تحرير لبنان من عصابة الاقتصاد المحروق

28 يناير 2025
محتجون أمام قصر العدل في بيروت يطالبون بإفراج البنوك عن ودائعهم، 9 سبتمبر 2024 (فرانس برس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- تعرض الاقتصاد اللبناني لسياسة الأرض المحروقة، حيث دمرت البنى الاقتصادية الأساسية لصالح قادة المافيا من خلال التلاعب بسعر الصرف وفرض أسعار فائدة مرتفعة، مما أهمل القطاعات الإنتاجية وترك المواطنين في تبعية للأحزاب.
- منذ 2019، شهد لبنان تدهورًا اقتصاديًا حادًا مع نهب أموال المودعين وتهريبها، مما أدى إلى انخفاض الناتج المحلي وزيادة الدين العام، وارتفاع معدلات الفقر والبطالة، مما يتطلب أدوات جديدة للخروج من الانهيار.
- انتخاب نواف سلام وجوزاف عون أظهر بوادر أمل، لكن الحكومة تواجه تحديات في تنفيذ إصلاحات اقتصادية حقيقية، مع غياب المحاسبة على الفساد، ويبقى تحرير الاقتصاد واعتماد سياسات تخدم المواطن السبيل للنهوض.

تقوم سياسة الأرض المحروقة في الاستراتيجيات العسكرية على إحراق أيّ شيء قد يستفيد منه العدو عند التقدم أو التراجع في منطقة معينة، ضمناً هدم البنى الاقتصادية الأساسية التي يمكن أن توفر أسساً للحياة. وقد تعرض الاقتصاد اللبناني إلى استراتيجية مشابهة على مرّ سنوات طويلة من حكم العصابة لمفاصل ماليته وسياسته وأمنه وقضائه، وكذا تدمير المؤسسات العامة، بخاصة الخدمية منها.

منذ بدء تشكيل بنية الاقتصاد اللبناني ما بعد الحرب الأهلية، لم يكن المواطنون ورفاههم هدفاً للسياسات النقدية والمالية المتبعة، لا بل كان العكس هو الركيزة. وبدعم من النظام السوري الذي كان يعيّن المسؤولين ويعزلهم، وتواطؤ المجتمع الدولي الذي كان جاهزاً دائماً لفتح مزادات الإقراض والمنح لدعم استمرارية المنظومة، صبّت العصابة الحاكمة، كل جهدها في تكوين الثروات الهائلة الفردية لقادة المافيا على حساب حقوق المواطنين، حتى البديهية منها. بدءاً بالتلاعب بسعر الصرف في مطلع التسعينيات وتحديد أسعار مرتفعة للفائدة التي رسّخت الخلل النقدي في مقابل تسريع تعاظم الأموال المكتنزة للقلة الثرية، وصولاً إلى خلق نظام اقتصادي ريعي بالكامل، يحول لبنان إلى "كازينو الشرق" في مقابل إهمال وحتى ضرب القطاعات الإنتاجية، على الرغم من إمكانياتها الواعدة في توفير الاستثمارات المستدامة والنمو الاقتصادي الخلّاق للوظائف والرفاه.

لم تكن هذه السياسات عشوائية يوماً، بل كانت مرتبطة بعلاقة طردية متواصلة مع ضرب جوهر المواطنة ومصالح القاعدة الكبرى من اللبنانيين. تقاسمت العصابة المناطق في الجنوب والبقاع والشمال وبيروت والجبل. لكل زعيم أرضه، وفي كل أرض كان الزعيم يفرض سياسة الاقتصاد المحروق، حيث تختفي المصانع إلا إذا كانت مرتبطة بالحاكم مباشرة أو بعائلات توفر مصالحه الانتخابية، فيما تكون الاستثمارات أشبه بصفقات للزعيم حصة فيها حتى لو كانت لا تتعدى تأهيل طريق أو وضع عمود للكهرباء.

أما القطاع الزراعي، فقد عانى ما عاناه من إهمال مبرمج حصر المنتوجات بقلة قليلة من السلع، التي غابت عن غالبيتها المتابعة الرسمية لتكون مؤهلة للتصدير في حال وفرتها. كذا، استهدفت المستشفيات العامة بميزانيات ضئيلة، وبحشو توظيفي حزبي وسياسي، بل إنّ عدداً منها أصبح يحمل اسم الزعيم مباشرة. وفي السياق، ضُربت كل شرايين التواصل بين هذه الجزر المحروقة المصطنعة، بحيث كانت مشاريع النقل العام صفقات للسمسرة حيناً، وللإهمال المتعمد أحياناً، بحيث أصبح البلد بلا منظومة نقل تربط القرى بالمدن، وتسهل تنقل المواطنين بحثاً عن وظائف خارج الجزر المحروقة.

