المكاتب الاقتصادية العراقية: تعزيز الخزائن المالية للأحزاب والمليشيات

15 فبراير 2025
تحرك ضد الفساد في بغداد، 18 يوليو 2021 (مرتضى السوداني/ الأناضول)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- استيلاء الفصائل المسلحة على العقود الحكومية في العراق يتجلى في سيطرة "أنصار الله الأوفياء" على عقد بقيمة 240 مليون دولار دون تنفيذ المشروع، مما يعكس هيمنة المكاتب الاقتصادية للفصائل والأحزاب على عقود البنى التحتية.
- يتم الاستيلاء على المشاريع عبر شركات تابعة للفصائل أو فرض إتاوات، مما يؤدي إلى توزيع المنافع حسب النفوذ السياسي وتقاسم المكاسب بين الأحزاب والمليشيات.
- تسيطر المكاتب الاقتصادية للفصائل والأحزاب على الموارد الاقتصادية، ويعجز القانون عن مواجهة الفساد المتجذر منذ 2003، مما أدى إلى احتجاجات شعبية قوبلت بالقمع.

جاءت تصريحات صادرة من الحكومة المحلية في محافظة الديوانية جنوبي العراق، بشأن استيلاء فصيل مسلح على عقد ضخم بقيمة تتجاوز 240 مليون دولار، تأكيداً لاستمرار هيمنة المكاتب الاقتصادية للفصائل المسلحة والأحزاب السياسية على غالبية عقود البنى التحتية والإنشاءات عبر شركات تملكها أو شركات تدعمها مقابل الحصول على نسب مالية ضخمة منها.

ورغم تعهدات حكومية سابقة، بإعادة النظر في تصنيف الشركات التي تتولى مشاريع التطوير والإعمار في العراق، إلا أن المشكلة ما زالت تتفاقم في مختلف مدن البلاد، مع غياب معايير الجودة والخبرة وإعلاء مصالح الجهات الأكثر نفوذاً في الحصول على تلك العقود.

وفي مؤتمر صحافي لعضو مجلس محافظة الديوانية، (الحكومة المحلية) طارق البرقعاوي، الواقعة على بعد 180 كيلومتراً من جنوب العراق، كشف عن استحواذ جماعة "أنصار الله الأوفياء"، على مشاريع مهمة في المحافظة محملاً إياها مسؤولية خراب المحافظة.

والجماعة المسلحة هذه هي أحد الفصائل الحليفة لطهران وتنشط في العراق ضمن عدة محافظات. وبحسب النائب البرقعاوي في المؤتمر الصحافي، فإن جماعة أنصار الله الأوفياء بزعامة حيدر الغراوي هيمنت على مشروع إنشاء 42 حيًّا سكنيًّا في المحافظة بقيمة 320 مليار دينار، أي ما يعادل نحو 240 مليون دولار، وأشار إلى أنه سيكشف عن هذا الفساد رغم المخاطر التي سيتعرض لها، حسب تعبيره.

وأضاف أن مشروع 42 حيًّا في الديوانية المحال لشركة تابعة لجماعة أنصار الله الأوفياء، "ليس أكثر من كذبة كبرى"، وأنه لا وجود لهذا المشروع على أرض الواقع، لافتًا إلى أن ما جرى تنفيذه فعليًّا فقط هو مشروع محدود يغطي بين 4 إلى 5 أحياء فقط في مركز المحافظة، وبعد إكمال هذه الأحياء تم الادعاء بأن الأموال قد نفدت.

تزامنت هذه التصريحات مع مواقف مماثلة لأعضاء آخرين في حكومة المحافظة أكدوا فيها أن مشروع إنشاء الأحياء السكنية الجديدة كان قد أحيل أول مرة لشركة أجنبية معروفة، لكنه سرعان ما تم التراجع عن القرار واستيلاء شركة مرتبطة بجماعة "أنصار الله الأوفياء" على العقد بالمجمل.

