انفراد إثيوبيا بتشغيل السد يهدّد معيشة ملايين المصريين
استمع إلى الملخص
- أزمة دبلوماسية واستراتيجية: الفشل الدبلوماسي المصري في إدارة ملف السد أدى لتلاعب إثيوبيا بموارد النيل، مما يهدد الأمن الغذائي ويزيد الاعتماد على الاستيراد واستنزاف العملة الصعبة.
- مخاطر بيئية واستراتيجية: سد النهضة يشكل خطراً مائياً وبيئياً على مصر، مما يدفعها للاستثمار في معالجة المياه وتحلية البحر، وسط تهديد بفقدان حصتها المائية.
حوّل افتتاح إثيوبيا لمشروع سد النهضة أمس الثلاثاء، من يوم احتفال بعيد الفلاح المصري إلي مناسبة حزينة تهدد حياة ملايين المصريين، الذين عاشوا آلاف السنين ملتصقين بمجراه وبلغوا من احترامه حد التقديس وتقديم بناتهم قرباناً له، كي يفيض عليهم بالمياه كل عام.
ألقى سد النهضة ظلالاً كئيبة، وحالة من عدم اليقين في استمرار الحياة، في بلد عُرف على مدى التاريخ بأنه "هبة النيل"، بعد أن أصبحت موارده المائية رهناً بقرارات إثيوبيا المنفردة، من دون ضمانات أو قواعد واضحة لتصريف المياه وتشغيل سدّها.
يحول "الغموض المائي" دون قدرة مصر على التخطيط لإدارة المياه والزراعة والطاقة ويضعها في موقف دفاع مستمر سياسياً واقتصادياً وأمنياً، بينما يفضل النظام تهدئة الخطاب العلني حول السد، والترويج لفكرة أن الأمر "قيد التفاوض، بدلاً من رفع سقف التوقعات والفشل في تحقيقها، خلال 10 سنوات، طيلة فترة إنشاء السد، التي بدأت عام 2015، في إطار شفهي غير مكتوب.
انشغلت السلطات والإعلام الحكومي أمس الثلاثاء بما يجري في إيران وغزة والإفراج عن نشطاء سياسيين من غيابات السجون، ولم يحظ الافتتاح الرسمي باهتمام يذكر، في محاولة يراها خبراء تهرباً من مواجهة رسمية لأزمة لم يحسن النظام إدارتها، على مدار عقد كامل.
سد الخراب
يأتي تشغيل سد النهضة، بينما تبدو مصر في وجهة نظر اقتصاديين عالقة في وضع "لا انهيار ولا تعافٍ"، وغير محددة البوصلة، لا رأسمالية ولا اشتراكية، وتعيش في ظل توجه حكومي يحمل المواطنين أعباء أخطاء سياساتها الاقتصادية، التي تعتمد على القروض والمساعدات الخارجية،، تكلف الدولة 65% من إجمالي نفقاتها السنوية، لسداد فوائدها وأقساطها، وفقاً لبيانات المركزي المصري، بما أوجد ضغوطاً على الأسر التي يعيش ثلثها تحت خط الفقر، ومثلهم يخشون الوقوع في براثنه، ويفجر غضباً اجتماعياً، "قد يولّد انفجاراً" في أي لحظة، إذا استمرت السلطات في تجاهل أصوات المواطنين.
ووصف الأمين العام للحزب الاشتراكي المصري أحمد بهاء الدين شعبان "مشروع سد النهضة بأنه "سد الخراب" على مصر لأنه يجعل شعبها محاصراً بين الجوع والعطش، ويزيد من الضغوط الاقتصادية التي تمر بها، الأمر الذي أبقاها محاصرة بين ضغوط صندوق النقد وأزمة سد النهضة، التي ستحد من تدفقات مياه نهر النيل بما يهدد الحياة في صورتها الشاملة، بداية من تراجع واردات المياه، وتأثير الأنشطة الزراعية، التي تقف حالياً وحيدة في مؤشر نمو الصادرات، والإنتاج الذي يقوم به صغار المستثمرين والفلاحين الفقراء، الذين يعانون غلاء مستلزمات الزراعة وشح المياه.
