الوظائف تتبخّر والأدوار تتبدّل: بريطانيا عند مفترق الذكاء الاصطناعي
استمع إلى الملخص
- يساهم الذكاء الاصطناعي في إعادة تشكيل الأدوار الوظيفية، مما يتطلب تطوير مهارات جديدة واستثمار المؤسسات في التدريب، مع تحقيق القطاعات الأكثر تعرضًا للأتمتة نموًا في الإيرادات.
- تواجه بريطانيا تحديات في تأهيل القوى العاملة، حيث استثمرت الحكومة 187 مليون جنيه إسترليني لتدريب 7.5 ملايين عامل على مهارات الذكاء الاصطناعي بحلول 2030.
بطالة عند 4.7%، والشواغر تهبط للمرّة الـ37 على التوالي في بريطانيا. هذا الواقع يفرضه الذكاء الاصطناعي الذي يَعِد بأدوار جديدة والحكومة تَعِد بتأهيل ملايين العمال حتى 2030، إذ يتراجع الطلب على العمالة في بريطانيا بوتيرة واضحة. وبحسب أحدث قراءة لمسح شركة مان باور غروب (ManpowerGroup)، للربع الرابع من عام 2025، انخفض صافي نوايا التوظيف في المملكة المتحدة إلى 11% فقط، وهو الأضعف عالميا على أساس سنوي وربع سنوي بين الدول المشمولة، ما يعكس ضغوط تكاليف التشغيل، والضبابية السياسية، وتسارع الاعتماد على الأتمتة والذكاء الاصطناعي.
ولا يقتصر التباطؤ على قرارات الشركات، بل يمتد إلى سلوك الموظفين. فقد أظهرت بيانات نشرتها صحيفة التايمز في 9 سبتمبر/أيلول 2025، استنادا إلى استطلاع أجرته شركة إمبلويمنت هيرو (Employment Hero)، أنّ 65% من العاملين بين 18 و34 عاما يفضّلون البقاء في وظائفهم الحالية، وهو ما وُصف بظاهرة "التشبّث بالوظيفة"، وسط تباطؤ الأجور وتراجع الفرص.
أما الصورة الرسمية فتعزّزها أرقام مكتب الإحصاءات الوطنية (ONS)، إذ انخفض عدد الوظائف الشاغرة إلى 718 ألفا في الفترة من مايو/أيار إلى يوليو/تموز 2025، مسجّلا الانخفاض السابع والثلاثين على التوالي، مقارنة بالفترة الثلاثية السابقة، مع تراجع الشواغر في 16 من أصل 18 قطاعا. كما ارتفع معدل البطالة إلى 4.7% بين إبريل/نيسان ويونيو/حزيران. تؤكّد هذه المؤشرات أنّ سوق العمل بات أكثر هشاشة وأقل قدرة على خلق فرص عبر معظم القطاعات.
ويتزامن ذلك مع تباطؤ ملحوظ في نمو الأجور، إذ يظهر مسح الاتحاد البريطاني للتوظيف (REC)، وشركة كيه بي إم جي (KPMG)، لشهر أغسطس/آب، أنّ زيادات رواتب البداية (الأجور التي تُعرض على الموظفين الجدد عند التعيين)، سجّلت أضعف وتيرة منذ أربع سنوات ونصف، بالتوازي مع زيادة سريعة في أعداد المرشحين للعمل وتراجعٍ في التوظيف وإن بوتيرة أهدأ. نُشرت بيانات هذا البحث رسميا في 8 سبتمبر/أيلول 2025.
وعلى صعيد ثقة الشركات واتجاهات التوظيف، كشف "مسح لوحة صانعي القرار" لدى بنك إنكلترا (مسح شهري يُجريه بنك إنكلترا مع كبار المسؤولين الماليين (CFOs) في الشركات البريطانية)، لشهر أغسطس/آب 2025، أنّ عدد العاملين تراجع سنويا بنسبة 0.5% خلال الأشهر الثلاثة حتى أغسطس/آب، في أسوأ أداء منذ عام 2021، مع توقّعات بمزيد من الضعف في العام المقبل. وأشارت صحيفة فاينانشال تايمز في 4 سبتمبر/أيلول إلى أنّ وتيرة خفض الوظائف هي الأسرع منذ أربع سنوات.
الذكاء الاصطناعي يخلق فرصاً أيضاً
في حديث خاص لـ"العربي الجديد"، تقول هيفاء محضزيني (Hayfa Mohdzaini)، كبيرة المستشارين لشؤون التكنولوجيا في المعهد المعتمد للأفراد والتنمية (CIPD)، إنّ الذكاء الاصطناعي يمتلك قدرة حقيقية على تحقيق مكاسب كبيرة في الإنتاجية داخل الاقتصاد البريطاني، فضلا عن دوره في تعزيز طبيعة الأدوار الوظيفية. وتوضح أنّ استخدام الذكاء الاصطناعي في المهام الروتينية والإدارية يتيح للموظفين وقتا أوسع للتركيز على مسؤوليات أخرى أكثر قيمة داخل العمل.
وتضيف محضزيني أنّ العاملين يحتاجون إلى تطوير مهارات تمكّنهم من أداء وظائفهم بكفاءة، وقد يتطلب ذلك التدرّب على أدوات ذكاء اصطناعي جديدة مع تطور بيئات العمل. وتؤكّد أنّ نوعية المهارات المطلوبة ستختلف تبعا لطبيعة الدور الذي يشغله كل موظف ودرجة انخراطه مع هذه الأدوات. ومن هنا تبرز أهمية أن تعمل المؤسسات على الاستثمار في التدريب، وتعزيز ثقافة التعلّم المشترك، والتعاون بين الفرق المختلفة، بما يساعد الموظفين على تطوير أو إعادة تأهيل مهاراتهم كلما اقتضت الحاجة، حتى لا يُترك أحد خلف الركب.