استيلاء مباشر أو فرض الإتاوات

ويؤكد الناشط العراقي من محافظة الديوانية زيد الفتلاوي أن الديوانية لا تختلف عن باقي المحافظات الجنوبية من حيث تقاسم المكاسب السياسية ودوائر الدولة ذات الموارد المالية الكبيرة بين الأحزاب المليشياوية، ويقول في حديث مع "العربي الجديد"، إن "دوائر الدولة باتت البقرة الحلوب التي يتم توزيع منافعها حسب الأقوى والأكثر سيطرة، وتمتد المنافع من الفصائل الأكثر نفوذاً نزولاً نحو أضعف جهة أو فصيل أو حزب".

وأضاف أن "الشركات التي تدخل المحافظة بحجة إنشاء مشاريع لا تختلف في هذا الأمر، فهي تابعة أيضًا للأحزاب ومليشياتها، لكن الأمر هنا يتم على طريقتين: الأولى أن تأتي شركة تابعة لمليشيا أو حزب سياسي لتستلم المشاريع إما عن طريق الحكومة المحلية (استثمار محلي) أو تأتي بالموافقة من بغداد.

سياحة وسفر
التحديثات الحية

أما الطريقة الثانية فهي عبر الإتاوات التي تحصّلها من الاستثمارات، لافتًا إلى أن الشركات التي تريد أن تستلم أي مشروع في المحافظة يجب أن تكون مدعومة بجهة ما حتى تبعد عنها أي عراقيل إدارية وغيرها فتلجأ إلى دفع أموال طائلة أو نسب من مبلغ المشروع إلى إحدى الجهات النافذة المسلحة أو الحزبية"، مؤكدًا أنه في حال عدم دفع "الإتاوات" لتلك الجهات فإن هذه الشركات لا يمكنها الحصول على المشاريع حتى وإن كانت هي الأجدر بإحالة المشروع عليها.

وتابع الفتلاوي أن "الشركة الإسبانية التي أعلنت حكومة بغداد عن استلامها لتأهيل 42 حيًا في الديوانية، هي من الأمثلة التي ظهرت بعد تصريح أحد أعضاء المجلس بصورة علنية وكشف أنها تعود لحركة أنصار الله الأوفياء"، مبينًا أن كشف الحقيقة جاء بعد عدة احتجاجات مناطقية داخل المدينة للمطالبة بإنقاذ مناطقهم من انعدام الخدمات، وأوضح أن رفض المحافظ لما كشفه عضو المجلس خلال المؤتمر الصحافي يشير إلى وجود تعاون واضح بين الجهات الحزبية والمليشياوية والحكومة المحلية في الديوانية وتواطؤ الأخيرة في إحالة المشاريع لتلك الجهات المتورطة بالفساد.

"أنصار الله الأوفياء" وأخواتها

مليشيا "أنصار الله الأوفياء" واحدة من الجماعات المصنفة على أنها أبرز عشرين فصيلاً مسلحاً يرتبط بقوات الحرس الثوري الإيراني، مثل كتائب حزب الله، وعصائب أهل الحق، وبدر، والنجباء، وسيد الشهداء، والإمام علي، والطفوف. وتمتلك تلك الجماعات أنشطة اقتصادية وتجارية ضخمة، من خلال ما يعرف بـ"المكاتب الاقتصادية" التي تحصل فيها على منافع وعوائد مالية مخالفة للقانون بطبيعة الحال.

وتؤكد المعلومات التي كشف عنها مجلس محافظة الديوانية نفوذ وهيمنة المكاتب الاقتصادية على المشاريع والأموال والموازنات في محافظة الديوانية (القادسية) وباقي محافظات جنوبي العراق، بعد أن أكدت تقارير سابقة سيطرة ذات المكاتب التابعة للفصائل والأحزاب على المشاريع والأنشطة الاقتصادية في محافظات وسط وغرب البلاد، ومنها نينوى وصلاح الدين والأنبار.

ولا يقتصر الأمر على هذا، فالمشاريع والموازنات التابعة للمؤسسات الحكومية والوزارات تخضع جميعها منذ العام 2003 لسيطرة الأحزاب السياسية الكبيرة والأذرع العسكرية التي تقف وراءها، لكن هذا الاستحواذ تفاقم خلال السنوات الأخيرة. والمكاتب الاقتصادية هي أذرع اعتادت الأحزاب العراقية المتنفّذة ومليشياتٌ تشكيلَها بعد الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003، للاستفادة من أموال الوزارات والمؤسسات التي تحصل عليها هذه الأحزاب.

