تجميد المساعدات المالية الأميركية للسودان

تجميد المساعدات المالية الأميركية للسودان

29 أكتوبر 2021
إنقلاب البرهان يواجه احتجاجات شعبية قوية في المدن السودانية ومعارضة خارجية (getty)
+ الخط -

في خطوة لم تكن مفاجئة لكثير من المتابعين للمشهد السياسي والاقتصادي في السودان، شهدت العاصمة الخرطوم فجر الإثنين 25 أكتوبر/تشرين الأول انقلاباً عسكرياً قام من خلاله عبد الفتاح البرهان، قائد القوات المسلحة في السودان ورئيس مجلس السيادة، بإعلان حالة الطوارئ وحلّ مجلسي السيادة والوزراء، الأمر الذي لم يلق ترحيباً دولياً، فقد جمَّدت إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، على إثر ذلك مساعدة مالية مباشرة للسودان بقيمة 700 مليون دولار كردٍّ سريع على استيلاء الجيش السوداني على السلطة، واعتقال أعضاء بالحكومة الانتقالية، من بينهم رئيس الوزراء عبد الله حمدوك وقادة مدنيون آخرون، وإطاحة كل مؤسسات المرحلة الانتقالية.

في ضوء التطوُّرات الخطيرة التي تزامنت بشكل غريب ومريب مع انتهاء زيارة المبعوث الأميركي الخاص للقرن الأفريقي جيفري فيلتمان للخرطوم، قرَّرت الولايات المتحدة حجب المبلغ الذي التزمت بمنحه خصيصاً لدعم الاقتصاد السوداني والعملية الانتقالية الديمقراطية دون المساس بالدعم الإنساني لوكالات الإغاثة غير الحكومية العاملة في السودان.

هناك احتمالات كبيرة بأنّ الولايات المتحدة كانت على علم مسبق بالانقلاب العسكري الذي وقع في السودان، وهو ما ذكره موقع "أكسيوس" الإخباري الأميركي الذي أكد أن عبد الفتاح البرهان أبلغ الأميركيين مسبقاً بإمكانية قيام عناصر داخل الجيش السوداني باتخاذ إجراءات ضد الحكومة المدنية، وذلك قبل ساعات فقط من إقدامه على تنفيذ انقلاب أطاح المكوّن المدني في الحكم.

وقبل ثلاثة أيام من انقلاب الأوضاع الأمنية رأساً على عقب، وتحديداً في 22 أكتوبر/تشرين الأول 2021، دعت وزارة الخارجية الأميركية الأطراف السودانية إلى الالتزام بمتطلَّبات التحوُّل الديمقراطي وإبداء روح التعاون بغية إرساء السلام والديمقراطية، كما دعا نيد برايس، المتحدِّث باسم وزارة الخارجية الأميركية، الحكومة الانتقالية السودانية في نفس ذلك اليوم إلى الاستجابة لإرادة الشعب ودعوات المتظاهرين.

ما لبث السودان أن تخلَّص من وصم الإدراج ضمن قائمة "الدول الراعية للإرهاب"، وتمكَّن بالتالي من الحصول على قروض ووضع خططٍ لجذب الاستثمارات الأجنبية حتى وجد نفسه مجدَّداً في مفترق طرق خطير جرّاء الانقلاب الذي أثار قلقاً ورفضاً عالميين.

لقد ساءت أوضاع الاقتصاد السوداني الذي انتقل من قبضة البشير إلى قبضة صندوق النقد الدولي الذي لن تأخذه بهذا البلد الأفريقي رأفة ولا رحمة، ويُنذر انحراف الأوضاع عن المسار الديمقراطي بعودة موجة من العقوبات الغربية يمكن أن تقود البلاد نحو هاوية سحيقة لا رجوع عنها، ولا شفاء منها.

فقد أكَّد السيناتور الديمقراطي كريس كونز، وهو حليف رئيسي للرئيس بايدن، أنّ عودة المساعدات الأميركية للسودان منوطة بإعادة بسط سلطة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك والحكومة الانتقالية الكاملة، وما يزيد الطين بلة أن يترتَّب على تعليق المساعدات المالية التي تعهَّدت واشنطن بتقديمها للسودان تأثير الدومينو Domino Effect الذي يمكن أن ينتقل بسهولة إلى دول أخرى ومانحين دوليين آخرين.