إلى جانب هذا التباطؤ في التوظيف، يزداد القلق من وضع الشباب. ففي 10 سبتمبر/أيلول 2025، حذّر اتحاد النقابات العمالية (TUC) من تفاقم أزمة "اللاعمل واللاتعليم واللاتدريب"(NEET)، إذ ارتفع عدد الشباب غير النشطين اقتصاديا إلى نحو مليون شخص منذ الجائحة. وتشير بيانات مكتب الإحصاءات الوطنية إلى أنّ نسبة هذه الفئة بلغت 12.8% في الربع الثاني من 2025، أي نحو 948 ألف شاب وشابة، بينهم 365 ألفا عاطلون و583 ألفا يُصنَّفون غير نشطين اقتصاديا. ويرى الاتحاد أنّ ضعف المتابعة الحكومية، حيث لا يتلقّى سوى ربع هؤلاء دعما منتظما، ينذر بخطر "جيل ضائع" يقترب من بلوغ العشرينات دون أي خبرة عمل.
هكذا يعيد الذكاء الاصطناعي رسم الأدوار
ورغم هذه الصورة القاتمة لانكماش الوظائف التقليدية، لا تُختزل التكنولوجيا في كونها أداة استغناء، يبين ذلك تقرير في صحيفة التايمز البريطانية في 5 سبتمبر 2025 حول صعود ما وُصف بـ"الموظفين القابلين للتحميل"، أي وكلاء الذكاء الاصطناعي الذين يعملون إلى جانب البشر في المهام التنظيمية. ويذكر أنّ نحو 78% من القيادات التنفيذية في بريطانيا يستخدمون وكلاء ذكاء اصطناعي داخل مؤسساتهم.
وتدعم هذه النسبة نتائج مسح منفصل أجرته شركة سايلزفورس (Salesforce)، وهي شركة أميركية رائدة في مجال البرمجيات السحابية وحلول الذكاء الاصطناعي للأعمال، على قيادات تنفيذية في المملكة المتحدة ضمن شركات عالمية كبرى. وأظهر المسح، أنّ الاعتماد على هذه الأدوات يفتح الباب أمام وظائف جديدة في مجالات الإشراف والحوكمة وإدارة الكفاءة، ما يجعله مؤشرا لاتجاهات الشركات الكبرى أكثر منه انعكاسا مباشرا لسوق العمل ككل.
من جهتها، أكّدت برايس ووترهاوس كوبرز (PwC) في يونيو 2025 هذا الاتجاه عبر "مؤشر وظائف الذكاء الاصطناعي"، الذي يُظهر أنّ العمال الذين يمتلكون مهارات متقدمة في الذكاء الاصطناعي يحصلون على علاوة أجور بمتوسط 56% مقارنة بغيرهم، وأن القطاعات الأكثر تعرّضا للأتمتة حققت نموا في الإيرادات لكل موظف يساوي ثلاثة أضعاف القطاعات الأقل تعرضا.
ملايين الوظائف في خطر
من زاوية بحثية، يشير معهد السياسات العامة البريطاني (IPPR) في تقريره الصادر في 27 مارس/آذار 2024 إلى أنّ السيناريو المتشائم قد يعرّض ما يصل إلى ثمانية ملايين وظيفة للخطر، ما لم تُسرّع الحكومة برامج إعادة التأهيل وتحديث شبكة الأمان الاجتماعي. ويحذّر المعهد من أنّ الوظائف الكتابية والأجور المنخفضة ستكون الأكثر عرضة، ما يجعل التدخّل المبكر ضرورة لتجنّب بطالة هيكلية واسعة.
أما من منظور قطاع الأعمال، فيُظهر مسح معهد المديرين (IoD) الصادر في 28 إبريل 2025 أنّ 78% من الشركات التي بدأت استخدام الذكاء الاصطناعي تجني مكاسب كفاءة واضحة، غير أنّ التنفيذ يظل رهينا بسدّ فجوات المهارات، وإعادة توزيع الأدوار داخل المؤسسات، وبناء ضوابط حوكمة تُطمئن العاملين وتحافظ على الاستقرار الوظيفي. ويؤكد قادة التكنولوجيا، ومنهم رئيس "مايكروسوفت" في بريطانيا في مقابلة نُشرت في 5 مارس 2025، أنّ غياب استراتيجية واضحة للتبنّي والتدريب يُبقي مؤسسات كثيرة في مربع التجريب بدل تحقيق عوائد إنتاجية ملموسة.
وفي الاتجاه نفسه، أعلنت الحكومة البريطانية في 14 يونيو 2025، ضمن مبادرة "الأولوية للتكنولوجيا" (TechFirst)، عن استثمار 187 مليون جنيه إسترليني لتدريب 7.5 ملايين عامل بريطاني على مهارات الذكاء الاصطناعي الأساسية بحلول عام 2030، عبر شراكات مع شركات تكنولوجيا كبرى مثل "إنيفيديا" و"مايكروسوفت" و"غوغل"، في محاولة لتوسيع قاعدة المستفيدين من التحول التكنولوجي واحتواء المخاطر.