استمع إلى الملخص
- بعد سقوط الأندلس، استمر اليهود في العيش بأمان في المغرب العربي ضمن أحياء "الملاحات"، مما يعكس إمكانية التعايش السلمي بين الثقافات المختلفة.
- توصي المقالة بتطبيق نموذج "الملاحة" في إسرائيل، حيث يمكن لليهود الشرقيين العيش في أحياء خاصة بهم، مما يوفر الأمان والازدهار دون الحاجة لدولة منفصلة، كبديل لحل الدولتين أو الدولة الواحدة.
هذه مقالة غريبة، وتقدم فكرة جديدة لحل الإشكالية المتمثلة في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ولربما حلها حلاً شافياً نهائياً. ويأتي هذا المقترب مناهضاً ومعاكساً لأفكار بنيامين نتنياهو التوسعية في بناء إسرائيل الكبرى (وكأن هذا الحلم قد تحقق في يومٍ من الأيام)، أو يتمثل في حكم الشرق الأوسط والعالم العربي بالذات عن طريق الاقتصاد والمال والتفوق التكنولوجي، أو أنه تراوده أحلام بأن اليهود هم شعب الله المختار ولهم الحق في تسخير عباده الآخرين لخدمتهم كما يقول كهنتهم والمتعصبون منهم.
وفي عهد الحكم الإسلامي للأندلس، منح اليهود خاصة منذ بداية القرن الحادي عشر الميلادي وبداية حكم ملوك الطوائف فرصاً ليكونوا وزراء وشعراء وفلاسفة وأطباء وموسيقيين، وانخرطوا في الحياة هناك، وبرزت منهم عائلات مرموقة.
ومن أشهر تلك العائلات هم أبناء النغريله (Ibn Naghrillah Family)، وأولهم كان صموئيل أو إسماعيل الذي ولد في قرطبة العام 995 ميلادية. وقد درس الديانتين اليهودية والإسلامية، وكان يكتب الشعر ويعتبر فيلسوفاً وسياسياً.
وقد تمكن من أن يكون زعيماً لليهود في غرناطة بعد أحداث شغب كبيرة وقعت في قرطبة، والتي صار فيها الوزير الأول. وهكذا تحققت له السطوة في المجتمعين الإسلامي واليهودي في أكبر مدن الأندلس. ومما عزز مكانته هو أنه حارب أعداء قرطبة، وبخاصة بعض القوات الإسبانية وحاكم مدينة كارامونا، حيث وجِدَ بعض الإسبان المعادين للحكم الأموي في الأندلس.
وبسبب قدراته واتصالاته، تمكن من أن يمارس سلطة قوية جداً. وتوفي عام 1056 عن عمر يناهز 63 سنة ليأتي من بعده ابنه يوسف، وأصبح الوزير الأول في بلاط غرناطة، ولما يتجاوز عمره 21 سنة، واستمر في الحكم المضطرب حتى مقتله عام 1066 لأنه كان شخصاً مثيراً للجدل.
ولم يقف نفوذ العائلات اليهودية على آل النغريله، بل برز أشخاص مثل "حاسداي ابن شابروت" الطبيب الشهير والدبلوماسي السياسي الذي عمل في بلاط حاكم قرطبة عبد الرحمن الثالث. وقد كان ابن شابروت تاجراً أريباً ووطد علاقات قرطبة مع إسبانيا ومع كبار التجار اليهود في مناطق مختلفة من أوروبا. ومن الرجالات البارزين الآخرين يظهر لنا اسم الشاعر والفيلسوف "ابن غابيرول" في القرن الحادي عشر والفيلسوف والطبيب والمعاصر لابن رشد ابن ميمون (Maimonides). الذي حرقت كتبه في قرطبة وخرج منها ليصبح المرافق والطبيب للسلطان صلاح الدين الأيوبي، وكذلك "ابن عيزرا" الشاعر والمتبحر في التوراة إبان القرن الثاني عشر.
ولما جاء القشتاليون بجيوشهم وبدأوا يحتلون المدن الأندلسية، بدءا من طليطلة ومروراً بقرطبة ومدريد واشبيلية وكارامونا وبلد الوليد، وسقط آخر ملوك الطوائف في غرناطة عام 1492، لقي المسلمون عنتاً كبيراً في الحفاظ على دينهم وهويتهم لأنهم كانوا يمنعون من الصلاة. وعانت الجالية اليهودية الأمرين. وقد تحول العرب الذين بقوا في مدن الأندلس إلى الموسيقى (الفلمنكو) وإلى الرقص وألعاب الأكروبات لكي يتمكنوا من الحصول على طعام يقيم بالكاد أودهم.
وبدأ كثير من العرب واليهود في الهجرة من الأندلس إلى المغرب العربي عامة، وإلى مدن المملكة المغربية خاصة. وفي بداية القرن الخامس عشر تولدت الفكرة لدى الجالية اليهودية الإسبانية (Sephardic Jews) أن انخراطهم في المجتمعات في شمال أفريقيا لن يحميهم. ولذلك بدأوا في إنشاء أحياء خاصة بهم، أو غيتو (Ghetto) يسكنون فيه بعضهم إلى جانب بعض.
وكلمة غيتو تعني أماكن إقامة المهاجرين الذين لا يحصلون على خدمات عامة، وتكون ذات مستوى عمراني أقل من باقي المدينة. إلا أن حي الملاحة (Mella) في مدن مثل فاس ومراكش وغيرهما كانت تتمتع بإرث حضاري وتجاري. وقد سمي الحي بالملاحة إما لتجارة الملح غالي الثمن فيها، أو لأن الملح كان يستخدم فيها لأغراض خاصة. وقد استمرت أحياء "الملاحة" في النمو والازدهار منذ بداية القرن السادس عشر وحتى الآن.
