استمع إلى الملخص
- يثير تطبيق الهوية الرقمية مخاوف اقتصادية وتنظيمية، حيث قد تزيد التكاليف والإجراءات البيروقراطية، وتؤكد منظمة التكنولوجيا أن الهوية الرقمية ليست حلاً كاملاً لمشكلات سوق العمل.
- تقدم الهوية الرقمية فرصاً للعمال العرب إذا توفرت لهم إمكانيات النفاذ الرقمي والدعم اللغوي، لكن يتطلب النظام الجديد استثمارات إضافية وتكاملاً رقمياً من الشركات.
تتجه بريطانيا نحو تحوّل تنظيمي واسع من خلال مشروع الهوية الرقمية الوطنية الذي تطرحه حكومة رئيس الوزراء كير ستارمر بوصفه جزءاً من تحديث منظومة العمل والهجرة.
وبحسب نشرة بحث من مكتبة مجلس العموم البريطاني بتاريخ 22 أكتوبر/ تشرين الأول 2025، سيصبح استخدام الهوية الرقمية شرطاً إلزامياً لإثبات الحقّ في العمل داخل البلاد، ويُنظر إلى هذا النظام بوصفه وسيلة للحدّ من العمل غير القانوني وكشف التوظيف خارج السجلات، عبر فرض التحقّق الرقمي، من الحقّ في العمل قبل الالتحاق بأي وظيفة داخل البلاد. الأمر الذي يضع جميع العاملين الأجانب أمام التزام رقمي جديد لتأمين استمرار وظائفهم أو بدء مسارهم المهني.
هذه النقلة التقنية ليست متاحة للجميع بالدرجة ذاتها، خصوصاً للعمالة العربية التي ما زالت تواجه تحديات هيكلية في سوق العمل البريطانية. وتشير بيانات مكتبة مجلس العموم إلى أن معدل البطالة بين العرب بلغ 18.2% خلال الفترة بين إبريل/ نيسان ويونيو/ حزيران 2024، وهي من أعلى النسب ضمن الفئات العرقية، كما تفيد بيانات "بنك الهوية والعرقية" لعام 2020 أنّ 34.1% من العرب يتجهون نحو الدراسة الإضافية بعد التخرج، ما يعني مسار اندماج أطول قبل الوصول إلى وظائف مستقرة.
ويؤكد مرصد الهجرة التابع لجامعة أوكسفورد في تقريره الصادر في 16 يونيو/ حزيران 2025 أن العرب، ضمن فئات مهاجرة أخرى، يتركزون في قطاعات تعتمد بصورة أساسيّة على العمالة الدولية مثل الضيافة والرعاية الصحية والخدمات الإدارية، وهذه القطاعات هي الأكثر عرضة للاضطراب إذا ما تعثّر تطبيق الهوية الرقمية أو تأخر.
وتستهدف الحكومة البريطانية جعل استخدام الهوية الرقمية شرطاً إلزامياً في فحوص "الحقّ في العمل" قبل نهاية الدورة البرلمانية الحالية، أي بحلول عام 2029 كحد أقصى، وفق ما ورد في توضيحات رسمية في 26 سبتمبر/ أيلول 2025.
وفي المسار التنفيذي الأوسع للمنظومة، سيبدأ مسجّل الشركات البريطاني في 18 نوفمبر/ تشرين الثاني 2025 بتطبيق التحقّق الرقمي الإلزامي لهويات المدراء والمسيطرين الفعليين، بما يعكس الانتقال التدريجي للهوية الرقمية من إطار السياسات إلى التطبيق العملي.
وترى الحكومة البريطانية أنّ هذا التحول نحو الهوية الرقمية هو تحديث ضروري يسهّل الإجراءات ويكافح استغلال العمالة غير القانونية، ويتعاظم تأثير هذا التحول على بيئة الاستثمار التي تُعدّ العمالة الدولية إحدى ركائزها، فبحسب تحليل لصحيفة الغارديان في 5 يونيو/ حزيران 2025، فإن النظام الجديد قادر على جعل فحوصات العمل والإيجار أسرع وأسهل بفضل توحيد الإجراءات والاعتماد على تحقق رقمي فوري.
وتتوازى هذه الخطوة مع واقع اقتصادي يشير إلى استمرار جاذبية بريطانيا لرأس المال الأجنبي والمهارات الدولية، خاصة من دول الخليج العربية. فقد منحت وزارة الداخلية البريطانية خلال عام 2024 ما مجموعه 955,576 تأشيرة غير سياحية، ما يعزز مكانة بريطانيا وجهةً للطلاب والمهنيين والمستثمرين من الشرق الأوسط، رغم تباطؤ بعض مؤشرات الاستثمار الأجنبي المباشر في السنوات الأخيرة.
ويظهر تقرير مكتب الإحصاء الوطني الصادر في 27 يناير/ كانون الثاني 2023 أن 10 ملايين من سكان إنكلترا وويلز مولودون خارج المملكة المتحدة، بنسبة تصل إلى 16.8% من السكان، ما يكشف أن الاقتصاد البريطاني لن يستغني بسهولة عن العمالة الدولية التي تشكل جزءاً أصيلاً من تركيبته.
