المتحف المصري الكبير... إيجابية الجدوى وإشكالية الرؤية

05 نوفمبر 2025   |  آخر تحديث: 00:51 (توقيت القدس)
افتتاح المتحف المصري الكبير، الجيزة، 1 نوفمبر 2025 (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- أهمية المتحف المصري الكبير: يُعتبر مشروعًا حضاريًا يعكس التاريخ والميراث الثقافي لمصر، متوقعًا جذب 3.5 ملايين سائح سنويًا، مما يعزز السياحة الثقافية بنسبة 30-40% ويُحسن هيكل السياحة المصري.

- التحديات في قطاع السياحة المصري: يعاني من مشكلات هيكلية تؤثر على تنافسيته، مما يتطلب إصلاحات طويلة الأجل وسياسات لتعزيز نقاط القوة ومعالجة الضعف.

- حدود دور السياحة في التنمية الاقتصادية: رغم أهميتها كمصدر للعملات وفرص العمل، إلا أنها قطاع تابع محدود الأفق، ولا يمكن الاعتماد عليه كقاطرة للتنمية الاقتصادية.

لا شك في أن ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان؛ فلا تُقيَّم كل الأشياء بجدواها الاقتصادية ومكاسبها المادية فقط. وهكذا سواء أكانت الجدوى الاقتصادية للمتحف المصري الكبير إيجابية أم سلبية، وسواء أكانت العوائد المالية قريبة أم بعيدة، فهو مشروع حضاري يعكس الرصيد التاريخي للمنطقة والميراث الحضاري لشعوبها، وجدير بأن يعتزّ به كل مصري وعربي.

كذلك إن 1.2 مليار دولار ليس بالشيء الكثير على مشروع بهذه الأهمية، دون أن يلغي ذلك حتمية المراجعة الدقيقة والشفافية الكاملة بشأن تكاليفه وتمويله. وأقول للمتشككين إنه في الحد الأدنى، بمنطق "السيّئ والأسوأ" على الأقل، لن تضير مليار دولار أخرى كثيرًا بالنسبة إلى عشرات المليارات التي أنفقتها مصر في العقد الأخير، ووُضِع كثيرٌ منها في غير محله، مكانًا وزمانًا؛ ما يجعل تخصيص أحدها لمَعْلَم كهذا، استثمارًا ماديًا ومعنويًا "أفضل من غيره" على الأقل.

هذا تأكيد مبدئي لأهمية المشروع والترحيب الواجب به، بغضّ النظر عن، وقبل أيّ، تقييم أو نقاش اقتصادي، علمًا بأنه بمنظور الجدوى الاقتصادية، فالأرجح أنه سيكون مشروعًا مُجديًا في المدى الطويل، وبالمعنى الواسع للجدوى، أي حتى إن لم يستعد تكاليفه المالية المباشرة كافة.

فهذا النوع من المشاريع تقدّر جدواه الاقتصادية بالربحية الاجتماعية الشاملة، أيّ بكل العوائد المباشرة وغير المباشرة على الاقتصاد والمجتمع، وليس فقط بالربحية المالية المباشرة التي تعود على الجهة المموِّلة، وهي هنا الحكومة، التي نتمنى أن تستعيد هذه الفكرة عن دورها في المواضِع الأخرى كافة، وتتذكّر حقيقة أنها حكومة وكيلة عن مصالح الشعب وأمينة على أمواله وممتلكاته، لا شركة خاصة تتربّح من الشعب، لصالح مجموعة مساهمين لا نعلمها!

ومما يدعم جدوى المشروع استراتيجيًا ضرورته للمساهمة في الموازنة النوعية لقطاع السياحة المصري، الذي تغلب عليه السياحة الشاطئية بنسبة 85%، مقابل سياحة ثقافية بنسبة 15% فقط، وهو هيكل شديد الاختلال مقارنةً بالتكوين العام لقطاع السياحة عالميًا، الذي تحقّق ضمنه السياحة الثقافية 40% من الإيرادات السياحية. وهو هيكل لا يعوزه فقط الاتساق مع ما تمتلكه مصر من ثروة أثرية هائلة، ولا يعيبه فقط عدم تحقيقه كامل إمكاناتها من السياحة الثقافية، بل إنه هيكل يزيد -بهذه التركّزية- هشاشة القطاع بمجموعه وعدم استقرار إيراداته.

