استمع إلى الملخص
- يعكس تداول الليرة التركية تأثير العمالة السورية في تركيا، حيث يحول العاملون جزءاً من رواتبهم إلى سوريا، مما أدى إلى تدهور إضافي في قيمة الليرة السورية وارتفاع الأسعار، مع تأثيرات التضخم المستورد من تركيا.
- يدعو الاقتصاديون إلى العودة لاستخدام الليرة السورية لتعزيز الاستقلال الاقتصادي وتجنب الفوضى، مع تنظيم السيولة وضبط الصرافين وتعزيز الثقة بالنظام المصرفي السوري.
تتمدد الليرة التركية في سورية، بعدما كان التعامل بها مقتصراً على المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة في السابق، لا سيما في مناطق شمالي البلاد، إلا أنه بعد سقوط نظام الأسد في ديسمبر/كانون الأول الماضي، زاد حضور العملة التركية لتصل إلى العاصمة دمشق ومناطق أخرى من البلاد، حيث عادت مع من عادوا إلى ديارهم وسط خشية من استبدالها في الأجل القريب حفاظاً على مدخراتهم، بينما لا يزال الضعف يسيطر على العملة السورية التي تهاوت بفعل سنوات الحرب والانهيار الاقتصادي.
يقول عبد الله الخالدي وهو عامل بناء من محافظة حمص وسط سورية، ويعمل بالأجرة اليومية في إحدى ورش محافظة إدلب (شمال)، إنه يتقاضى 100 ليرة تركية نهاية كل يوم عمل يمتد لأكثر من 10 ساعات. ويضيف الخالدي لـ"العربي الجديد" أن "العملة التي اعتدنا على التعامل بها في الشمال المحرر هي الليرة التركية، بحكم تقاضينا رواتبنا اليومية بهذه العملة، واليوم نعود إلى منازلنا التي تهجرنا منها في عام 2013، وما زلنا نتعامل بالليرة التركية كما جرت العادة، في السابق، كان العامل يحصل على أجر يومي يقدر بألفي ليرة سورية، واليوم يتقاضى ما بين 50 و100 ليرة تركية، وهو ما يقارب 15 ألف ليرة سورية، لذلك، هناك إقبال على تداول الليرة التركية أكثر من الليرة السورية، خشية فقدان قيمة المدخرات". يشير الرجل الخمسيني إلى وجود فجوة بين مدخوله ومصروفه اليومي، عازيًا ذلك إلى غياب الرقابة على الأسعار في السوق والتلاعب من قبل التجار الكبار.
وفي محل صرافة في العاصمة دمشق، يؤكد باسل الباشا، أن حركة لجوء السوريين إلى تركيا أسهمت في انتقال شريحة واسعة من اليد العاملة السورية إلى سوق العمل التركي الرسمي وغير الرسمي، مما أثر بوضوح في هذا السوق، وسمحت مجالات العمل المختلفة للسوريين بتأمين مورد مالي مكنهم من تلبية احتياجاتهم المعيشية بالحد الأدنى.
ويقول الباشا لـ"العربي الجديد" إن أغلب العاملين السوريين في سوق العمل التركي، ورغم تدني رواتبهم دون الحد الأدنى للأجور، يحولون جزءاً من رواتبهم شهرياً لعائلاتهم داخل سورية. ويشير إلى أن معظم الزبائن الذين يستبدلون العملة التركية بالليرة السورية هم من العاملين في الشمال السوري أو في تركيا، معتبراً أن الاستبدال لم يحل مشكلة الغلاء في السوق.
العامل السوري عبد الله الخالدي ليس الوحيد الذي يتقاضى راتبه بالليرة التركية في الوقت الراهن، فهناك أكثر من 30 ألف موظف يتقاضون رواتبهم بالليرة التركية في الريف الشمالي والشرقي على طول المنطقة الحدودية، تأتي هذه السياسة في إطار دعم تركيا لما كانت تعرف في السابق بالمناطق المحررة في الشمال السوري، حيث يتقاضى معظم العاملين في القطاع الحكومي بريف حلب رواتبهم من الحكومة التركية، وتتراوح قيمتها بين 400 ليرة تركية و2500 ليرة تركية.
