تركة 2020 الثقيلة على لبنان

تركة 2020 الثقيلة على لبنان

25 يناير 2021
إفلاسات المتاجر تتزايد مع تفاقم الأزمة المالية في لبنان
+ الخط -

بالنسبة إلى اللبنانيين، جمعت 2020 أقسى ما يمكن أن يتخيله المرء من نكبات ومصائب، من انهيار القطاع المالي وإعلان الدولة تعثّرها في سداد ديونها، إلى تفشّي وباء كورونا في ظل نظام صحّي مهشّم، وصولاً إلى انفجار المرفأ وما نجم عنه من دمار واسع النطاق في العاصمة بيروت.

لكنّ نهاية السنة لن تعني قلب صفحتها، إذ يبدو من خلال المؤشرات المتوفّرة في بداية العام الحالي أن تركة 2020 الثقيلة ستلاحقنا خلال هذا العام، وأن التحديات التي سنكون أمامها خلال الفترة المقبلة لن تقل قسوة عن ما شهدناه في العام الماضي.

خلال العام 2020، خسر مصرف لبنان المركزي نحو 12.73 مليار دولار من احتياطاته بالعملة الصعبة القابلة للاستخدام، فيما تبقى من هذه الاحتياطات السائلة حتّى منتصف شهر ديسمبر/ كانون الأول الماضي نحو 19.85 مليار دولار، ما يعني أنّ المصرف المركزي خسر خلال العام الماضي نحو 39% من احتياطاته السائلة بالعملات الأجنبيّة خلال سنة واحدة. 

يقدّر حاكم المصرف المركزي، رياض سلامة، حجم السيولة القابلة للاستخدام من هذه الاحتياطات المتبقية بنحو ملياري دولار، فيما تمثّل القيمة المتبقية منها الاحتياطات الإلزاميّة التي فُرض على المصارف إيداعها لدى المصرف المركزي كضمانة لأموال المودعين، وهو ما يعني عدم إمكانيّة المساس بها.

وبذلك، يصبح من الواضح أن على البلاد أن تتحضّر خلال الربع الأوّل من العام الجاري 2021 للخروج من حقبة دعم الاستيراد كليّاً، مع ما يعنيه ذلك من تضاعف في أسعار المواد الأساسيّة، وما سينجم عن هذه المسألة من أزمات قاسية على المستوى المعيشي.
في المؤشرات المتاحة اليوم، يتبيّن أن التزامات المصرف المركزي لمصلحة المصارف بلغت في بداية هذا العام نحو 107.95 مليارات دولار، منها نحو 72 مليار دولار من الالتزامات المقوّمة بالعملات الأجنبيّة، حيث تمثّل هذه الالتزامات دولارات المودعين التي وظّفتها المصارف لدى المصرف المركزي. 
على أي حال، ما تبقى لدى مصرف لبنان من هذه الدولارات كأموال سائلة لا يتجاوز حدود الـ19.85 مليار دولار، ما يعني أن الفجوة بين التزامات مصرف لبنان والموجودات السائلة المتبقية لديه بالعملات الأجنبيّة أصبحت تتخطى مستوى الـ52 مليار دولار، وهو ما يمثّل نحو 46% من الودائع المصرفيّة بالعملات الأجنبيّة.

هذه الفجوة، ستكون التحدي الأكبر خلال العام الحالي، خصوصاً من جهة طريقة التعامل مع حالة التعثّر التي يمر بها القطاع المالي، وكيفيّة إعادة الانتظام إلى هذا القطاع.

مع العلم أن هذه الفجوة تشكّلت تحديداً من خلال إصرار المصرف المركزي طوال السنوات الماضية على استعمال دولارات المودعين للدفاع عن سعر الصرف وتثبيته، في ظل تنامي أزمة ميزان المدفوعات منذ 2011. لا، بل فاقم من سوء الأزمة توسّع المصرف المركزي في الهندسات الماليّة التي هدفت إلى امتصاص سيولة المصارف، لاستعمالها على هذا النحو.

