استمع إلى الملخص
- في مارس 2024، وقعت مصر والإمارات صفقة بقيمة 35 مليار دولار لتطوير منطقة رأس الحكمة، مما أدى إلى تدفق مالي كبير، لكن الإصلاحات الاقتصادية الموعودة لم تتحقق، مما أبقى الأزمة قائمة.
- بعد عام من الصفقة، لا يزال الاقتصاد المصري يعاني من تحديات مثل التضخم وعجز الحساب الجاري، مع استنزاف فوائد الديون للإيرادات الحكومية، مما يثير تساؤلات حول فعالية التدابير المتخذة.
في فبراير/شباط 2024، نشرت مجلة "ذي إيكونوميست" مقالاً عن الاقتصاد المصري المتردي وقتها، كان عنوانه التفصيلي يقول "مصر لا تستحق حزمة إنقاذ ... ولكنها ستحصل على واحدة". وبدأ المقال بتوضيح أن مصر تلعب في الحرب الدائرة في غزة دورًا أكثر أهمية مما يدركه معظم الناس!
قالت المجلة العريقة إن مصر بلد ضخم، يبلغ عدد سكانه 110 ملايين نسمة، يدير قناة السويس، ويتشارك حدودًا برية مع غزة، ويحافظ على معاهدة سلام مع إسرائيل، وساعد في التوسط في محادثات السلام. وأشارت أيضاً إلى أن مصر يمكن أن تلعب دورًا حاسمًا في دعم إقامة دولة فلسطينية وضمان الأمن في قطاع غزة. لكن إذا انهارت مصر، فقد يتزعزع استقرار الشرق الأوسط بأكمله، وهو سيناريو مرعب، تزيد احتمالات حدوثه الأزمة المالية المتفاقمة التي يواجهها "النظام الفاشل" حينئذ، وفقاً لتعبير المجلة البريطانية.
أكدت المجلة البريطانية أن الاحتكارات التي يديرها الجيش وأعوانه أحكمت قبضتها على الاقتصاد المصري، حيث وُجه الإنفاق لخدمة الجنرالات، وهرب المستثمرون الأجانب، تاركين خلفهم عجزاً مالياً وتجارياً. أشارت إلى أن مصر استدانت بشكل مفرط، وأن صندوق النقد الدولي أنقذ الاقتصاد المصري والحكومة أربع مرات، وكان ذلك قبل حزمة الإنقاذ الأخيرة التي تم الإعلان عنها في مارس/آذار الماضي.
"ذي إيكونوميست": لو كان المنطق الاقتصادي هو العامل الوحيد، لتم وصف علاج مرير لمصر، يكون فيه أي إقراض إضافي من صندوق النقد الدولي أو الحكومات الأجنبية مشروطًا بإعادة هيكلة الديون والتقشف، وإبعاد الجيش عن الأعمال التجارية.
استمرت المجلة في استعراض نقاط الضعف الكامنة في الاقتصاد المصري وإدارته، قبل أن توضح أنه "لو كان المنطق الاقتصادي هو العامل الوحيد، لتم وصف علاج مرير لمصر، يكون فيه أي إقراض إضافي من صندوق النقد الدولي أو الحكومات الأجنبية مشروطًا بإعادة هيكلة الديون والتقشف، وإبعاد الجيش عن الأعمال التجارية". وقالت: "قد تقضي مصر سنوات في حالة تخلف عن السداد، وهي منطقة مالية محرمة، وسيكافح السيسي لإطعام شعبه ولدفع رواتب موظفي الخدمة المدنية، وقد يطلق السكان الشباب المحبطون احتجاجات جماعية تواجه قمعًا عنيفًا".
قالت المجلة إن الشرق الأوسط لا يمكنه تحمل اندلاع أزمة أخرى في مصر، وخلصت إلى أنه يجب على العالم أن يتجاوز تحفظاته وينقذ مصر مرة أخرى، ونصحت الدول الغربية، وصندوق النقد الدولي، ودول الخليج العربية الثرية، بأن تسهم جميعها في هذا الجهد. وأضافت أنه "في المقابل، ينبغي عليهم الضغط علنًا على الجيش للتخلي عن سيطرته على الاقتصاد" مشيرة إلى أن مصر لن تزدهر أبداً حتى يفسح الرجال بالزي العسكري المجال للآخرين، والمصريون العاديون بحاجة إلى سماع ذلك". المضحك في الأمر (والمبكي أيضاً) أن المجلة نشرت المقال تحت عنوان رئيسي "مخطط هرمي"، في إشارة إلى أهرامات مصر، وإن كان التعبير يُستخدم للإشارة إلى نموذج احتيالي في الأعمال أو الاستثمار!