وتشير التقديرات إلى احتمالية أن يجذب المتحف حوالى 3.5 ملايين سائح في السنة الأولى لافتتاحه، بمتوسط عشرة آلاف سائح يوميًا، وأن يزيد حركة السياحة الثقافية بما يراوح ما بين 30 و40%.

ورغم ما يبدو من تفاؤل على هذه التقديرات، فإنها ليست مستحيلة في ضوء وصول عدد السياح الوافدين إلى مصر إلى أكثر من 15.7 مليون سائح بإجمالي إيرادات 15.3 مليار دولار عام 2024، شرط أن تُحسن مصر البناء على ذلك التحسّن وتحاول تعزيز نموه واستدامته؛ بمعالجة ما يعانيه القطاع من مشكلات. فللأسف يعاني قطاع السياحة المصري عديدًا من المشكلات التي تعوق قدرته على استنفاد كامل إمكاناته. بعضها ليس سوى امتداد طبيعي لمشكلات الاقتصاد والمجتمع المصري بمجموعه، ما يتطلّب إصلاحًا هيكليًا طويل الأجل، وبعضها الآخر نوعي خاص بالمتطلبات والأبعاد النوعية للقطاع نفسه، مما يمكن علاجه بسياسات مباشرة وعاجلة.

وقد انعكست هذه المشكلات على موقع مصر على مؤشر تنافسية السفر والسياحة، حيث احتلت المرتبة الـ61 من مجموع 119 دولة، والحادية عشرة على مستوى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، في تقرير عام 2024، بإجمالي نقاط دون المتوسط.

وقد تتفاوت المؤشرات الفرعية. فجاءت مؤشرات "البيئة الداعمة" الخمسة كافة من بيئة أعمال تجارية وصحة ونظافة وغيرها أقل من المتوسط، وتوزّعت مؤشرات "البنية التحتية والخدمات" الثلاثة ما بين المستويات الثلاثة، فتميّزت البنية التحتية للنقل الجوي بمستوى فوق متوسط، وتخلّفت البنية التحتية للخدمات السياحة إلى ما دونه، وقُيّمَت الموانئ والبنية التحتية الأرضية بالمتوسطة، وبالمثل توزّعت مؤشرات "الموارد الطبيعية والثقافية" ما بين المتوسطة للطبيعية وفوق المتوسطة للثقافية ودون المتوسطة لغير الترفيهية، وغلب الوضع دون المتوسط على المؤشرات الفرعية لـ"استدامة السياحة والسفر" من استدامة بيئية وتأثير اقتصادي واجتماعي للسياحة، مقابل تفوّق وحيد لمؤشر استدامة الطلب على السياحة والسفر، فيما تميّزت مؤشرات "سياسات السياحة والسفر" بتجاوزها المستوى المتوسط في أولوية القطاع في السياسات الحكومية وتنافسية الأسعار في القطاع، مقابل تخلّفها عن المتوسط في الانفتاح الدولي.

وكما نرى، تعكس أوضاع المؤشرات الفرعية نقاط القوة التي يمكن لمصر تعزيز ميزتها النسبية فيها بسهولة، ونقاط الضعف التي تتطلّب اهتمامًا خاصًا لمعالجة تعقيداتها، والمساحات الأوسع التي تتطلّب عملاً شموليًا لمعالجة كامل البيئة الاقتصادية والاجتماعية، بما يؤكّد الطابع التكاملي للقطاع السياحي مع بقية القطاعات، واستحالة تحسينه منفردًا أو على حِدَة؛ لمجرد الطمع في عوائده السريعة نسبيًا من العملات الصعبة، شأنه شأن جوانب أخرى من الاقتصاد تتطلّب إصلاحات مؤسسية، كالاستثمار الأجنبي المباشر وما شابه.

ومن المفهوم تمامًا اهتمام مصر الكبير بتنشيط قطاع السياحة؛ سواء لما تمتلكه من إمكانات كامنة كبيرة في هذا القطاع، أو لحاجتها الشديدة لما يمكن أن يدرّه من إيرادات عاجلة، وسهلة نسبيًا، من العملات الصعبة.

لكن يبرز هنا تخوّف واحتراز ضروري، يثيره الاحتفاء الكبير -المُستحَق في حدّ ذاته- بالمتحف الكبير، وما رافقه من تصريحات رسمية وغير رسمية، يتعلّق بحدود رؤية الحكومة لقطاع السياحة بمجموعه، التي يبدو أنّ بعضها يشتط كثيرًا في تحميل القطاع أكثر كثيرًا مما يحتمل، بما يبدو أحيانًا كاعتقاد بإمكانية تطوير دور قيادي للقطاع في التنمية، بل وصفه البعض بقاطرة للتنمية!