وأعلن البنك الدولي في بيان يوم 27 أكتوبر/تشرين الأول عن وقف صرف أي مبالغ لجميع العمليات في السودان الذي حصل منذ 7 أشهر على تمويل من البنك بقيمة ملياري دولار، وليس من المستبعد أن تتعثَّر عملية تقديم صندوق النقد الدولي لتسهيل ائتماني ممتدّ للسودان مدّته 39 شهراً بقيمة 2.5 مليار دولار، وتتعطَّل كلياً تلك المفاوضات الجارية مع الصندوق بشأن تخفيف عبء ديون السودان الخارجية التي كانت من المتوقَّع أن تنخفض من 56.6 مليار دولار (أي نحو 163 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي) إلى 6 مليارات.

لقد ألقى نقص الوقود والأدوية والغذاء بظلاله على عملية الانتقال، كما تسبَّبت الإصلاحات الاقتصادية القاسية والسريعة التي نفَّذتها الحكومة الانتقالية تحت إشراف صندوق النقد الدولي، بهدف تخفيف الديون، بخروج مئات السودانيين إلى الشوارع للتعبير عن سخطهم إزاء السياسات الاقتصادية المجحفة التي تخنقهم وتدفعهم نحو حافة الفقر والجوع، وستزداد الأوضاع الاقتصادية للبلاد سوءاً وتعقيداً من خلال إصرار الولايات المتحدة على تعليق مساعداتها المرصودة للسودان.

يعتمد السودان بشكل كبير على المساعدات الدولية وخاصة الأميركية، فحسب تقرير المساعدة الإنسانية العالمية 2021 Global Humanitarian Assistance Report 2021 الصادر عن المنظمة العالمية "مبادرات التنمية" "Development Initiatives"، احتلَّ السودان المركز السابع في قائمة الدول الأكثر تلقياً للمساعدات الإنسانية بعد سورية، اليمن، لبنان، جنوب السودان، جمهورية الكونغو والصومال، حيث تلقَّى السودان 945 مليون دولار سنة 2020 و644 مليون دولار سنة 2019، بينما تلقَّى جنوب السودان 1.3 مليار دولار سنة 2019 و1.38 مليار دولار سنة 2020.

ويشير التقرير ذاته إلى أنّ الولايات المتحدة تتربَّع على عرش أكثر الدول المانحة للمساعدات المالية، حيث قدَّمت ما مجموعه 8.903 مليارات دولار للدول المتضرِّرة من النزاعات والصراعات وكذا الدول المستقبلة للاجئين مثل تركيا، الأردن، ألمانيا ولبنان.

على سبيل المثال، خصَّصت وكالة المعونة الأميركية دعماً مالياً بقيمة 20 مليون دولار حتى الآن لبرنامج دعم العائلة السودانية، والذي قدَّم بدوره مساعدات نقدية لـ 400 ألف عائلة فقط، مقارنة بعدد 3 ملايين عائلة الذي كان مُستهدفاً من قِبل البنك الدولي، كما قدَّمت الوكالة ذاتها 45 مليون دولار للسودان من أجل تمويل جهود مكافحة فيروس كوفيد-19، و56 مليون دولار لتقديم المساعدات الإنسانية لـ 13.4 مليون شخص من المعوزين، وتحديداً بهدف مساعدتهم على تلقِّي الرعاية الصحية والإمدادات الطبية، وكذا الحصول على المياه والصرف الصحي.

  وقدَّمت الولايات المتحدة أيضاً ما قيمته 147 مليون دولار كمساعدات غذائية عينية من خلال برنامج الغذاء العالمي، ورصدت ما يزيد عن 81 مليون دولار لدعم فاتورة الغذاء، وتقديم الدعم اللوجستي لضمان حصول المحتاجين على المساعدات الغذائية، و10 ملايين دولار لدعم عملية تقديم سلع الإغاثة جوِّياً من خلال الأمم المتحدة و9 ملايين دولار لتقديم مساعدات لقطاع الزراعة من خلال منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (FAO)، علاوة على تقديم مساعدات مالية أخرى للسودان من خلال المكاتب والبرامج والصناديق التابعة للأمم المتحدة التي تستحوذ فعلياً على عمليات تسيير المساعدات المالية التي يُقدِّمها المانحون الدوليون للدول المتضرِّرة من الحروب.

خلاصة القول إنه إذا استمرَّ انقلاب البرهان على حاله، ستتشكَّل قطيعة تامة بين السودان والمؤسسات المالية الدولية التي كانت تحاول إعادة هذا البلد الأفريقي إلى الواجهة على حساب شعبه الذي عانى الأمرَّين، وما زال يعاني من القهر والفقر وعدم الاستقرار، بسبب تعطُّش العسكر للسلطة والديكتاتورية، وضياع الثروات الهائلة بين رحى الأحزاب والمافيا والعسكر، والقوى الخارجية التي تقتات على موائد النزاعات والصراعات والانقسامات.

المساهمون