تجاهل أوضاع الدين الخارجي المصري

تجاهل أوضاع الدين الخارجي المصري

02 ديسمبر 2020
احتجاجات ضد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في القاهرة
+ الخط -

لو دخلت على موقع وزارة المالية المصرية على الإنترنت، ستكون صورة وزير المالية هي أول ما تقع عليه عينيك، وهو يحمل "كأس" أفضل وزير مالية في أفريقيا والشرق الأوسط، أو في منطقة في العالم لا يوجد بها مالية، ولا اقتصاد، ولا سياسة، ولا صوت يعلو في أي بلد فيها فوق صوت الملك أو الرئيس.
فإذا اجتهدت للعثور على رابط "الدين العام" وضغطت عليه، تظهر لك عدة اختيارات، أولها "الدين الخارجي"، ومنه يكون لديك ثلاثة اختيارات، آخرها هو "السندات الخضراء" التي أعلنت مصر مؤخراً عن إصدارها، ويوجد بداخله 5 روابط، وبجوار كل منها علامة PDF توحي بأن هناك مستنداً يمكن فتحه، إلا أن الروابط الخمسة لا تعمل.
أما الاختياران الأول والثاني فيتحدث أحدهما عن "الرصيد القائم من السندات الدولارية"، لكن أحدث ما جاء به توقف عند إصدارات شهر إبريل/ نيسان من عام 2018، أي أنه لم يذكر شيئاً عن إصدارات أكثر من ثلاثين شهراً مضت، ربما تكون هي الأكثر نشاطاً للسندات المصدرة من الحكومة المصرية في تاريخها الممتد لآلاف السنين!
ويشير الرابط الآخر إلى "إجمالي الدين العام الخارجي"، لكن للأسف توقفت الأرقام المنشورة عند منتصف عام 2018، وهو ما يعني مرة أخرى أن موقع الوزارة لم ينشر ما تم اقتراضه خلال فترة تقترب من عامين ونصف، شهدت بالتأكيد أكبر إضافة يشهدها الدين الخارجي المصري منذ عصر ما قبل الأسرات.
لم يكن أمر الروابط التي لا تعمل مجرد عطل تقني غير مقصود تسبب في عدم إظهار رصيد الدين الخارجي الحالي، البالغ 123 مليار دولار في نهاية يونيو/ حزيران الماضي، إذ خلا منشور إعداد الموازنة العامة للدولة للعام المالي الحالي، والموجود على الموقع في 75 صفحة، من أي إشارة إلى هذا الرقم، تماماً كما فعل "دليل الموازنة العامة للدولة - نسخة المواطن"، إذا ربما يشعر المسؤولون المصريون بأن هذا المواطن لديه من الهموم ما يكفيه، لدرجة أنه لن يكون معنياً برصيد تلك الديون في الوقت الحالي. 
أما التقرير الخاص بالأداء الاقتصادي والمالي فآخر رقم مؤكد عن الدين الخارجي لمصر كان في نهاية النصف الأول من العام الماضي، بينما جاءت أرقام النصف الأخير من 2019 تقديرية/ مبدئية غير مؤكدة، وكانت أحدث ما نشر فيما يخص الدين الخارجي. 

لم تتجنّب وزارة المالية وحدها الإشارة إلى أحدث أرقام الدين الخارجي، إذ فعلت ذلك العام الماضي وزيرة التخطيط، حينما نشرت رداً مطولاً على مقال كتبه وزير سابق عن حال الاقتصاد المصري، تناولت فيه كافة المؤشرات الاقتصادية، متغافلة عن رصيد الدين الخارجي الذي كان عند أعلى مستوياته التاريخية. 
لم تذكر الوزيرة وقتها، أو في أي وقت آخر، ولا أي من المسؤولين المصريين الآخرين، الدين الخارجي إلا كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، رغم علمهم أن الناتج المحلي لا أهمية له هنا، كون سداد تلك الديون سيكون بالعملة الأجنبية التي تم الاقتراض بها، من حصيلة الصادرات أو الاستثمارات الأجنبية المباشرة أو تحويلات العاملين أو إيرادات قناة السويس، وجميعها للأسف متراجعة خلال السنوات الأخيرة، وهو ما تسبب في استمرار الدين الخارجي في الارتفاع.
ارتفاع الدين الخارجي يمثل قضية شديدة الأهمية والخطورة بالنسبة للاقتصاد المصري وللمصريين، كونه ينقل عبئاً ضخماً للأجيال القادمة، ويحرمها من مليارات الدولارات التي سيكون عليها التنازل عنها وفاء لما اقترضه النظام الحالي. 
ارتفاع الدين الخارجي يضخم مخصصات خدمة الدين في الموازنة المصرية، وهو ما يعني تقليص المبالغ المتبقية للإنفاق على الصحة والتعليم والبحث العلمي، الأمر الذي بدا واضحاً في مخالفة مخصصات تلك البنود لما هو منصوص عليه في الدستور المصري خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة على الأقل، ولن تكون هناك نتيجة لذلك إلا استمرار التردي في الخدمات الصحية والتعليمية المقدمة للمواطنين، كما تراجع البحث العلمي على النحو الذي يلمسه أغلب المصريين.
ارتفاع الدين الخارجي سيدفع المسؤولين المصريين للتسرع في بيع أية أصول تقع تحت أيديهم، وسيتم البيع بأبخس الأسعار لضعف الموقف التفاوضي المصري، الأمر الذي ستترتب عليه زيادة النفوذ السعودي والإماراتي، وربما الإسرائيلي، في الاقتصاد المصري، وسيظهر لنا شبح "طال عمره" في أكثر من مجال، ليفسدوا علينا كل شيء، من السياسة والاقتصاد إلى الفن والثقافة، كما فعلوا وأشياعهم من قبل. 

لا يبدو النظام الحالي في مصر راغباً ولا قادراً على تقليص الدين الخارجي في الوقت الحالي، وفي حوار جمعني مصادفةً مع أحد رموز انقلاب 2013، وأحد أهم المشاركين في وضع السياسات الاقتصادية والمالية لبلدنا من وقتها، أكد لي أنهم لا يعيرون ارتفاع الدين الخارجي أدنى اهتمام، وأن الدائنين هم من يجب عليهم الشعور بالتوتر لا الحكومة المصرية، وأن مواجهة مصر لصعوبات في السداد لن يترتب عليها أي مخاطر، لأن الدائنين "لن يتمكنوا من حمل الأراضي المصرية أو المنتجعات السياحية أو الشركات المصرية، ليعودوا بها إلى بلادهم عوضاً عما لم يتم سداده من ديون"، على حد تعبير المسؤول الكبير. 
هذا المنطق لا يبدو أنه من خيال الرجل، وأكاد ألمسه في خطوات تعامل الحكومة مع كل استحقاق لدفعة من الدين الخارجي، التي لا تخرج عن محاولات "تجديد الودائع" أو مد أجلها، أو إصدار سندات جديدة تحلّ محل ما يستحق، أو تبني سندات جديدة، مرة "إسلامية" ومرة "خضراء"، بينما تختفي أي محاولات لتقليص عجز الحساب الجاري من أجل الاستغناء عن تلك القروض، اللهم إلا من خلال صندوق سيادي، تنقل إليه الأصول المصرية ليتم عرضها للمستثمرين الأجانب والاقتراض بضمانها، مع تحصينه من أي نوع من أنواع الرقابة أو المحاسبة أو المقاضاة، على نحو يضاعف من كوارث الاندفاع نحو الاقتراض، ولا يزيد صورة مستقبل الاقتصاد المصري إلا قتامة.

دلالات

المساهمون