وهنا ينقلب أيّ موقف علمي جذريًا من الاحتفاء بالجدوى الإيجابية الأكيدة للمتحف والاهتمام المتزايد بالسياحة، إلى الاعتراض الشديد على هكذا تصوّرات ضارة ورؤى شديدة السذاجة في أحسن الأحوال؛ فمهما بلغت أهمية قطاع السياحة وفوائده، فإنه أقل وأضعف كثيرًا بطبيعته من أن يلبّي تطلّعات كهذه لعديد من الأسباب الهيكلية والتكوينية.

بل لا نبالغ على الإطلاق إذا وصفناها بفخ "لاتنموي" جديد للاقتصاد المصري، شأنه شأن فخ الورم العقاري الذي لم ننتهِ منه ولم تُقلع الحكومة عن إدمانه بعد. ويمكن إيجاز أبرز أسباب عجز قطاع السياحة عمومًا، وفي مصر خصوصًا، عن أن يكون شيئًا يشبه من قريب أو بعيد "قاطرة تنمية"، فضلًا عن وصف "قاطرة التنمية" بألف لام التعريف، في طبيعة القطاع نفسه، أولًا باعتباره قطاعًا تابعًا واعتماديًا وهشًّا بطبيعته، وثانيًا باعتباره قطاعًا محدود الأفق التنموي حتمًا، فضلاً عن -ثالثًا- السياق الجيوديمغرافي للبلد والمجتمع الذي يضع حدود الدور وطبيعة الأثر الممكنين للقطاع.

أولًا: قطاع تابع واعتمادي بطبيعته: السياحة قطاع خدمي، يقدّم خدمة نهائية للمستهلك النهائي؛ فلا يمتلك أيّ روابط أمامية تقريبًا، أي قطاعات تستخدم مخرجاته، فيما يقوم على كثير من الروابط الخلفية، أي يطلب مدخلاته من العديد من القطاعات الأخرى، وهو ما يقلّل من صافي إيراداته الأجنبية حال استمرار اعتماده على استيراد كثير من مدخلاته من الخارج، والأهم يقلل من أثره التكاملي مع الاثني وسبعين قطاعًا التي يتكامل معها. فالمُجمل هو قطاع تابع واعتمادي من جهة العرض. وهكذا لا يمكن للسياحة أن تدفع تنمية؛ فهي نتيجة لا سبب، أي تتويج -حجمًا وأداءً ونتائج- لكامل التطوّر والنمو في القطاعات الأخرى والاقتصاد بمجموعه.

لا عجب في أن أغلب الوجهات السياحية الأفضل في العالم، التي تحقّق أعظم الإيرادات السياحية بالأرقام المُطلقة، هي نفسها دول متقدمة غنية. وعلى المستوى الاقتصادي الأوسع، يتأثّر القطاع السياحي بشدة بالأوضاع الخارجية والعوامل العَرضية. فمجرد اضطراب سياسي واسع أو عمل إرهابي كبير أو حالة وبائية أو حتى إشاعة مؤثّرة كفيلة بضرب موسم سياحي كامل والإضرار بالإيرادات السنوية للقطاع ودخول العاملين به، فضلاً عن العملات الصعبة التي تنتظرها الدولة منه؛ ما يجعل من غير الحكمة -مهما كانت إغراءات العوائد السريعة- المبالغة في الاعتماد على قطاع كهذا لسدّ فجوات هيكلية ومشكلات مُزمنة، كعجز الميزانين، التجاري والجاري، اللهم إلا كسند مؤقت وهامشي في أسوأ الأحوال.

ثانيًا: قطاع محدود الأفق التنموي: فإلى جانب تقلّبه المعتبر، يتسم قطاع السياحة بمحدودية إمكانات النمو بطبيعة مُنتجه الكمالي غالبًا، عالي التكلفة عادةً. فلا يمكنه النمو بشكل مُستقر ومُتزايد إلى ذات الآفاق وبذات الوتيرة الممكنين للقطاعات السلعية، القائمة على التكنولوجيا خصوصًا. وكأغلب القطاعات التابعة، من تجارة وخدمات وعقارات وما شابه، يعتمد النمو الصحي لهذه القطاعات على نمو القطاعات الأخرى، سواء داخل البلد أو خارجه.