يؤكد مدير سياسة الضريبة في هيئة الضرائب والرسوم، محمود الناصر، أن سبب تداول الليرة التركية في سورية يعود إلى أن معظم السوريين يتقاضون رواتبهم بهذه العملة، فضلاً عن قبولها العام في المناطق التي تتعامل بالليرة التركية، سواء في شراء المواد أو التجارة بين سورية وتركيا. يشير الناصر في تصريح لـ"العربي الجديد"، إلى أن التداول بالليرة التركية يتم حالياً في مناطق الشمال السوري، وفي حال اتخاذ قرار من مصرف سورية المركزي بالتعامل بالليرة التركية في دمشق، فقد تمتد التجربة إلى العاصمة، معتبراً أن المشكلة الوحيدة في التعامل بالليرة التركية هي تقلب أسعار الصرف بينها وبين الدولار.
ويرى الناصر أن التعامل بالليرة التركية مرحلي، إذ إن الليرة السورية بدأت تتعافى، مضيفًا أنه في المستقبل، سيكون التعامل بالليرة السورية فقط في جميع المحافظات السورية، لكن حاليًا مناطق إدلب وريف حلب ومناطق أخرى تتعامل بالليرة التركية، وهي مقبولة أكثر من الليرة السورية والدولار الأميركي نظراً للشح الكبير في السيولة السورية.
وحول كيفية ضخ العملة التركية إلى سورية، أوضح الناصر أن ذلك يتم عن طريق مراكز البريد التركي، التي تتوزع في 11 مدينة بالشمال الغربي لسورية، منها: جرابلس، الباب، عفرين، أعزاز، الراعي، مارع، بزاعة، قباسين، جنديرس، تل أبيض، رأس العين، حيث يتم تسليم جميع الموظفين الخاضعين للحكومة المؤقتة بالليرة التركية، مبينًا أن الكتلة المالية التي تضخ من تركيا إلى سورية كبيرة نظرًا لارتفاع الرواتب، إذ إن أقل راتب في الحكومة يبلغ ما يعادل 240 دولارًا بالليرة التركية، بينما تتراوح قيمة الرواتب بين ما يعادل 350 و400 دولار في المتوسط، وتصل إلى نحو 1400 دولار للعاملين في المنظمات.
في الأثناء قالت مصادر مصرفية في السوق التركية، إنها شهدت اختفاءً مفاجئًا لليرة السورية من الأسواق، مع انخفاض حاد في معدلات تداولها مقابل الدولار، وندرة في وجودها، هذا الوضع يعود إلى محاولات لتداول الليرة التركية بدلًا منها قبل العمل مع الإدارة الجديدة على أوراق صرف سورية جديدة.
بدوره، يقول الخبير الاقتصادي وعميد كلية الاقتصاد في جامعة دمشق، علي كنعان لـ"العربي الجديد"، إن هناك تعطشًا لدى التجار للتعامل بالعملات الأجنبية، سواء الدولار أو الليرة التركية، مشيرًا إلى أن الثوار الذين دخلوا البلاد والأهالي العائدين من تركيا ودول أخرى بمبالغ بالدولار شجعوا عمليات التصريف في الأسواق، مما أدى إلى تخصص بعض التجار في تصريف العملة. ويضيف كنعان أن القانون السوري يمنع تداول أي عملة أجنبية إلا العملة المحلية، ولكن البنك المركزي لم يضع شروطًا أو قيودًا على تصريف وتداول العملات الأجنبية، مما أدى إلى حدوث المضاربة على الليرة السورية ونقص السيولة، مشيرًا إلى أن السوريين اضطروا للإنفاق من مدخراتهم أو طلب المساعدات من ذويهم في الخارج، مما ساعد في ارتفاع قيمة الليرة السورية دون حدوث تحسن اقتصادي ملموس.
