- تواجه مصر تحديات اقتصادية في ظل الظروف الدولية المتقلبة، مع خطوات حكومية مثل رفع أسعار المحروقات وتقليل الدعم، مما يثير نقاشات حول الأثر الاجتماعي، وتسعى للحصول على تمويل لدعم التكيف المناخي والتحول إلى اقتصاد منخفض الكربون.
- رغم التقدم في المراجعة الخامسة، يظل الغموض يحيط بتفاصيل المراجعة الرابعة، مما يثير مخاوف حول الشفافية وفعالية الإصلاحات، وصرف التمويل يعتمد على التقدم في الإصلاحات الهيكلية.
اختتم صندوق النقد الدولي مؤخرًا مراجعته الخامسة لاتفاق التسهيل الائتماني الممتد مع مصر، فاتحًا الباب أمام صرف شريحة تمويل جديدة بقيمة 1.3 مليار دولار، إلا أن خلف هذا التطور المالي تقبع أسئلة أعمق تتعلق بمدى جدية الحكومة المصرية في تنفيذ الإصلاحات الهيكلية المتفق عليها، ومدى التزامها بمبدأ الشفافية في علاقتها مع مؤسسة الإقراض الدولية.
ورغم تصريح المدير التنفيذي بالصندوق محمد معيط أن "الموافقة على تمويل المرونة والاستدامة أمر إيجابي للغاية، وتم الاتفاق على المستهدفات الأساسية للتمويل وسيتحدد قريبًا التفاصيل المتعلقة” وهو الأمر المحفوف بالشكوك من أن تلحق المراجعة الخامسة بالرابعة من حيث الغموض والتكتم على التفاصيل، حيث يعتقد متابعون بأن معيط، الذي كان وزيراً لمالية مصر وممثلاً لها في المفاوضات مع الصندوق، كوفئ بمنصبه في الصندوق، على أدائه خلال توليه وزارة المالية، وتلبية شروط الصندوق الصعبة، كما يعتقد البعض بأن له دوراً في تقريب وجهات النظر بين الصندوق ومصر.
مطالب صندوق النقد: إعادة تشكيل دور الدولة الاقتصادي
خلال اجتماعات البعثة التي عقدت بالقاهرة في مايو/ايار الجاري، ناقش مسؤولو الحكومة المصرية مع بعثة الصندوق، برئاسة إيفانا فلادكوفا هولار، سلسلة من القضايا الجوهرية، من أبرزها مستقبل الدعم، واستدامة النمو، وأطر الحوكمة، فضلًا عن الالتزام بتسريع وثيقة "سياسة ملكية الدولة" التي تنص على انسحاب تدريجي وشفاف للدولة من عدد من القطاعات الاقتصادية لصالح القطاع الخاص.
وبحسب مصادر مطلعة تحدثت لوسائل إعلام محلية، فإن الصندوق شدد على ضرورة تحقيق تقدم ملموس في برنامج الطروحات، وإرساء جدول زمني واضح للانسحاب الحكومي من الأنشطة الاقتصادية، وهي النقطة التي كانت موضع تحفظ دائم من قبل خبراء الصندوق في مراجعات سابقة، ولا سيما بسبب تباطؤ وتيرة بيع الأصول وتفاوت ممارسات المنافسة داخل السوق المصري.
ولا يخفي الصندوق موقفه من استمرار التوسع الحكومي في المشروعات الاقتصادية، معتبراً أن ذلك يقوض فرص القطاع الخاص، ويضعف قدرة الاقتصاد على تحقيق النمو المستدام. ولذلك، كانت سقوف الاستثمارات العامة – التي وضعتها الحكومة عند تريليون جنيه – من أبرز النقاط التي تمحورت حولها المناقشات، إلى جانب سقوف الدين العام التي تهدف إلى حماية الموازنة من الانزلاق إلى عجز هيكلي.