النتيجة كانت تحويل آلاف اللبنانيين إلى مرتزقة لدى الأحزاب غصباً، سعياً لبطاقة استشفائية في مستوصف عام أصبح تحت سلطة الأحزاب، وفرصة عمل في الحزب مقابل راتب وسلطة، أو وظيفة في مؤسسة عامة حولتها العصابة إلى مركز خدمات خاصة، والقليل من المازوت للتدفئة من جهة، أو بطاقة لتعبئة البنزين من جهة أخرى، فيما كان الأتباع المخلصون يسيطرون على الاقتصاد الموازي الذي تديره العصابة ذاتها بعوائد مباشرة أو فقط لتمويل التبعية، عبر خلق منظومة مولدات الكهرباء، وتعبئة المياه، والإنترنت غير الشرعي، والتهريب، والحماية الأمنية لبعض الأحياء والأسواق التجارية، وصولاً إلى إعطاء عدد من الأتباع السلطة المسلحة غالباً ليصبحوا "زعران" الحي، الذين يتحكمون بحياة الناس اليومية.

موقف
التحديثات الحية

كان المواطنون هم "العدو" بالنسبة للعصابة طوال السنوات الماضية، وكانت الأرض الاقتصادية المحروقة سياسة مبرمجة، والهدف كان تدجين المواطنين لتصبح حياتهم كلها متصلة بشبكة أخطبوطية من المصالح المرتبطة مباشرة بالأحزاب المافيوية المسيطرة.

حلقة التبعية هذه أصبحت قابلة للكسر. فقد أصبح رئيس محكمة العدل الدولية نواف سلام، رئيساً لحكومة لبنان، بعد تعطيل هذا المنصب من خلال استمرار إدارة حكومة تصريف الأعمال برئاسة نجيب ميقاتي للبلاد، منذ عام 2022. وهذا الأمل غير المتوقع، جاء أيضاً بعد انتخاب رئيس الجمهورية جوزاف عون لينهي مسار الشغور الطويل في منصب الرئاسة. والارتياح الذي سُجّل في الشارع اللبناني، يأتي من انتظام عمل المؤسسات من جهة، ووجود شخصية مثل سلام في موقع المقرر للسياسات المالية والنقدية من جهة أخرى، وكذا من كلمته التي تعهّد فيها أن تكون أولويته إعادة إعمار ما دمره الاحتلال الإسرائيلي خلال عدوانه الأخير على لبنان.

وفيما تتزايد الإشارات على اتجاه لدى حركة أمل وحزب الله لتعطيل تشكيل حكومة لا تقوم على تقاسم الوزارات كمنافع حزبية وسياسية، تمثل أمام الحكومة تحديات اقتصادية لا يمكن وصفها إلا بالقاسية، فيما الخروج من الانهيار يتطلب أدوات مختلفة في التفكير والتنفيذ.

إذ سبّبت العصابة أزمة اقتصادية حادة تفاقمت منذ عام 2019 بعدما نُهبت أموال المودعين وهرّب الزعماء والمحظيون ملايينهم إلى الخارج. ووفقًا لتقرير البنك الدولي الصادر في ديسمبر 2024، انخفض نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في لبنان بنسبة تُقدَّر بـ6.6% في عام 2024، مما رفع الانخفاض التراكمي منذ عام 2019 إلى أكثر من 38% بحلول نهاية العام. وفقًا لبيانات البنك الدولي لعام 2023، بلغت نسبة الدين العام اللبناني إلى الناتج المحلي الإجمالي حوالي 201.2%، مما يضع لبنان في المرتبة الأولى عالمياً من حيث هذه النسبة.

وفيما يشهد لبنان معدلات تضخم مرتفعة في السنوات الأخيرة بسبب الأزمات المالية والسياسية المتلاحقة، فقد ارتفع معدل الفقر من 12% في عام 2012 إلى 44% في عام 2022. وفوق معدل البطالة المرتفع أصلاً، أدت الحرب الأخيرة إلى فقدان نحو 166 ألف فرد لوظائفهم، مما يعادل انخفاضاً في المداخيل قدره 168 مليون دولار.

وكل ذلك يأتي في سياق الإفلاس النقدي للبلاد، مع استحقاق دفع الديون الخارجية، وعدم قدرة لبنان على الوصول إلى الأسواق المالية الدولية، وسط هروب ملايين الدولارات من الاستثمارات التي غادرت لبنان خلال السنوات الماضية، فضلاً عن إعداد موازنات مالية لا تعتمد أي نوع من الخطط الاقتصادية التنموية، ولا تؤسس لأي نهوض اقتصادي حقيقي، فيما لا تزال المحاسبة على السرقات والهدر الذي حصل في السنوات الماضية، خارج مسار التحقق والتنفيذ.

وإن كانت الإصلاحات الاقتصادية شعاراً مستهلكاً يمكّن لبنان من الوصول إلى مكاسب آنية كالتمويلات الدولية واستقطاب الاستثمارات الهاربة، فإنّ الحقيقة هي أن قيامة لبنان الفعلية مستحيلة ما دام رهينة لسياسات الاقتصاد المحروق الذي أسسته العصابة لتعظيم نفوذها على حساب المواطنين. وحده تحرير لبنان من هذه السياسة المدمرة واعتماد اقتصاد يُصاغ لخدمة المواطن كغاية نهائية، يمكن أن يُنهي حقبة الفساد ويضع لبنان على طريق الخلاص.

المساهمون