وفي المملكة المغربية بالذات فإن اليهود لا يمانعون، بل يرحبون بتزويج بناتهم لأعيان المدن التي فيها حي الملاحة. وقد نشأ عن ذلك الأمر أن ازدادت أعداد اليهود أو أبناء الأسر المختلطة والمعتبرين يهوداً حسب المبادئ اليهودية. فالملاحات تشكل إذن صيغة من الصيغ التي ابتكرها اليهود، ووافق عليها حكام المغرب العربي من أجل منح الجاليات اليهودية أو (أهل الذمة من اليهود) الأمن الذي يبحثون عنه، وفتح المجال الذي يتيح لهم ممارسة التجارة وصناعة الماس والذهب والجواهر (الصياغة).
وتفتح لهم الملاحات أبواب الاتصال مع باقي يهود العالم كما كانوا يفعلون باستمرار إبان وجودهم في الأندلس وعيشهم في حي الملاحة في موطنهم الجديد في المغرب العربي. صحيح أن التفاعل بين اليهود والعرب والمسلمين في شمال أفريقيا لم يكن دائماً سمناً على عسل، ولكنه كان متألقاً أكثر مما كان متنافراً، وأن الثورات أو الاحتجاجات التي مُورست ضد اليهود جاءت نتيجة للتفاوت الهائل في الدخل والثروة بين الفقراء من غير اليهود والأغنياء منهم.
وقد منح الأمان لليهود في المغرب العربي أمران، الأول هو حسن معاملة اليهود من قبل أهلنا هناك، والثاني هو توفير ملاذٍ آمنٍ لهم من العذاب الذي كان يلقاه اليهود القاطنون في دول أوروبية مثل إنكلترا وفرنسا وغيرهما، ولم يكن اليهود يثيرون حينها من تظلم في الوطن العربي إلا معاملتهم باعتبارهم من أهل الذمة، وعليهم أن يدفعوا ضريبة لذلك مقابل الحماية والرعاية التي كانوا يتمتعون بها. ولم ينتقل اليهود إلى المغرب العربي فقط، بل انتقلوا إلى أجزاء أخرى تابعة للإمبراطورية العثمانية، والعجيب أن العثمانيين تمكنوا من احتلال مدينة إسطنبول عاصمة الإمبراطورية البيزنطية سنة 1453، أو قبل 49 عاماً من سقوط آخر مدن الأندلس غرناطة بيد الإسبان.
وقد آثر بعض اليهود أن تكون هجرتهم من الأندلس إلى الإمبراطورية العثمانية التي جعلت من إسطنبول عاصمة لهم، بعد أدرنه، وقد سكن بعضهم الآخر في اليونان (سالونيك)، وفي دول مثل مصر وسورية ولبنان، علماً أن تاريخ الجالية اليهودية في بعض هذه الدول يمتد لفترات أبعد من القرن الخامس عشر.
ولما بدأ اليهود في الهجرة إلى فلسطين، خاصة أيام الانتداب البريطاني البغيض، فقد ركزوا على فكرة مشابهة وهي بناء مدن أو أحياء خاصة بهم. ففي جانب يافا، خلقوا تل أبيب، التي أصبحت مع الوقت ثاني أكبر مدينة يهودية في العالم. وفعلوا الشيء نفسه عندما تكاثروا وتمددوا في القدس الغربية وصارت مدينة حتى قبل عام 1948. وهنالك المستعمرات التي بنوها في مناطق مختلفة في فلسطين وكانت حكراً عليهم.
والسؤال الذي يحضرني هو: لماذا اختار اليهود الأشكيناز خاصة أن تكون لهم دولة خاصة بهم؟ لقد كان أجدى لهم أن يكتفوا ببناء أحياء أو أشباه مدن لهم في مدن مختلفة، وأن يعيشوا فيها وأن يكونوا ضمن دولة واحدة يعيش كل مواطن فيها تحت إطار القانون والترتيبات المؤسسية المتفق عليها وهكذا يستطيعون العيش بأمان كما كانوا في المغرب العربي.
لقد سمعنا بسيناريوهات كثيرة من أجل حل القضية الفلسطينية مثل حل الدولتين والذي يبقى هو الأقرب في ظل الظروف الحالية. ولكن أي حرب مستقبلية قد تفتح الباب على مصراعيه لحروب طويلة الأجل ستؤدي بلا شك إلى نهاية غير مفرحة لإسرائيل. ويجب ألا تغريهم عنتريات نتنياهو المطلوب للمحاكمة الداخلية والخارجية بصفة مجرم حرب ومتهم بقضايا كثيرة داخل إسرائيل، أبسطها تهم الفساد والإفساد.
وسمعنا عن حل الدولة الواحدة الذي لن يرضى أحداً. إن ما أقترحه من حل هو أكرم إنسانياً للجاليات اليهودية مما تفرضه حكومة الأشكنازي نتنياهو أو غيرها على الفلسطينيين. فلماذا لا نركز على حل ينطلق من فكرة "الملاحة" للإسرائيليين الراغبين في البقاء، وخاصة أن معظم الذين سيبقون في إسرائيل هم اليهود الشرقيون، أما الأشكيناز فسوف يغادرون، والشرقيون يعرفون ما تجلبه فكرة الملاحة من حياة. ومن لا يصدق ذلك فليسأل اليهود السمره في نابلس عن حياتهم الآمنة حتى في ظل الحروب قبل عام 1948 وما بعدها من احتجاجات وثورات ضد قيام الدولة الفلسطينية. وكيف أن هذه الجالية اليهودية في نابلس ما زالت ترى أن ملوك الأردن الهاشميين هم ملوكهم ويدينون لهم بالولاء.