استمع إلى الملخص
- شهدت تركيا نموًا اقتصاديًا ملحوظًا بفضل سياسات الخصخصة ودعم الزراعة والصناعة، لكن تحديات الدين الخارجي والفائدة المصرفية المرتفعة ظلت قائمة، خاصة بعد محاولة الانقلاب في 2016.
- بعد زلزال 2023، شهدت تركيا تغييرات اقتصادية مثل رفع سعر الفائدة وضخ احتياطي المصرف المركزي. تسعى تركيا لتأمين تمويل لمشروعات التحول الأخضر والرقمي، مما يعكس تحولًا في النهج الاقتصادي والسياسي.
ثقيل هو الإرث الذي تركه حزب "اليسار الديمقراطي" وحكم الرئيس التركي بولنت أجاويد لحزب "العدالة والتنمية" والرئيس رجب طيب أردوغان، وربما السوريون أكثر من يؤرّخون لتلك المرحلة، وقت كان يذهب الأتراك، إلى مدينة حلب على وجه الخصوص، ليبتبضعوا بكل ما يتاح، من سلع ومنتجات، جراء الغلاء وندرة السلع في السوق التركية. بل يتذكر السوريون، حتى اليوم، كيف كانت المحال، بما فيها بيع الألبسة المستعملة، تنتظر وفود الحجيج الأتراك، لتنفد بضائعهم وتفرغ محالهم.
كلّ من زار تركيا، حتى مطلع الألفية الثانية، شاهد، وسجّل على الأرجح، مستوى الفقر والتلوّث وتدني مواصفات الإنتاج، حتى في ولاية إسطنبول الكبرى، رغم التغيير الجذري الذي يُحسب لرجب طيب أردوغان، خلال رئاسته البلدية الكبرى من عام 1994 حتى عام 1998، وتلك التغييرات، برأي الخبراء والأتراك، أوصلته وحزبه "العدالة والتنمية" إلى السلطة نهاية عام 2002.
وإن ينسب كثيرون لفترتي حكم حزب "الوطن الأم" والرئيس توركوت أوزال في ثمانينيات القرن الماضي بدء النهضة الصناعية والاشتغال على المأسسة والتنمية، بعد إقدامه على الخصخصة وتغيير النهج والتعاطي الاقتصادي، إلا أن عودة حكم العسكر وتراجع ملامح التنمية همّشا فترة المؤسس أوزال وأعادا الليرة التركية للانهيار وصدرت أوراق نقدية من فئتي المليون و500 ألف وتعدّى التضخم 150% خلال التسعينيات، ما تسبب بتآكل القدرة الشرائية وجعل أي تغيير بتركيا، ولو كان بسيطاً، يُرى ويحسب ويلقى ترحيباً، في الداخل والخارج.
وبدأت حكومة "العدالة والتنمية" ورئيس الوزراء آنذاك رجب طيب أردوغان فترة حكمهما عام 2003 ببرنامج إصلاح كلي "اقتصادي واجتماعي"، وتلقّت أنقرة قرضاً بقيمة 16 مليار دولار من صندوق النقد الدولي، واعدة المؤسسات الدائنة والشعب بعدم تكرار الأزمات الاقتصادية، وتحسين المعيشة بعد رفعها الحرب على التضخم وعجز الميزان التجاري من خلال استغلال القطاع الزراعي "تركيا التاسع عالمياً وقتذاك" وتوطين الصناعة الحديثة وجذب الاستثمارات، والأهم ربما، مكافحة الفساد.
ومن يتابع مسيرة تركيا، في تلك الفترة، يندهش ربما لتسارع النمو، 6%، وتقليص نسبة التضخم، خاصة بعد قانون تنظيم العملة في يناير/ كانون الثاني 2004 وإلغاء ستة أصفار من العملة التركية مطلع عام 2005، ليبدأ الجيل الثامن من النقود، وانتعاش الصناعة والزراعة الذي انعكس على زيادة الصادرات وبدء جسر العجز التجاري التاريخي.
بدأ عهد تركي جديد، بعد شعارات عدة طرحها الحزب وأردوغان، مثل صفر مشاكل مع دول الجوار، والتي انعكست ثقة وتفرغاً للداخل، وفائدة مصرفية منخفضة لتحويل الأموال، من خزائن المصارف ذات الفائدة المرتفعة، إلى القطاعات المنتجة التي تلقى دعماً وتشجيعاً، وجذب الاستثمارات التي بدأت ترى في هذا البلد مناخاً جاذباً ومربحاً، إلى جانب التخلّص من الوصاية والشروط الدولية التي تُساق خلال القروض التي وصلت مع وصول حزب أردوغان إلى السلطة إلى 23.5 مليار دولار، سدّد آخرها؛ 400 مليون دولار، في مايو/ أيار 2013، قبل أن تتحول تركيا إلى دائن للصندوق بنحو خمسة مليارات دولار عام 2014.