يرجع شعبان أزمة سد النهضة إلي الفشل الدبلوماسي واستبعاد ذوي الخبرة في إدارة ملف خطير على الأمن القومي المصري، وابتعاد مصر عن عمقها الأفريقي، بما أتاح لإثيوبيا التلاعب في موارد النيل بسهولة.
في تقرير لـ"فيتش سوليوشنز" صدر مؤخراً، حذّر من أن السد قد يؤدي إلى انخفاض إنتاجية المحاصيل الزراعية نتيجة تراجع إمدادات المياه للري، مبيناً أن الزراعة تستهلك نحو 80% من المياه، وأي نقص مفاجئ يترجم إلى تراجع في إنتاج القمح والذرة والأرز، وهي محاصيل صيفية تحتاج كميات كبيرة من المياه، بما سيؤدي إلى الاعتماد على الاستيراد وزيادة فاتورة الغذاء.
مع اقتراب تعداد مصر من 110 ملايين نسمة لا تزال أكبر مستورد للقمح في العالم، حيث يتوقع أن تستورد نحو 13 مليون طن خلال العام الجاري 2025/ 2026، وهو نفس المستوى من مشتريات العام المالي السابق، ورغم زيادة الإنتاج المحلي بنسبة 1% خلال موسم شتاء 2025، فإن الاعتماد على الاستيراد أمر حتمي، ويشكل استنزافاً مستمراً للعملة الصعبة، مع حاجة الحكومة إلي إسكات الجوع، وتحمل تكلفة دعم الخبز التي ستوجه إلى نحو 60% فقط من تعداد السكان، بتراجع 12% عن أعداد المستحقين للدعم، وفقاً لمؤشرات لجنة الخطة والموازنة في البرلمان المصري.
يؤكد خبراء أن التعبئة الأحادية لسد النهضة أدت إلى تفاقم العجز المائي في مصر بنحو 31 مليار متر مكعب سنوياً، وأن ما أنقذ مصر خلال تلك الفترة تراجع الاستهلاك في السودان بسبب الحرب الأهلية، وعدم تعرض المنطقة لفترة الجفاف التي تشهدها بصفة دورية، مع ذلك سيُبقي سد النهضة مصر في موقف دفاعي مستمر سياسياً واقتصادياً وحتى أمنياً.
كوارث كبيرة
وفقا لرؤية أستاذ جيولوجيا المياه في جامعة القاهرة البروفيسور عباس شراقي، فإن سد النهضة يمثل خطراً مباشراً على مصر من الناحية المائية والبيئية، لأن احتمالات انهياره بعد تخزين نحو 74 مليار متر مكعب من المياه في منطقة زلزالية، أو تعرضه لمخاطر طبيعية مثل الزلازل والانزلاقات الأرضية أو هجوم إرهابي ستؤدي إلى كوارث كبيرة على دول المصب السودان ومصر.
ويوضح شراقي في بحث أكاديمي حصل "العربي الجديد" على نسخة منه، أن خزان سد النهضة سيؤثر على تدفق المياه إلى مصر ويزيد من أخطار نقص الحصة المائية ويهدد الأمن الغذائي. ويوضح خبير المياه أن مصر أصبحت أمام أخطار مزدوجة، تتمثل في عجز مائي متصاعد نتيجة تخزين المياه في سد النهضة ومخاطر استراتيجية كارثية محتملة. من جانبه، يبين أستاذ هندسة الأراضي والمياه في جامعة القاهرة نادر نور الدين أن مصر تعتمد على نهر النيل لتأمين 97% من مواردها المائية، وملء خزان السد العالي بنحو 74 مليار متر مكعب بصفة دائمة، لضمان تشغيل محطات توليد كهرباء السد العالي وخزان أسوان وقناطر نجع حمادي وأسيوط، بما يوازي نحو 8% من احتياجاتها اليومية من الطاقة المتجددة، غير الملوثة للبيئة.
