استمع إلى الملخص
- تعتمد أوروبا على الغاز الطبيعي المسال لتعويض النقص، مما يسبب منافسة شديدة مع آسيا وأميركا الجنوبية، ويرفع الأسعار ويؤثر على الدول الهشة مالياً مثل مصر.
- تستفيد الولايات المتحدة من الأزمة بزيادة صادرات الغاز الطبيعي المسال بنسبة 15%، مما يعزز اقتصادها ويضع ضغوطاً إضافية على أوروبا.
لأول مرة منذ أن فاقمت الحرب الروسية في أوكرانيا أزمة الطاقة تواجه أوروبا خطر عدم تحقيق أهداف تخزين الغاز الطبيعي للشتاء المقبل، ما يهيئ الساحة لسباق محموم للحصول على الإمدادات، في وقت زادت فيه الولايات المتحدة ضغوطها على مصادر الإمداد الروسية بتوسيع العقوبات ضدها، ما يدفع الأسعار نحو الصعود ويربك حسابات الكثير من الدول الناشئة المستوردة في أفريقيا وآسيا وأميركا الجنوبية، لا سيما المأزومة مالياً، ومنها مصر التي تحولت من بلد مُصدّر إلى مستورد.
ورغم امتلاك أوروبا احتياطيات كافية لتجاوز الشتاء الحالي، إلا أن المخزون يتناقص بسبب موجة الطقس البارد التي اجتاحت القارة خلال الأيام الأخيرة. كما تقلصت خيارات الإمدادات منذ بداية العام مع توقف عمليات نقل الغاز عبر خطوط أنابيب روسيا التي تمر بأوكرانيا بعد انتهاء اتفاقية العبور بنهاية ديسمبر/ كانون الأول 2024.
وقبل اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في 2022، كانت روسيا المورد الأكبر للغاز الطبيعي للاتحاد الأوروبي بنسبة 45% من مجمل الاستهلاك الأوروبي للغاز، بفضل استثمارات بمليارات الدولارات في خطوط الأنابيب. ورغم أن حصة روسيا في محفظة الغاز الأوروبية بلغت 201.7 مليار متر مكعب في عام 2018، فإن هذه الكمية انخفضت بشكل كبير إلى نحو 35 مليار متر مكعب في عام 2023. ومن هذه الكمية، تم نقل 15 مليار متر مكعب عبر خطوط الأنابيب التي تمر بأوكرانيا في 2023 وارتفع قليلاً إلى قرابة 16 ملياراً في 2024، بينما تم تسليم الباقي على شكل غاز طبيعي مسال.
وقال فرانسيسكو بلانش، الخبير الاستراتيجي في السلع الأساسية في "بنك أوف أميركا"، وفق تقرير لوكالة بلومبيرغ الأميركية: "ستشهد أوروبا بالتأكيد فجوة طاقة خلال العام الجاري. هذا يعني أن كل الغاز الطبيعي المسال الإضافي الذي سيدخل السوق في العام الحالي سيستخدم لتعويض هذا النقص في الغاز الروسي".
أوروبا تحتاج إلى استيراد 10 ملايين طن إضافية
ولتلبية الطلب المتوقع، ستحتاج أوروبا إلى استيراد ما يصل إلى عشرة ملايين طن إضافية من الغاز الطبيعي المسال سنوياً، أي بزيادة حوالي 10% عن 2024، وفق ما ذكره سول كافونيك، محلل الطاقة في شركة "إم إس تي ماركيه" في سيدني. وما زالت عقود الغاز المستقبلية في أوروبا، التي تؤثر عادة على أسعار الغاز الطبيعي المسال الفورية في آسيا، أعلى بنسبة 45% تقريباً مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، وتُتداول العقود بنحو 3 أضعاف مستوياتها ما قبل الأزمة حتى الآن.
وقال جايسون فير، رئيس وحدة تحليل المعلومات التجارية العالمية في شركة الوساطة في مجال الطاقة "بوتن أند بارتنرز" في هيوستن: "سيتفاقم ارتفاع الأسعار إذا استُنزف مخزون منطقة آسيا والمحيط الهادئ أيضاً، وهو ما سيقود لمنافسة على الشحنات".
ولا يعد إيجاد بدائل للغاز أمراً سهلاً لجميع المرافق والقطاعات، ما يشكل تحدياً خاصاً لألمانيا التي كانت تعتمد على روسيا لتلبية أكثر من نصف إمداداتها من الغاز قبل الغزو الروسي لأوكرانيا خلال 2022. ومع معاناة القطاع الصناعي تحت وطأة التكاليف المرتفعة، أصبح أمن الطاقة قضية رئيسية في الانتخابات المبكرة المقرر إجراؤها في ألمانيا في 23 فبراير/ شباط المقبل. ويحتل حزب "البديل من أجل ألمانيا" اليميني المتطرف المركز الثاني في استطلاعات الرأي، ويعود ذلك جزئياً لدعوته لإعادة إحياء إمدادات الغاز الرخيصة عبر خطوط الأنابيب الروسية لتعزيز القدرة التنافسية لقطاع التصنيع.
وتُظهِر أحدث البيانات أن مخزونات الغاز الطبيعي في الاتحاد الأوروبي ممتلئة بنسبة 71.8% في بداية العام الجاري، وهو ما يقل كثيراً عن متوسط 16 عاماً الذي بلغ 74.29% للنقطة الزمنية نفسها. ويشير هذا إلى أن زيادة الطلب على التدفئة وتقليص الإمدادات من شأنهما أن يجبرا القارة على استنزاف الإمدادات بأسرع معدل في أربع سنوات.