ويشدد عميد كلية الاقتصاد على أنه لا يجوز التعامل بعملة غير العملة الوطنية، لافتًا إلى أن القانون النقدي في جميع دول العالم يمنع ذلك. ويؤكد أن التعامل بغير العملة الوطنية يؤدي إلى مشاكل في التسعير وتحديد الأسعار، ويصعب على الاقتصاديين والتجار والصناعيين التحكم في تقلبات العملات. ويشير إلى أن البنك المركزي استخدم سياسة تجفيف السيولة قبل سقوط النظام واستمر بهذه السياسة بعد نجاح الثورة، مما أدى إلى تراجع السيولة لدى البنوك واحتفاظ المواطنين بالودائع في المنازل. هذا الوضع جعل من الصعب على البنك المركزي تطبيق أي سياسة نقدية، مما أدى إلى الوضع الاقتصادي الحالي.
في المقابل، تشير مصادر في القطاع المالي إلى أنه مع دخول الليرة التركية للتداول، شهدت الليرة السورية المزيد من التدهور أمام العملات الأجنبية، مما أدى إلى ارتفاع غير متوقع في الأسعار. هذا الوضع ساهم في تعقيد عمليات البيع والشراء بين المناطق المختلفة، وتسبب في اختلاف أسعار المنتجات بين المحلات التجارية.
يؤكد مصدر مالي في تصريح لـ"العربي الجديد" أن المطلوب ضبط عملية التداول بالليرة التركية وإحلال العملة المحلية، لأن التعامل بغير عملة البلد يعرض السكان لتأثير ما يعرف بالتضخم المستورد. وأوضح المصدر أن استخدام عملة بلد آخر يعني انتقال مشاكل ذلك البلد الاقتصادية إلى سورية، مضيفًا أن الاقتصاد التركي يتعرض للتضخم والليرة التركية ليست قوية بما يكفي، مما يجعل التعامل بها بمثابة استيراد للتضخم. ويقول إن أهمية العودة إلى استخدام الليرة السورية تأتي من باب الحرية الاقتصادية وعدم التبعية المالية، مشيراً إلى أن الليرة التركية ليست عملة دولية، وأن تداول عملة مخالفة لعملة البلد بحاجة إلى قرار من مصرف سورية المركزي. وأضاف أن معظم التداول يتم في الشمال السوري، مما يثير التساؤلات حول وجود مصرف مركزي في الشمال أو أن عملية تدفق العملات التركية تتم بطريقة غير قانونية.
بحسب المصدر، طُرحت اقتراحات عدة في عهد النظام السابق لمنع التدهور الاقتصادي، لكن مُنع تنفيذها، منها طرح فئات نقدية كبيرة مثل عشرة آلاف و25 ألف ليرة سورية لتسهيل التعامل بين الناس وتنظيم التداول النقدي بين الشركات والبنوك. ويلفت إلى أن هناك تداولًا بالأوراق النقدية الصغيرة والمعدنية التركية بين المواطنين في إدلب، بعدما كانت الأوراق النقدية الكبيرة تستخدم سابقاً في العمليات التجارية المتوسطة والكبيرة فقط.
ويلفت المصدر المالي أن تداول الليرة التركية في الوقت الراهن قد يكون لعدة أسباب، منها انتقال أصحاب الأعمال في الشمال إلى الداخل، حيث قاموا باستبدال مدخراتهم وأصولهم إلى الليرة التركية بسبب تدني مستوى الليرة السورية، مؤكدًا أن الناس يبحثون عن العملة الأكثر استقرارًا، فضلًا عن عدم تدفق الليرة السورية عبر القنوات الرسمية، مما جعل تداول الليرة التركية واقعًا. ويشير إلى أن الإدارة الجديدة اتخذت قرارًا بالسماح بتداول الليرتين السورية والتركية والدولار الأميركي، مؤكدًا ضرورة تنظيم السيولة لأن تعدد العملات الأجنبية يخلق المزيد من الفوضى ويؤدي إلى اضطرابات اقتصادية واجتماعية، مشددًا على أهمية إيجاد الحلول لضبط الصرافين وتنظيمهم، وتمويل البنوك، والسعي لإعادة الثقة بالنظام المصرفي.