وتعبّر الجهات الاقتصادية عن قلق واضح من أنّ أي تغيير تنظيمي جديد قد يعني زيادة في التكاليف، ففي تصريح لـ"العربي الجديد"، يقول ديفيد بيرسون، المدير الأول للإعلام في اتحاد غرف التجارة البريطانية (BCC)، إن القطاع التجاري ينتظر تفاصيل أكثر دقّة من الحكومة قبل إصدار أحكام نهائية على النظام الجديد. ويضيف بيرسون، ناقلاً موقف باتريك ميلنز، رئيس سياسات الأفراد والعمل في الاتحاد، أنّ تبنّي هوية رقمية سريعة وسهلة وبسيطة يمكن أن يسهم في ضمان التحفيز القانوني والسريع لسوق العمل، إلا أنّ الشركات تتعامل بالفعل مع ضغوط مالية متزايدة، وأن مشروع قانون حقوق العمال قد يضيف إجراءات بيروقراطية جديدة، ما يدفع الشركات للمطالبة بتطمينات واضحة بشأن تجنب أي أعباء إضافية.
وتتسق هواجس اتحاد غرف التجارة مع تقييمات قطاع التكنولوجيا؛ إذ ترى منظمة التكنولوجيا في المملكة المتحدة (TechUK) أن الهوية الرقمية ليست حلاً كاملاً لمشكلات سوق العمل، وتحذر من أن إجراءات التحقق الرقمي لأهلية العمل والسكن قد تبطئ التوظيف وتزيد من الحاجة إلى فرق متخصّصة في الامتثال وترفع تكاليف الحلول التقنية وإدارة البيانات إن لم تُدخل بتحضيرات رقمية واقعية، وفق ما نشرته صحيفة "ذا تايمز" في أكتوبر/ تشرين الأول 2025. وهذه التحذيرات تمنح منظوراً عملياً للمخاطر المحتملة في القطاعات الأكثر اعتماداً على العمالة الدولية.
تكشف نشرة حكومية بعنوان "تحليل قطاع الهوية الرقمية 2025"، نُشرت في 14 مايو/ أيار 2025 عبر الموقع الرسمي للحكومة البريطانية، أنّ قطاع الهوية الرقمية حقق إيرادات بلغت 2.1 مليار جنيه إسترليني خلال عامَي 2023-2024، ووفّر أكثر من عشرة آلاف وظيفة، بما يعكس أن الهوية الرقمية أصبحت صناعة قائمة بحد ذاتها.
غير أن دراسة صادرة عن معهد التغيير العالمي في 9 يوليو/ تموز 2024 توضح أن البنية التحتية لهذا النظام قد تتطلب استثمارات تأسيسية تصل إلى مليار جنيه إسترليني، إضافة إلى 100 مليون جنيه سنوياً للتشغيل، وهذا يعني أن جزءاً من تلك التكلفة قد ينتقل بصورةٍ أو بأخرى إلى كاهل الشركات أو العمال.
وبالرغم من احتفاظ لندن بصدارتها الأوروبية في استقطاب مشروعات الاستثمار الأجنبي الجديدة وفق مسح مؤسسة "EY" لعام 2023 المنشور عبر رويترز في 10 يوليو/ تموز 2024، إلّا أنّ المستثمرين يراقبون بقلق كل خطوة تنظيمية قد تؤثر على مرونة سوق العمل وسهولة استقطاب الكفاءات الدولية، الأمر الذي يجعل تطبيق الهوية الرقمية عاملاً مؤثراً في ثقة رؤوس الأموال الوافدة.
تقدّم الهوية الرقمية نموذجاً لإدارة الهوية يعتمد على التحقق الرقمي السريع، مع حرص الحكومة على بقاء المسارات التقليدية لإثبات الحق في العمل امتثالاً لقواعد حماية البيانات والإنصاف الرقمي المنصوص عليها في اللائحة البريطانية. ويمنح هذا الضمان صمام أمان مهمّاً للجاليات العربية، خصوصاً لمن يواجهون فجوة في المهارات التقنية أو صعوبة في استخدام الهواتف الذكية والخدمات الرقمية. لكن النظام الجديد يتطلب تكاملاً رقمياً واستثمارات إضافية من الشركات، ما قد يدفع أصحاب العمل إلى تفضيل المرشحين الأسرع رقمياً.
ومع ذلك، يمكن أن تصبح الهوية الرقمية أداة تمكين للعمال العرب إذا توافرت لهم إمكانيات النفاذ الرقمي والدعم اللغوي والمعرفي، فتختصر وقت الانتظار وتُسرع اندماجهم في القطاعات الأكثر طلباً على العمالة الدولية، أما إن بقيت الفجوة التقنية قائمة، فقد تتحول المنظومة إلى حاجز إضافي يبطئ مسار الاندماج ويزيد من صعوبة المنافسة في سوق عمل شديدة التنافسية.
وبالنسبة للمستثمرين العرب الذين يواصلون توجيه رؤوس أموالهم إلى المملكة المتحدة، قد يسهّل النظام الرقمي الموحّد إجراءات الامتثال، ويمنح صورة أوضح عن مخاطر التوظيف عبر الحدود، بيد أنّه في الوقت نفسه يفرض كلفة انتقالية متعلقة بتحديث الأنظمة والمهارات في مرحلة تشهد أصلاً إعادة تموضع تنظيمي في بريطانيا.
وسط هذه المعادلة المزدوجة، تقف الهوية الرقمية على خط رفيع بين التحديث الاقتصادي وإمكانية خلق فجوات جديدة. ويبقى نجاحها الحقيقي رهناً بقدرتها على تقديم تحول رقمي لا يُقصي أحداً، بحيث يستفيد منه الجميع، ومنهم العمال العرب والوافدون عموماً، وهم في خط المواجهة الأول مع التغييرات التي ستعيد رسم طريق الدخول إلى سوق العمل البريطانيّة لسنوات مقبلة.