ومع قلة الخيارات لإعادة ملء المخزونات استعداداً للشتاء المقبل، ستحتاج أوروبا إلى شحنات الغاز الطبيعي المسال، ما يعني سحب جزء منها من آسيا، موطن أكبر المستهلكين في العالم. وستكون الدول النامية في آسيا الخاسر الأكبر أمام قدرة أوروبا على دفع أسعار مرتفعة للغاز، إذ يجري بالفعل تحويل مسار بعض الشحنات للاستفادة من الأسعار الأعلى.
الوضع مشابه في أميركا الجنوبية، حيث عانت البرازيل من صعوبات في تعويض انخفاض توليد الطاقة الكهرومائية خلال فترة جفاف، وربما تدخل الأرجنتين في المنافسة على الغاز الطبيعي المسال لتلبية احتياجات موسم التدفئة المقبل.
التنافس على الشحنات يرفع الأسعار ويضر الدول الهشة مالياً
وبحسب مدى تطور الطلب، قد يسفر التنافس عن زيادة الأسعار إلى مستويات لا تستطيع دول مثل مصر وبنغلاديش تحملها. وتعتبر مصر عرضة للخطر، حيث فاجأت السوق العام الماضي بتحولها من مُصدّر للغاز الطبيعي المسال إلى مستورد. ونتيجة انقطاعات التيار الكهربائي خلال الصيف، رفعت البلاد مشترياتها إلى أعلى مستوى منذ 2017، وفق بيانات تتبع شحنات جمعتها بلومبيرغ. ومن المرجح أن تحتاج مصر إلى عشرات الشحنات خلال العام الحالي لمواجهة حرارة الصيف.
في الجهة المقابلة، فإن بائعي الغاز الطبيعي المسال، الذين يستفيدون بالفعل من الأسعار المرتفعة، تمنحهم الأزمة فرصاً جديدة. وفي بعض الحالات، قد يتمكن المنتجون من زيادة سعتهم الإنتاجية كما حدث خلال أزمة 2022، بحسب أوغان كوسي، المدير الإداري في شركة الاستشارات "أكسنتشر".
وتتجه الأنظار حالياً صوب الولايات المتحدة الأميركية، أكبر مورّد للغاز الطبيعي المسال حول العالم، التي قدمت وعوداً لإنقاذ أوروبا من أزمة شح الغاز. لكن ورقة الغاز قد تتحول إلى خنجر في ظهر أوروبا عبر فرض أسعار أعلى عليها، إذ من المتوقع أن يزداد الضغط مع تولي ترامب الرئاسة، وقد هدد بالفعل بفرض رسوم جمركية في حال لم تشتر أوروبا المزيد من الطاقة الأميركية.
ونتيجة للعقوبات المفروضة على موسكو بسبب الحرب في أوكرانيا، فقدت روسيا العديد من عملائها لصالح موردي الغاز الطبيعي المسال، على رأسهم الولايات المتحدة. وتشير التوقعات إلى أن صادرات الغاز الطبيعي المسال الأميركية ستنمو 15% تقريباً خلال العام الجاري، بفضل زيادة الإنتاج الناجمة عن توسعات في العديد من منشآت الغاز. وقد تقدم خطة دونالد ترامب لزيادة صادرات الغاز الطبيعي المسال دفعة بقيمة 1.3 تريليون دولار للاقتصاد الأميركي، مع استعداد صناعة النفط والغاز للحصول على الضوء الأخضر لبناء مرافق تصدير وخطوط أنابيب جديدة في خليج المكسيك، وفق تقرير لصحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية، أمس الثلاثاء.
وتتوقع مؤسسة "ستاندرد آند بورز" أن تتضاعف قدرة تصدير الغاز الطبيعي المسال الأميركي على مدى السنوات الخمس المقبلة. وقال آلان أرمسترونغ، الرئيس التنفيذي لشركة ويليامز، وهي إحدى أكبر شركات خطوط أنابيب الغاز في الولايات المتحدة: "لدينا بالفعل عقود كبيرة مع كبار موردي الغاز الطبيعي المسال، ونتوقع بالتأكيد الحصول على المزيد من ذلك".
وتفتخر الولايات المتحدة بالفعل بأكبر قطاع للغاز الطبيعي المسال في العالم، ومن المتوقع أن تكون الصناعة من بين أكبر المستفيدين من التغيير في الإدارة الأميركية. وقال أناتول فيجين، كبير المسؤولين الصناعيين في شركة "شينير إنرجي" الأميركية، أكبر مصدّر للغاز المسال في الولايات المتحدة، إن أميركا ستظل أكبر مصدر للغاز الطبيعي المسال في العالم لعقود قادمة.
وظلت أوروبا الوجهة المفضلة لصادرات الغاز المسال الأميركية في 2024، حيث شكلت القارة العجوز 55% من إجمالي الشحنات الأميركية. وتصدرت هولندا قائمة أكبر الدول المستوردة بواردات تجاوزت 9.14 ملايين طن، ويمثل ذلك قرابة 10.48% من إجمالي الصادرات الأميركية. وحلت فرنسا في المرتبة الثانية، بواردات حجمها 7.02 ملايين طن من الغاز المسال الأميركي، بما يعادل 8.05% من إجمالي الصادرات.