحال، لنفاجأ بالغلق مثل غيرها، وتهجر مصر كما فعلت العديد من الشركات.
دعوت لها، بأن يصلح الله الأحوال، ورسمت ابتسامة شفقة، وانسحبت من المشهد، فزاد الأمر كآبة، حينما رأيت عشرات المحلات الكبيرة تصفى أعمالها في مصر، بينما هناك من أغلق منذ أيام.
أسرعت بالخروج، فإذا بي أجد الفتاة، جالسة على مدخل المركز، تدخن سيجارة بتأفف شديد، تصنعت عدم رؤيتها، وجريت إلى السيارة، لمغادرة المكان على وجه السرعة.
آلام زيارة المركز التجاري العالمي، الذي يقصده الناس للبهجة، دفعتني للتدقيق بأن غضب الفتاة تحول إلى ظاهرة، تبدو أحيانا في مشاجرات بالمواصلات العامة، وتجمعات الناس.

فلا تظهر عادة أسباب الأمراض أمام العوام، ولكن العنف الذي يشهده المجتمع الآن لا يحتاج إلى قول خبير. لم يعد العنف يخص الشباب المحبط الذي يلجأ للمخدرات والقتل، للتعبير عن سخطه، على مجتمع لا يتيح له ساحة الحوار، ولا يمنح له الفرصة للعمل الشريف وإثبات قدراته، ولكن يأتي أيضا من فتيات أصبحن يتحملن فوق طاقتهن من مسؤوليات عظيمة، بينما الدولة لا تنظر إلى حقهن في العمل والحياة الكريمة.
يستطيع الرجال غير القادرين على الكسب أن يمارسوا أية أعمال، بعيدة عن تخصصاتهم وبيوتهم والتعبير عن كبتهن بطريق عديدة، أما الفتيات فالدولة والمجتمع يضعنهن في ركن ضيق لا خيار فيه. فرغم أن أغلب الحاصلات على الدكتوراه والماجستير من النساء ولا سيما التخصصات الهندسية والطبية والكيميائية، إلا أن نسبتهن في قوة العمل، لا تزيد عن 14.3%، مقابل 67.4% للذكور.
ورغم أن البيانات الرسمية تظهر ارتفاع معدلات البطالة بينهم أعلى 3 أضعاف نسبة النساء، إلا أن الدولة ترصد المتقدمات للعمل، فقط، بينما هناك الملايين من العاملات في الحقول والأسواق، والخريجات الباحثات عن عمل بعيدا عن الحكومة لا يتم رصدهم في التقارير الرسمية. أخشى أن تتحول نظرة الغضب من الفتاة الباريسية، وأمثالها إلى تصرفات مجنونة، تدهش الجميع.

المساهمون