الليرة البديلة في سورية: خطوة اقتصادية أم رمزية؟

23 اغسطس 2025   |  آخر تحديث: 20:24 (توقيت القدس)
استبدال العملة السورية يجب أن يتزامن مع إجراءات اقتصادية، دمشق، فبراير 2025 (فرانس برس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- شهدت الليرة السورية تدهوراً مستمراً، مما أدى إلى تآكل القوة الشرائية وزيادة الاعتماد على العملات الأجنبية، مما أضعف قدرة المصرف المركزي على التحكم بالسيولة وسوق الصرف.

- يبرز مقترح استبدال العملة كحل محتمل للأزمة، لكن نجاحه يعتمد على سحب الأوراق القديمة واستقلالية المصرف المركزي، مستفيداً من تجارب دولية مثل العراق وتركيا.

- يشدد الخبراء على أهمية وضع آلية دقيقة لسحب العملة القديمة وضبط السيولة، مع توحيد التعامل بعملة وطنية للحفاظ على وحدة السوق ومنح المصرف المركزي القدرة على ضبط التضخم.

على مدار أكثر من عقد، لم تتوقف الليرة السورية عن التراجع وفقدان قيمتها، لتصبح عنواناً يومياً للأزمة الاقتصادية التي يعيشها السوريون. تغيّرت أشكال الأوراق النقدية أكثر من مرة، لكن التغيير لم يكن سوى انعكاسٍ لانهيارات متتالية في القوة الشرائية، جعلت الرواتب بالكاد تكفي أياماً معدودة. ومع استمرار طباعة العملة في الخارج بسبب العقوبات الغربية، باتت سوق النقد في سورية أسيرة قرارات طارئة وحلول قصيرة الأمد.

وفي خضم هذا الواقع، يطفو اليوم على السطح مقترح استبدال العملة خياراً مطروحاً بين الخبراء والمسؤولين، وسط تساؤلات جدّية حول مدى جدواه، وما إذا كان سيحمل تحولاً فعلياً في المشهد الاقتصادي، أم سيبقى خطوة رمزية لا تغير في عمق الأزمة شيئاً.

مع كل موجة تضخم أو ارتفاع حاد في الأسعار، كان المواطنون يدفعون الثمن المباشر لتآكل قيمة الليرة، حيث تحولت المدفوعات اليومية إلى عبء مادي ونفسي، وسط ازدياد الاعتماد على الدولار والليرة التركية في أجزاء واسعة من البلاد. اليوم، أصبح شراء رغيف خبز أو دفع فاتورة كهرباء يتطلب أكياساً من النقود، ما يعكس حجم الانهيار في القدرة الشرائية. هذا التعدد في العملات المتداولة عمّق الانقسام الاقتصادي، وقلّص من قدرة المصرف المركزي على التحكم بالسيولة أو ضبط سوق الصرف.

تجارب دولية في الإصلاح النقدي

اليوم، يعود النقاش حول إصدار عملة جديدة بوصفه "حلاً جذرياً" محتملاً، لكن المراقبين يرون أن نجاح هذه الخطوة مرهون بجملة من الشروط، تبدأ بآلية دقيقة لسحب الأوراق القديمة من السوق، وتمر بضمان استقلالية المصرف المركزي، ولا تنتهي عند بناء ثقة حقيقية مع المواطنين. فالتجارب السابقة في المنطقة، مثل العراق بعد 2003، أظهرت أن استبدال العملة يمكن أن يحمل دلالات سياسية بقدر ما يحمل أبعاداً اقتصادية، إذ يُنظر إليه باعتباره إعلاناً عن نهاية مرحلة وبداية أخرى.

كما يستحضر خبراء الاقتصاد تجربة تركيا عام 2005، حين أقدمت الحكومة على حذف ستة أصفار من عملتها بعد عقود من التضخم المفرط الذي جعل شراء الخبز يتطلب ملايين الليرات. عملية الإصلاح النقدي حينها لم تقتصر على استبدال الورق النقدي، بل جاءت ضمن حزمة إصلاحات مالية واقتصادية أوسع، أعادت الثقة بالليرة التركية ومهّدت لمرحلة استقرار نسبي استمرت عدة سنوات. ويشير المراقبون إلى أن نجاح أنقرة لم يكن نتيجة تغيير الشكل فقط، بل لاعتمادها سياسات نقدية منضبطة ودعم دولي، وهو ما يفتقر إليه المشهد السوري اليوم في ظل العقوبات والعزلة الاقتصادية.