لكنّ التصحيح في ميزانيّة المصرف المركزي هذا العام، سيتطلّب التعامل مع أمور أخرى أيضاً، كبند "الموجودات الأخرى" في الميزانيّة الذي أشارت إليه شركات التدقيق المحاسبي الأجنبيّة، لكونه البند الذي يستعمله مصرف لبنان "بأساليب محاسبيّة غير تقليديّة" لإخفاء بعض الخسائر وتأجيل التعامل معها.

فمع بداية العام، ارتفعت قيمة هذا البند بنسبة 99% مقارنة بالفترة المماثلة من العام الماضي، لتبلغ نحو 49.68 مليار دولار. هذه القيمة باتت توازي اليوم نحو 31% من إجمالي موجودات المصرف المركزي، وهو ما يعبّر بوضوح عن حجم خسائر المصرف التي يفترض أن يتعامل معها لبنان خلال الفترة المقبلة، بالإضافة إلى حجم التصحيح الضخم المطلوب في الميزانيّات.

التحدي الأكبر خلال العام الحالي سيكون كيفيّة التعامل مع أزمة التحويلات الخارجيّة، وتحديداً العجز في ميزان المدفوعات، وهو المؤشّر الذي يتسم بكثير من الحساسيّة بالنسبة إلى الأزمة اللبنانيّة لكونه يلخّص صافي التبادلات الماليّة بين لبنان والخارج. 
فخلال العام الماضي، تجاوز عجز هذا المؤشّر مستوى الـ9.98 مليارات دولار لغاية شهر أكتوبر/ تشرين الأوّل، وهو ما مثّل مستوى قياسيا من العجز لم تشهده البلاد في تاريخها.

مع العلم أن العجز الذي جرى تسجيله هذا العام جعل حجم العجوزات المتراكمة في ميزان المدفوعات منذ بداية الأزمة يتجاوز حجم جميع الفوائض التي جرى تسجيلها منذ انتهاء الحرب الأهليّة عام 1990. أمّا استعادة التوازن في ما يخص ميزان المدفوعات، فبات يتعلّق بمسار طويل وشاق ينبغي المرور به لاستعادة الثقة بالنظام المالي اللبناني بأسره.
وبعيداً عن حالة الانهيار التي تصيب القطاع المالي، تقف البلاد أمام تحديات أخرى لا تقل خطورة. فحصّة الفرد من الناتج المحلي انخفضت وفقاً لصندوق النقد الدولي من 7660 دولار في بداية العام الماضي إلى 2740 دولارا اليوم، ما يعني أن اللبنانيين خسروا جرّاء الأزمة ما يقارب الـ65% من حصة الفرد من الناتج.

أما الأهم، فهو أن اللبنانيين خسروا عقودا من النمو الاقتصادي الذي تمكنت البلاد من تحقيقه، وعادوا إلى مستويات المداخيل التي كانت موجودة بعد انتهاء الحرب الأهليّة في بداية التسعينيات.

أمام كل هذه التحديات التي يواجهها لبنان في بدايات العام، لا يبدو أن هناك ما يبشّر بقدرة الدولة على التعامل مع هذه التحديات. فالمفاوضات مع صندوق النقد الدولي، الرهان الوحيد الذي اختارته السلطة السياسيّة، مجمّدة، والعمل على خطة الإصلاح المالي التي يفترض أن تقود القطاع المالي نحو الانتظام مجدداً مجمّد أيضاً. 
ومع استمرار الشغور في السلطة التنفيذيّة نتيجة عدم وجود حكومة مكتملة الصلاحيات، لا يمكن انتظار أي من الإصلاحات المطلوبة لاستقدام الدعم الخارجي، أو إعادة تصحيح الخلل على مستوى النظام المالي. قد نكون طوينا صفحة الـ2020، لكن ما نرجوه اليوم هو أن لا تكون السنة الحاليّة أقسى.

المساهمون