المكاتب الاقتصادية تهيمن على المشاريع

في الأثناء كشف مصدر في هيئة النزاهة الاتحادية عن معلومات تفيد بنفوذ المكاتب الاقتصادية للفصائل المسلحة والأحزاب السياسية في جميع الموارد الاقتصادية في محافظات جنوبي العراق سواء كانت حكومية أو خاصة، مبينًا أن مئات الشكاوى قدمت بهذا الخصوص. وقال المصدر الذي طلب عدم الكشف عن هويته لـ "العربي الجديد" إن "المعلومات التي ترد إلى هيئة النزاهة تؤكد تورط الجهات الحزبية والفصائل المسلحة بعمليات الفساد والسرقة والابتزاز من أجل الحصول على الأموال والمشاريع والعقود".

ولفت إلى أن سيطرة ونفوذ الجهات الحزبية والمسلحة عبر مكاتبها الاقتصادية وصلت لجميع مؤسسات الدولة ولاسيما الشركات النفطية والموانئ والمنافذ الحدودية، إلى جانب مؤسسات الدفاع والداخلية والكهرباء والصحة، كما وصلت إلى الموارد الخاصة، حيث باتت تفرض نسبًا مالية على الأنشطة الاقتصادية الخاصة التي تخرج عن سيطرتها.

وأشار إلى أن أنشطة المكاتب الاقتصادية في المحافظات الجنوبية تنفذ عبر جهات أو شخصيات محلية لا ترتبط بشكل رسمي بالأحزاب والفصائل، ليتم إبعاد الشبهات عنها في عمليات الاستحواذ على الموارد الاقتصادية والمالية. وعن سبب عدم تحرك هيئة النزاهة أو الجهات الحكومية الأخرى لضبط ومحاسبة تلك الجهات.

وأكد المصدر أن مؤسسات الدولة العليا عاجزة عن فتح ملفات الفساد وأنشطة المكاتب الاقتصادية للأحزاب والمليشيات، وبين أن الملفات التي يسمح بمتابعتها هي الملفات الصغيرة التي لا يثبت فيها تورط جهات سياسية ومسلحة متنفذة في المحافظات أو في العاصمة بغداد. من جهته يرى الباحث في الشأن العراقي حسين العامل أن أنشطة المكاتب الاقتصادية للأحزاب والفصائل ليست بالجديدة وإنما هي امتداد لفساد ينخر الطبقة السياسية منذ العام 2003 ولغاية اليوم.

وقال العامل في حديث لـ"العربي الجديد"، إن "الأحزاب السياسية والفصائل المسلحة التي اقتحمت العمل السياسي باتت تجند الوزارات والمؤسسات التابعة لها لكسب مغانم السلطة"، مبينًا أن الفساد وسرقة الأموال في العراق تجاوز مرحلة المليارات ووصل إلى مرحلة التريليونات وذلك بسبب غياب الردع والعقوبات القانونية بحق تلك الجهات.

وأوضح أن أنشطة المكاتب الاقتصادية لا تقف عند حدود محافظة معينة، بل تشمل جميع المحافظات العراقية لتكون مصدرًا لتمويل الأحزاب والفصائل، ويظهر ذلك بوضوح من خلال الثراء الفاحش لتلك الأحزاب وقياداتها. واستبعد العامل إمكانية الخلاص من نفوذ وأنشطة المكاتب الاقتصادية بسبب عجز مؤسسات الدولة الحكومية وهيئة النزاهة والقضاء عن ملاحقة كبار السراق والفاسدين، مشيرًا إلى أن الشارع العراقي تحرك عبر تظاهرات تشرين لإنهاء تلك السرقات والفساد التي تورط بها كبار المسؤولين في الدولة والأحزاب والنواب والفصائل المسلحة، ولكن تمت مواجهة إرادة الجماهير بالقتل والاعتقال والاستهداف.

المساهمون