الصلابة في وجه العواصف: اختبار للقدرة على الصمود
بدا واضحًا أن صندوق النقد ينظر إلى الظرف الدولي – بتقلباته الجيوسياسية والاقتصادية – باعتباره اختبارًا لمدى صلابة الاقتصاد المصري بعد سنوات من الإصلاحات. فبين اضطرابات سلاسل الإمداد، وضغوط أسواق الغذاء والطاقة، والتغيرات المناخية، تجد الحكومة المصرية نفسها مطالبة بإثبات أن المكاسب الاقتصادية ليست هشة، بل قابلة للاستدامة.
وفي هذا السياق، تم التطرق إلى دعم الوقود، أحد أبرز بنود الإنفاق العام وأكثرها إثارة للجدل، إذ واصلت الحكومة في مارس الماضي تطبيق خطة الإلغاء التدريجي للدعم، عبر رفع أسعار المحروقات بنسبة وصلت إلى 14.8%، سعيًا للوصول إلى نقطة استرداد التكلفة قبل نهاية العام، كما وعد رئيس الوزراء مصطفى مدبولي. لكن هذه الإجراءات، وإن كانت متسقة مع توصيات صندوق النقد، تعيد فتح نقاشات محلية حول أثرها الاجتماعي، خاصة في ظل عودة التضخم إلى الارتفاع خلال الأشهر الأخيرة، ما يفاقم من أزمة القدرة الشرائية للفئات الأكثر فقرًا.
التمويل الأخضر: محور "نُوفّي" في واجهة الإصلاح
بعيدًا عن الجوانب المالية البحتة، ناقشت بعثة الصندوق أيضًا إجراءات مصر للحصول على تمويل جديد ضمن "صندوق الصلابة والاستدامة" بقيمة 1.3 مليار دولار، وهو تمويل يركّز على دعم جهود الدولة في التكيّف المناخي والتحول إلى اقتصاد منخفض الكربون. وفي هذا الإطار، عرضت وزيرة التخطيط والتنمية الاقتصادية والتعاون الدولي، رانيا المشاط، محاور التقدم في المنصة الوطنية للمشروعات الخضراء "نُوفّي".
وأشارت إلى أن المنصة جذبت تمويلات للقطاع الخاص بنحو 3.9 مليارات دولار خلال عامين لمشروعات طاقة متجددة بقدرة 4.2 غيغاوات، مع خطة للوصول إلى 10 غيغاوات بقيمة استثمارية مستهدفة تبلغ 10 مليارات دولار. ومن بين أبرز مشروعات هذه المنصة، محطة لتحلية مياه البحر بالعين السخنة، وتوسعة محطة طاقة الرياح في الزعفرانة، واتفاقات جديدة مع شركة "سكاتك" النرويجية لإنشاء محطة طاقة شمسية بقدرة 1 غيغاوات لصالح مجمع الألمنيوم في نجع حمادي.
هذه المبادرات وضعتها الوزارة في قلب جهود الاستدامة الاقتصادية والبيئية، في ظل التزام مصر بخطة المساهمات المحددة وطنيًّا (NDCs) واستراتيجية التغير المناخي 2050، وفقًا للوزارة. كما أشارت المشاط في كلمة اليوم أمام مجلس الشيوخ حول الخطة الاقتصادية للعام المالي 2025/2026، إلى أن الخطة ترتكز على مواصلة الدولة تنفيذ البرنامج الوطني للإصلاحات الهيكليّة بمحاوره الثلاثة، والتي تشمل تعزيز استقرار الاقتصاد الكلي، وزيادة القدرة التنافسية وتحسين بيئة الأعمال لزيادة مشاركة القطاع الخاص، ودعم الانتقال إلى الاقتصاد الأخضر
غياب الشفافية: غموض يحيط بالمراجعة الرابعة
رغم التقدم في المراجعة الخامسة، يبقى الغموض يكتنف تفاصيل المراجعة السابقة، التي أُنجزت في مارس/آذار الماضي، وأتاحت لمصر سحب 1.2 مليار دولار، ليصل مجموع ما سُحب حتى الآن إلى أكثر من 3.2 مليارات دولار، أي نحو 40% من إجمالي القرض المتفق عليه البالغ 8 مليارات دولار.
