استمع إلى الملخص
- التحدي الأكبر هو إدارة المرحلة الانتقالية، حيث يتطلب صياغة عقد اجتماعي جديد وحكومة انتقالية، مع ضمان عودة اللاجئين والمغتربين.
- رغم سقوط النظام، تستمر التحديات الاقتصادية والاجتماعية، لكن الأحداث تفتح فرصًا للبناء والإعمار، مع التركيز على المؤسسات الوطنية وتجنب الانتقام.
لأن الأنظمة تسقط من العواصم، ها هم ثوار سورية يعلنون من دمشق، الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 2024، عيدهم الوطني لاستقلالهم الثاني من الاحتلال، بعد أن هرب صبيحة اليوم، بشار الأسد وأسرته وأمواله، ككل مستبد أثيم. أعلنوها من ساحة الأمويين، سورية الدولة الحرة المحررة، من دون عصابة السرقة والتجويع، أعلنوها سورية الجديدة المتطلعة الحالمة، كما محرروها الذين سطروا الإعجاز خلال عشرة أيام، زارعين الأمل من الأقصى إلى الأقصى، إدلب فحلب وحماة وحمص، حتى وصلوا إلى دمشق، بعد أن كسا الإحباط السوريين وأوصلهم اليأس وانسداد الآفق، للموت غرقاً بالبحر وجوعاً وتجمداً على الحدود ما بين الدول، خلال مجازفات البحث عن وطن بديل، ولو بمراتب مواطنة دنيا.
الأمل يبدأ منذ اليوم، باسترداد السوريين سوريتهم، والبحث بما يلزم اليوم التالي، يوم ما بعد السقوط وإعلان التحرير. يوم لن ينساه السوريون ولا العالم، بعد أن واظبوا بطريق حريتهم للوصول إلى الدولة، رغم قتل واعتقال وتهجير نصف السكان. البحث عن صيغة تعايش وعقد جديد، يقوده مجلس مشترك أو حكومة طوارئ أو أي نمط حكم عاجل، يحفظ مكاسب التحرير، من دون أن يفرّط بالمؤسسات والمقدرات والكوادر أو حتى يشوّش على أمل المنتظرين وطناً، ليعودوا من منافيهم وبلدان لجوئهم.
قصارى القول: عانى السوريون خلال حقبة الأسدين، ومنذ 55 عاماً، كل أشكال الاضطهاد ومصادرة الحقوق وإلغاء المواطنة، لتأتي السنين العجاف، خلال انتفاضة السوريين منذ عام 2011، بأشكال جديدة من القصاص، إن عبر القتل والاعتقال لكل من اقترف جرم المطالبة بحقوقه والعدالة باقتسام الثروة، أو التهجير بهدف العبث بالبنية السكانية والتغيير الديمغرافي، لمن حالفه الحظ ونجا من الموت والسجون... وليبقى ما بينهما، سواد السوريين الأعظم، يكابدون أسوأ ظروف العيش، وأقسى المعاناة لتحصيل الحد الأدنى من شروط العيش الآدمي.
ولئلا نقع فريسة الفرحة الغامرة بخلع الأسد وتحقيق حلم السوريين، وتأخذنا الإنشائية، هاكم بعضاً من واقع السوريين حتى يوم أمس، ليعرف العالم، كل العالم، أن هذه العصابة التي سرقت سورية وأسرت شعبها، يلزمها ألف ثورة وثورة. ومن مثال المعيشة ربما، اختزال ودليل، إذ لا يزيد متوسط دخل السوري على 300 ألف ليرة (الدولار= 15 ألف ليرة على الأقل)، فيما تزيد نفقات الأسرة شهرياً على 13 مليون ليرة، ولعل في هذا المثال وحده دليلاً وتأكيداً لسياسة التفقير والتجويع التي اعتمدتها عصابة المخلوع، ليبقى السوريون أسرى لقمة عيشهم بعيدين عن المطالبة بحقوقهم أو التطلع إلى الحرية.
وحتى يجسر السوريون هاتيك الفجوة الهائلة، بين الدخل والإنفاق، تاهوا بإيجاد عمل ثانٍ أو دخل إضافي، بواقع تلاشي فرص العمل وزيادة نسبة البطالة على 85%، وهاموا على وجوههم، ساعين للخلاص، ولو على مركب مطاطي قد يحيلهم غذاءً لسمك البحار، بعد أن فقدوا الأمل بوطن مسروق، ليأتي الخلاص عبر أحداث متسارعة، كسرت جميع قوانين الصيرورة وبدلت من طرائق سقوط المستبدين، معلنة نهاية كابوس وبداية حلم، مشرعة السؤال الأصعب، كيف ومن أين ستكون البداية.
قد يمكن الانطلاق من بيان رئيس حكومة النظام البائد بشار الأسد، محمد غازي الجلالي، الذي تلاه من منزله فجر اليوم الأحد، ليؤكد هروب الأسد وانتهاء عصر العصابة المافيوية، ويدعو بالآن نفسه، إلى الحفاظ على مؤسسات الدولة، مبدياً استعداده للقيام بمهمة الإدارة المؤقتة ريثما يحصل التسليم خلال فترة التحوّل، من دون المساس أو تبديد أي وثيقة أو حقوق ملكية بمؤسسات الدولة.
ولأن المحررين يسعون للبناء والحرص على كل الموجودات والمقدرات، جاء الرد فوراً من القائد العام لإدارة العمليات للمعارضة المسلحة، أحمد الشرع "الجولاني"، مخاطباً القوات كافة في مدينة دمشق: "يُمنع منعًا باتًا الاقتراب من المؤسسات العامة، والتي ستظل تحت إشراف رئيس الوزراء السابق حتى يتم تسليمها رسمياً"، الأمر الذي يعزز الأمل لدى السوريين، بالحفاظ على مؤسساتهم، رغم الذي لحقها من تخريب واستنزاف، خلال فترة التجميد وسياسة التهديم الممنهج التي كانت ضمن أولويات بشار الأسد والدور الوظيفي الذي قام به منذ تطلع السوريون إلى الحرية مطلع عام 2011، ويمنح الطمأنة لجميع العاملين في المؤسسات السورية، اقتصادية كانت أو خدمية، أنهم شركاء خلال الفترة المقبلة، الثقيلة بحملها وأمانيها، وليسوا أعداءً أو مفصولين من عملهم، وفق ما حاول نظام الأسد البائد، تكريسه ضمن حملات التخويف وشيطنة المعارضة، ليبقى فقط، على كرسي أبيه.
نهاية القول: كثيرة هي الأفكار والأماني، وأكثر منها ربما، ما يجب فعله على الأرض، لتبقى عجلة المؤسسات تدور، ولو بأقل من سرعة الأمل واستعادة سورية ما قبل حكم البعث وعصابة الأسد، لتتم، خلال مرحلة الأمل والتحوّل، جدولة الأولويات ولزوم ما يلزم، التي تبدأ من تصحيح النظرة الكئيبة، عن سورية والسوريين التي التصقت بهم، خصوصاً من بلدان لجوئهم، لا تنتهي عند ملاحقة الأسد لمحاكمته على جرائمه واسترداد الأموال المنهوبة، وما بين حدي هذا التطلع، يأتي البناء والإعمار والاستثمار وتكريس المواطنة، إذ بظل ما نرى من إعلان المحررين، للتشاركية والمؤسسية وتحريم الثأرية والانتقام، كل شيء ممكن وهيّن ومعقول.