قصارى القول: حققت تركيا قفزات تنموية كبيرة أوصلت ناتجها الإجمالي إلى 1.3 تريليون دولار، وزادت صادراتها عن 260 ملياراً، خلال فترة قياسية، بعد متابعتها الخصخصة التي بدأها توركوت أوزال وتبنّي خطة رفع حجم الإنتاج الزراعي والصناعي والحربي وتوفير البيئة المناسبة، من بنى تحتية ودعم للاستثمار المحلي والخارجي وزج السياحة وعائداتها التي تعدّت 60 مليار دولار، ضمن القطاعات التي أوصلتها مجتمعة إلى مجموعة العشرين، منذ عام 2015.
لكن ثنائية الدين الخارجي والفائدة المصرفية المرتفعة بقيت ضمن المحرمات، حتى بعد انقلاب 15 تموز/ يوليو عام 2016 والذي يؤرخه المراقبون بوصفه بداية تحوّل نهج وخطط الدولة، داخلياً وخارجياً، وبدء مشوار تدهور سعر الصرف وغلاء الأسعار وارتفاع نسبة التضخم. لتبقى تلك الثنائية، ضمن الخطوط الحمر وثلاثية الشيطان، كما يصفها الرئيس أردوغان.
إلا أن شيئاً ما قد حصل، مما بعد زلزال شباط وتشكيل الحكومة عام 2023، فتركيا التي حاربت الفائدة المرتفعة وأوصلتها إلى ما دون 10%، بل وعزل الرئيس أردوغان، في تدخل أضرّ بالعملة وزاد نظرة التدخل في القرار الاقتصادي، ثلاثة محافظين للمصرف المركزي لمحاولتهم معالجةَ التضخم عبر رفع سعر الفائدة، ها هي تركيا، تعود إلى ما نهت عنه ووصفته بالشيطانية، وترفع الفائدة إلى 46% اليوم.
وتركيا التي كانت تُعالج تذبذب سعر الصرف، بعيداً عن الطرائق التقليدية، من رفع سعر الفائدة والتدخل المباشر، ها هي، وبعد اعتقال رئيس بلدية إسطنبول الكبرى أكرم إمام أوغلو الشهر الماضي، تضخّ من احتياطي المصرف المركزي، أكثر من 16 مليار دولار، لتوازن بالعرض والطلب وتوقف نزيف العملة وزيادة التضخم.
وتركيا التي تفاخرت منذ عشر سنوات بخروجها من حظيرة المدينين لصندوق النقد الدولي، وتحولها إلى دائن، نراها تتفاخر اليوم، بعد زيارة وزير المال والخزانة للولايات المتحدة وحضور اجتماعات البنك والصندوق، بأنها نسّقت لتأمين تمويل بنحو 41 مليار دولار خلال ثلاث سنوات، تضخها في مشروعات التحوّل الأخضر والرقمي والبنى التحتية.
نهاية القول: ربما لأن التغيير هو الثابت الوحيد بالحياة، رأت تركيا، أو اضطرت، بعد 2015 وقت وقعت في مواجهة مباشرة مع روسيا، جراء إسقاطها طائرة سوخوي وتخلّي حلفاء "الناتو"، إلى تغيير النهج والتعاطي الاقتصادي والسياسي، في الداخل والخارج، لتأتي في العام التالي صفعة الانقلاب وعقابيله، على الاقتصاد خاصة، رغم فشله، لتعزّز ضرورة التحوّل عن "النهج الأردوغاني" المتشدد تجاه شعارات بداية وصول الحزب إلى السلطة، بل وبعض العلاقات الخارجية التي وصلت خلال بعض السنوات إلى حصار مطبق من الولايات المتحدة وتحريض واستهداف من دول عربية وإقليمية.
بيد أن نسف النهج على الصعيد الاقتصادي، خاصة، رأيناه منذ عام 2023 الذي هزّ اقتصاد تركيا بعد زلزالي كهرمان مرعش، لتأتي خسائر بلديات الولايات الكبرى العام الماضي تتويجاً لقناعة ضرورة التغيير والتلويح باليد لمرحلة وشعارات، اقتضتها ظروف ومرحلة زالت من جراء تبدل خريطة القوى، داخل تركيا وفي محيطها الإقليمي والدولي.
وأما نجاعة التغيير وجدوى نسف النهج، بعيداً عن المبادئ التي لا تعترف بها السياسة والمصالح، فيترك لقادم الأيام تحديد مسيرة تركيا المتطلعة إلى مصاف العشرة الكبار والوكيل المعتمد لدول المنطقة.