وقبل نهاية الشهر الذي نشر فيه المقال تلقى الاقتصاد المصري قبلة حياة، حيث وقعت مصر والإمارات العربية المتحدة صفقة بقيمة 35 مليار دولار لتطوير منطقة رأس الحكمة، في أكبر عملية بيع للأراضي الحضرية في تاريخ مصر، اشترت الإمارات بمقتضاها حقوق تطوير 171 مليون متر مربع (42 ألف فدان) من الأراضي لبناء منازل وفنادق ومراكز تسوق في مشروع يوصف بأنه "دبي على البحر المتوسط". لم تكن الصفقة مجرد استثمار عقاري، إذ مثلت شريان حياة اقتصاديا لبلد على حافة الانهيار، بعد عقد من الإنفاق المفرط المعتمد على الديون. فقبل شهرين فقط من إتمام الصفقة، كانت الحكومة المصرية تبحث بشكل عاجل عن الدولارات لتمويل الواردات وتسديد ديونها الضخمة.
وبعد أيام معدودة من الإعلان عن الصفقة الإماراتية، رفع صندوق النقد الدولي القرض المقدم لمصر في ديسمبر/كانون الأول 2022 من 3 مليارات دولار إلى 8 مليارات دولار، وأعلن الاتحاد الأوروبي عن حزمة مساعدات بقيمة 7.4 مليارات يورو (8 مليارات دولار)، كما قدم البنك الدولي 6 مليارات دولار أخرى. وإجمالاً، جمعت مصر أكثر من 55 مليار دولار، وهو مبلغ تجاوز احتياطي النقد الأجنبي للبنك المركزي البالغ وقتها 35 مليار دولار.
ورغم تدفق عشرات المليارات على البلد الذي قاد المنطقة العربية لعقود، والحضارة البشرية لقرون، لم يكن أحد على ثقة من انتهاء الأزمة المستمرة منذ سنوات. ففي عام 2022، أكدت مصر لصندوق النقد الدولي أنها ستسمح بتعويم الجنيه، وأن الدولة ستتوقف عن مزاحمة القطاع الخاص، ضمن إصلاحات أخرى، لكن الوعود لم تتحقق. ورغم خفض قيمة الجنيه ثلاث مرات بين مارس/آذار 2022 ويناير/كانون الثاني 2023، ثم مرة رابعة في مارس 2024، لم تتغير الأحوال كثيراً عن وقت الأزمة، ولا تزال الحكومة مترددة في بيع الشركات المملوكة للدولة، خاصة تلك التي يديرها الجيش.
أتاحت صفقة الإنقاذ الإماراتية، وما أعقبها من تدفقات مليارية، فرصة لا تتكرر كثيراً، حيث جعلت الاقتصاد المصري في أفضل أوضاعه في ما يقارب عقدا ونصفا، خاصة في ما يتعلق بالأزمة الأساسية المرتبطة بتواضع الإيرادات الدولارية
ومع اقتراب عيد الميلاد الأول لصفقة الإنقاذ الإماراتية الدولية، ما زال معدل التضخم في مصر قريباً من 25%، وما زال عجز الحساب الجاري موجوداً، ويعاني القطاع الخاص ركوداً كبيراً، وتعيق أسعار الفائدة المرتفعة النمو، وتحتاج طفرة العقارات في العديد من المدن الجديدة إلى إنفاق ضخم على البنية التحتية، يكون أغلبه بالعملة الأجنبية!
والأسبوع الماضي، انتقدت الأمم المتحدة في تقرير صدر حديثاً إنفاق مصر على فوائد الديون، الذي قالت إنه يفوق إنفاقها على التعليم والصحة، مشيرة إلى أن فوائد ديون الدولة استنزفت أكثر من 70% من إجمالي الإيرادات الحكومية لعام 2024. ووصف التقرير أزمة الديون بأنها تمثل خطراً كبيراً على آفاق التنمية في الاقتصاد المصري.
أتاحت صفقة الإنقاذ الإماراتية، وما أعقبها من تدفقات مليارية، فرصة لا تتكرر كثيراً، حيث جعلت الاقتصاد المصري في أفضل أوضاعه في ما يقارب عقدا ونصفا، خاصة في ما يتعلق بالأزمة الأساسية المرتبطة بتواضع الإيرادات الدولارية. ولكن بعد مرور 11 شهراً على الإعلان عن الصفقة وبدء تدفق الدولارات، لا يبدو الاقتصاد المصري بعيداً عن أسوأ حالاته. فهل يجدر التنبيه بأن سيارة الاقتصاد المصري ترجع إلى الخلف؟