وبالنظر في الإحصاءات، نجد أنه بعد تعافيه من آثار وباء كورونا، وعودته إلى مستوياته ما قبله وحتى تجاوزها، أسهم قطاع السفر والسياحة بمجموعه بمبلغ 11.7 تريليون دولار تمثّل حوالى 10% من الناتج الإجمالي العالمي عام 2025، ويُتوقّع ارتفاع مساهمته إلى 16.5 تريليون دولار تمثّل 11.5% منه عام 2035. أما على مستوى إيرادات السياحة، فقد أسهمت بحوالى 3.33% من ذلك الناتج عام 2020.

وكما نرى، فهي نسب لا بأس بها، لكن لا يمكن الاعتماد عليها في رفع أيّ اقتصاد إلى مستوىً تنموي آخر كما يهذي البعض. وتتضح الصورة أكثر بالنظر في نسبة هذه الإيرادات إلى النواتج المحلية الإجمالية لأبرز الاقتصادات الحقيقية في العالم، بعيدًا عن الدول القزمية التي لا تمتلك مقوّمات آخرى أو سُبلًا بديلة، فنجد أنها في عام 2025 الجاري، بلغت 0.39% من الناتج الإجمالي الأميركي و1.36% من الناتج الإجمالي الفرنسي و1.08% من الناتج الإجمالي الإيطالي، وهذه بعض من أنجح الدول سياحيًا وأعلاها على مؤشر تنافسية السفر والسياحة على مستوى العالم، ما يجعل نسبها ضمن الحدود القصوى للنطاق الطبيعي للقطاع في الدول متوسطة وكبيرة الحجم.

ثالثًا: السياق الجيوديمغرافي: يحدّد هذا السياق من حجم سكاني ومحيط جغرافي وغيره موقع القطاع من النموذج الاقتصادي والتنموي. ففي البلاد صغيرة الحجم فقط، يمكن أن يلعب قطاع السياحة دورًا محوريًا في الاقتصاد، وهكذا فأعلى دول العالم من حيث مساهمة قطاع السياحة في ناتجها المحلي الإجمالي عام 2020 وما قبله كلها بلا استثناء دويلات صغيرة بالكاد يُعادل سكانها مدينة إقليمية صغيرة أو حيًا كبيرًا في عاصمة بلد متوسط كمصر. فلا يجاوز سكان أكبرها، جزيرة ماكاو "الصينية"، التي تسهم السياحة بحوالى 37% من ناتجها الإجمالي، 722 ألف نسمة.

ولا يجاوز سكان جزيرة أروبا الكاريبية، التي تسهم السياحة بحوالى 42% من ناتجها الإجمالي، 110 آلاف نسمة. ويبلغ سكان جزر المالديف، التي تسهم السياحة بما يراوح ما بين 28 و38% من ناتجها الإجمالي، حوالى 530 ألف نسمة. وهذا واقع شديد المنطقية؛ فهذه بلدان صغيرة حجمًا وسكانًا بشكل لا يمكن أن يوفّر أسواقًا كافية لاستيعاب اقتصاديات الإنتاج الصناعي الحديث وتفعيلها، فيما يمكنها بفضل ذلك الصِّغر نفسه الاكتفاء بالاعتماد على بضعة أنشطة خدمية وريعية دونما تأزّم اقتصادي كبير، وفي الغالب، دون إنجاز تنموي عظيم -غير مُنتظَر منها- أيضًا.

في المقابل، ليس من الممكن عقلاً ولا منطقًا أن يكون قطاع السياحة قاطرة نمو، ولو من المرتبة الثانية، لبلد بحجم مصر، وإن حصل جدلاً، فسيكون بتكلفة اجتماعية سلبية وإفقار معتبر لقطاع واسع من المصريين. نعم للمتحف، لكن لا مزيد من الفخاخ اللاتنموية رجاءً!

لكل هذا، نقول "نعم كبيرة" للمتحف الكبير، مع "لا أكبر" لأيّ تصوّر يتعامل -بحماسة اللحظة- مع السياحة باعتبارها أحد حلول المأزق الاقتصادي الذي تعانيه مصر. فلا بأس أن تكون إحدى روافع توريد النقد الأجنبي وخلق بعض فرص العمل، لكن يجب أن يظل حاضرًا في الوعي أنها مجرد قطاع تابع هامشي، يستحق بعض الاستثمار دونما إفراط؛ لئلا نكرّر مأساة العقار، ثقب اقتصادنا الأسود. 

المساهمون