لم يُنشر تقرير خبراء الصندوق الخاص بالمراجعة الرابعة، رغم مرور شهرين على إنجازها، ما اعتبرته المبادرة المصرية للحقوق الشخصية خرقًا لشرط الشفافية الذي يفرضه الصندوق على الدول المقترضة. ويُعتقد أن التأخير جاء بطلب من الحكومة المصرية، ربما بسبب ما تضمنته الوثيقة من شروط إضافية لم تُعلَن، على غرار ما حدث في المراجعة الثالثة.
وتشير المبادرة إلى أن "التقدم المختلط" في تنفيذ الإصلاحات الهيكلية، كما وصفه الصندوق، يعكس استمرار التردد الحكومي في تفكيك سيطرة الدولة – خاصة القوات المسلحة – على الأنشطة الاقتصادية، وهو ما يجعل إصلاحات المنافسة غير مكتملة. فوفق المبادرة، لا يمكن مساواة شركات قطاع الأعمال العام بالكيانات العسكرية التي تتمتع بمعاملة خاصة وحصانة من الرقابة.
من جانب آخر، لا تقتصر المخاوف حول فعالية الإصلاحات المصرية، على الجانب الهيكلي فحسب، بل تمتد أيضًا إلى إدارة برنامج القرض نفسه. ففي حين تؤكد الحكومة التزامها الكامل بتوصيات الصندوق، تواصل التحفظ على نشر الوثائق الرسمية للمراجعات، وتبقي الرأي العام، والبرلمان، وكذلك بعض مؤسسات الدولة في حالة من الضبابية، وفقًا للمبادرة.
وأشارت المبادة إلى أنه في الوقت الذي تواصل فيه الحكومة تنفيذ إجراءات حساسة – كخفض الدعم ورفع الأسعار – لا تتاح للمواطنين أو الخبراء معلومات دقيقة تمكنهم من تقييم الأثر الحقيقي لهذه السياسات أو مساءلة صانعي القرار بشأنها.
الخطوة التالية: تقرير في انتظار توقيع المجلس التنفيذي
بناء على نتائج الاجتماعات الأخيرة، من المتوقع أن يُرفع تقرير بعثة الصندوق إلى المجلس التنفيذي خلال الأسابيع المقبلة، تمهيدًا لإقرار صرف الشريحة الجديدة من التمويل. وإذا سارت الأمور من دون تأجيل جديد، فقد تحصل مصر على التمويل البالغ 1.3 مليار دولار بحلول يونيو/حزيران. لكن المسار لا يخلو من المطبات. فإذا ما رأى الصندوق أن التقدم لا يزال غير كافٍ في ملفات الإصلاح الهيكلي، أو أن الحكومة تتباطأ في الوفاء بالتزاماتها، فقد يطلب زيارة أخرى، أو يُرجئ التمويل حتى إشعار آخر.
وتعكس مراجعات صندوق النقد مع مصر تناقضًا جوهريًّا بين متطلبات الاستقرار الاقتصادي الكلي التي تفرضها المؤسسات المالية الدولية، والحاجات الاجتماعية المحلية التي تتأثر مباشرة بقرارات تقشفية صارمة. وفي حين تسعى الحكومة المصرية لطمأنة شركائها الدوليين بالتزامها بالمسار الإصلاحي، تبقى الثقة الشعبية معلقة، ولا سيما في ظل غياب الشفافية حول تفاصيل تلك الإصلاحات وتأثيراتها على الحياة اليومية للمصريين.
وما زال مستقبل العلاقة بين القاهرة وصندوق النقد مشروطًا ليس فقط بمدى قدرة الدولة على الوفاء بالتزاماتها، بل أيضًا بمدى استعدادها لإدارة هذا التحول الاقتصادي بعدالة ووضوح – وهي المعادلة الأصعب.
(الدولار= 50.1 جنيهاً تقريباً)