ويعكس تشغيل المحطات المائية، أزمة أعمق في قطاع الطاقة والكهرباء، حيث تعاني الدولة تراجعاً في إنتاج الغاز الطبيعي، وقد زاد الأمر سوءاً بعد تهديد إسرائيل بقطع إمدادات الغاز عن مصر التي تمثل سدس احتياجاتها اليومية، ما أجبر الدولة على المزيد من استيراد الغاز المسال المستورد المكلف للغاية. كما اتجهت الدولة إلى استثمار المزيد من الأموال في توليد الكهرباء، لتشغيل المصانع والمنازل، ومحطات تحلية المياه التي توجهت الدولة إلى القطاع الخاص لضمان قدرته على الاستثمار فيها مؤخراً، للحد من آثار تراجع إيرادات قناة السويس وتفاقم الديون الخارجية، والتزامها بترشيد النفقات في مشروعات البنية الأساسية، وفق اتفاق مسبق مع صندوق النقد الدولي عام 2022.
عجز مائي
يشير نور الدين إلى معاناة مصر من عجز سنوي في المياه يقدر بنحو سبعة مليارات متر مكعب، مع توقع انخفاض نصيب الفرد السنوي لأقل من 500 متر مكعب بنهاية العام، ما اعتبرته المنظمات التابعة للأمم المتحدة حالة "الشح المائي"، خاصة أن مصر تعتمد بشكل شبه كامل على نهر النيل حيث تمثل الأمطار ما بين 2%-3% من مصادر المياه، ويشكل التوسع السريع في الاستهلاك الزراعي والنمو السكاني ضغطا مستمرا على الموارد المحدودة.
يؤكد نور الدين أن رغبة الدولة في الوقوع في أزمة مائية حقيقية، جعلها توجه استثمارات ضخمة، تقدرها الحكومة بنحو 50 مليار دولار، لإنشاء محطات معالجة مياه الصرف الصحي وتحلية مياه البحر، للتكيف مع الظروف الجديدة، وتأمين مصادر بديلة مستدامة للموارد المائية، مع ذلك تبقى مصر مهددة بفقدان جزء مائي من حصتها إذا تحولت مساحات كبيرة من الزراعة المطرية إلى المروية في دول حوض النيل.
وشدد على ضرورة التحرك الدبلوماسي المصري لتكون مصر والسودان عنصر رقابة على تشغيل سد النهضة، بما يضمن لهما عدم تأثير السد على حصتيهما من المياه، خاصة خلال فترة الجفاف، التي تشهدها المنطقة في دورة زمنية تحدث كل 20 عاماً، وبما يدخل عنصر الرقابة على الاستثمارات الزراعية المائية ضمن المفاوضات مع دول منابع النيل.
ويشير نور الدين في تصريحات لـ"العربي الجديد" إلى خشية مصر من أنه في حالة اتخاذ إثيوبيا قراراً منفرداً بزيادة التخزين أو توليد الكهرباء بكثافة ستنخفض الكمية المتدفقة لمصر مباشرة، مؤكداً أن مضي إثيوبيا في التعبئة الأحادية للسد يجعل مصر لا تعرف على وجه اليقين حجم المياه التي ستصلها كل عام، بما يضع الدولة في حالة "غموض استراتيجي" يعرقل أي تخطيط طويل المدى لإدارة الموارد الزراعية والمائية.
كما يرصد نور الدين ضعفاً شديداً في كفاءة استخدام المياه في الزراعة، بسبب عدم قدرة الحكومة على تحمل تكلفة مشروعات التوسع في الري الحديث بالأراضي القديمة حول مجرى نهر النيل والدلتا، مع صعوبة تحمل المزارعين كلفة الاستثمارات لزراعة الأراضي باستخدام الري بالتنقيط والزراعات المغطاة، وتأثر كافة المشروعات المطروحة للتطوير بالتعاون مع البنك الدولي والجهات المحلية، بتراجع قيمة الجنيه وارتفاع معدلات التضخم وأسعار البلاستيك والمعدات اللازمة للتشغيل. ويؤكد الخبراء أن قدرة مصر على الضغط على إثيوبيا أصبحت محدودة، خاصة بعد اكتمال بناء سد النهضة وحصول إثيوبيا على دعم مالي من صندوق النقد والبنك الدوليين والولايات المتحدة ودول أوروبية والإمارات، وتأييد سياسي من جانب الصين وروسيا، ودعم قوي من جيرانها الأفارقة، ودخول إسرائيل على خط الأزمة الساخنة، بطلب منحها تسهيلات من مصر لوصول مياه النيل القادمة من إثيوبيا إليها.