معالجة مسألة النقد في سورية 

أوضح الدكتور إبراهيم نافع قوشجي، الخبير الاقتصادي والمصرفي، أن إصدار عملة جديدة في سورية "لن يكون خطوة تقنية فحسب، بل يجب أن يندرج ضمن رؤية شاملة لإصلاح النظام النقدي". 

وأضاف لـ "العربي الجديد": "العملة الجديدة لن تنجح ما لم تُعطَ للمصرف المركزي استقلالية حقيقية بعيداً عن التجاذبات السياسية والأمنية، وما لم يواكبها إصلاح كامل للقطاع المصرفي يضمن أمان الودائع ويطور البنية التحتية الرقمية، إلى جانب تفعيل سوق دمشق للأوراق المالية وتحويل الاقتصاد من طابعه الريعي العشوائي إلى سوق تنافسية حرة أكثر عدالة في توزيع الدخل القومي".

وشدد قوشجي على أن معالجة مسألة النقد في سورية تحمل أيضاً أبعاداً رمزية ونفسية لا تقل أهمية عن الجوانب الاقتصادية، قائلاً: "مثل ما استبدل العراق عملته بعد 2003 للتخلص من رموز الماضي، فإن إصدار عملة سورية خالية من صور عائلة الأسد سيكون رسالة سياسية قوية عن بداية مرحلة جديدة، وفي الوقت نفسه سيسهم في تخفيف المعاناة اليومية للمواطنين الذين يضطرون لحمل أكياس من النقود لتسديد أبسط احتياجاتهم". واعتبر أن استمرار الدولة في الاعتماد على برامج التحويل مثل "شام كاش" لتوزيع الرواتب والمساعدات، مع تهميش المصارف، "يعني بقاء كتلة نقدية ضخمة خارج دائرة الرقابة، وهو ما يضعف أدوات ضبط التضخم واستقرار سعر الصرف، ويؤخر عملية التعافي الاقتصادي".

آلية استبدال الليرة القديمة

في المقابل، يركز خبراء آخرون على الجانب الفني والعملي من العملية، مؤكدين أن نجاح الإصدار الجديد يتوقف على آلية دقيقة لسحب العملة القديمة وضبط السيولة النقدية.

 بدوره، شدّد الخبير الاقتصادي الدكتور فراس العلي على أن أي عملية لاستبدال العملة لا بد أن تبدأ بآلية دقيقة ومدروسة لسحب الليرة القديمة من التداول.

وقال لـ "العربي الجديد": "من الضروري أن تكون هناك مهلة زمنية محدودة لا تتجاوز ثلاثة أشهر لسحب العملة القديمة وإيداعها في المصارف، بحيث تُغلق بعدها أي نافذة رسمية للتداول بها، ما يمنع عمليات المضاربة وغسل الأموال، ويجبر الكتلة النقدية المكدّسة خارج النظام المصرفي على العودة إليه".

إصدار عملة سورية خالية من صور عائلة الأسد سيكون رسالة سياسية قوية على بداية مرحلة جديدة

وأوضح أن الطرح التدريجي للعملة الجديدة يجب أن يجرى بالتوازي مع هذه المهلة، مع تحديد سقوف واضحة للسحب والتحويل خلال الفترة الانتقالية، وإلزام المؤسسات العامة والخاصة باستخدام العملة الجديدة في تعاملاتها منذ اليوم الأول، حتى لا يحدث فراغ أو فوضى نقدية. وأضاف العلي أن أحد أكبر التحديات يكمن في منع استمرار تداول العملات الأجنبية كالليرة التركية أو الدولار في بعض المناطق السورية، مؤكداً أن "تعدد العملات يفقد الدولة أي سيطرة على السياسة النقدية ويضاعف من تقلبات الأسعار". واعتبر أن توحيد التعامل بعملة وطنية واحدة ليس مجرد إجراء مالي، بل "خطوة سيادية تحافظ على وحدة السوق السورية وتمنح المصرف المركزي القدرة على ضبط التضخم واستقرار سعر الصرف".

ويبقى السؤال الأكبر: هل ستنجح الليرة الجديدة في إعادة الاستقرار للأسواق وثقة المواطنين، أم ستظل خطوة رمزية في سجل الأزمات المتلاحقة؟ يظل النجاح مرهوناً بقدرة المصرف المركزي على بناء الثقة، واستقلاليته الفعلية، واتباع سياسات نقدية صارمة ترافقها رقابة فعالة وشفافية كاملة.

المساهمون