استمع إلى الملخص
- تظل وزارة المالية محور التجاذبات السياسية في الحكومة الجديدة، حيث تتطلب المرحلة القادمة قرارات حاسمة لإعادة الإعمار والمفاوضات مع صندوق النقد الدولي، دون تغيير جوهري متوقع في دور الوزارة أو نهجها.
- لا يتحمل الثنائي الشيعي وحده مسؤولية الانهيار المالي، إذ تعود جذور الأزمة إلى مرحلة ما بعد الحرب الأهلية، لكن استمرار هيمنتهما يعود للتوازنات السياسية واحتكارهما للتمثيل الشيعي في البرلمان.
منذ عام 2014، فرض الثنائي الشيعي (حزب الله وحركة أمل) قبضتيهما على وزارة المالية في لبنان، أداةً حاسمةً في تمرير مشاريع المحاصصة عبر مختلف الوزارات. وبما أن أي إنفاق عام يستوجب توقيع وزير المالية، باتت الوزارة ورقة قوة بيد الثنائي، تمكّنه من التأثير في القرارات المالية الكبرى، بحسب مراقبين لـ"العربي الجديد".
ومع تشكيل الحكومة الجديدة، لا تزال الوزارة في قلب التجاذبات السياسية، خصوصاً أن المرحلة القادمة تتطلب قرارات حاسمة مرتبطة بإعادة الإعمار، والمفاوضات مع صندوق النقد الدولي، وإصلاح القطاع المصرفي. وبينما كانت الوزارة في السنوات الماضية أداة لإدارة الاقتصاد الريعي عبر الديون والمساعدات الخارجية، تُطرح تساؤلات حول ما إذا كانت الحكومة الجديدة ستواصل هذا النهج أم ستسعى إلى مقاربة أكثر استدامة.
بعد الانهيار المالي الحاد الذي أصاب الليرة واحتجاز ودائع اللبنانيين في المصارف، وتفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، وصولاً إلى كارثة تفجير مرفأ بيروت، بات واضحاً أن النهج السابق في إدارة البلاد لم يعد قابلاً للاستمرار. ومع تزايد الضغوط الداخلية والخارجية، تدخل المجتمع الدولي في محاولة لاحتواء الأزمة ومنع المزيد من الانهيار، مقترحاً إصلاحات تهدف إلى إعادة هيكلة النظام السياسي والاقتصادي.
من الناحية الاقتصادية، لا يُتوقع أن يطرأ أي تغيير جوهري على دور وزارة المالية أو على النهج المعتمد في إدارة المال العام، بغضّ النظر عن هوية الوزير الذي تولاها.
فالوزارة، منذ سنوات، تحوّلت إلى أداة بيد القوى السياسية، بدلاً من أن تكون مؤسسة تسهم في ضبط الإنفاق العام وإرساء سياسات مالية مستدامة، ما أدى إلى تحول الاقتصاد إلى اقتصاد ريعي ربط مالية الدولة بالديون والمساعدات الخارجية، عبر مؤتمرات مثل باريس 1 و2 وسيدر، ووضع البلاد في دوامة الارتهان لصندوق النقد الدولي.
اعتبارات تتعلق بالنفوذ
لم يكن تمسّك الثنائي الشيعي بوزارة المالية نابعاً من رؤية إصلاحية، بل من اعتبارات تتعلق بالنفوذ وتأمين القدرة على التأثير في القرارات المالية للدولة، خصوصاً في مرحلة إعادة الإعمار بعد الحرب. وفي هذا السياق، لا يمكن فصل سيطرة الثنائي على المالية عن ديناميات الفساد والمحاصصة التي رسّختها السياسات الريعية منذ عقود، حيث تحولت المالية العامة إلى أداة لتغطية العجز عبر الديون والمساعدات الخارجية، من دون وضع أي خطة اقتصادية فعلية تضمن الخروج من الأزمة.
في هذا السياق، صرّح الخبير الاقتصادي منير يونس في حديث خاص مع "العربي الجديد"، أن هناك ادعاءً خلال مداولات ما قبل اتفاق الطائف، وليس في النص النهائي، مفاده أن وزارة المالية تكون من حصة الثنائي الشيعي، ويعود ذلك إلى أنه تم سحب بعض الصلاحيات من رئيس الجمهورية وإعطاؤها لرئيس الحكومة. ويزعم رئيس مجلس النواب نبيه بري أن محاضر هذه المداولات كانت بحوزة رئيس مجلس النواب السابق حسين الحسيني، فيما أكد الحسيني قبل وفاته أنه كان هناك تداول في هذا الأمر، لكن لم يطّلع أحد على المحاضر.
وأضاف يونس أن ما يهمنا هو الدستور الذي ينص على المناصفة بين المسلمين والمسيحيين، مشيراً إلى أنه كان هناك نقاش حول رغبة الطائفة الشيعية في الحصول على صلاحيات تنفيذية، أو أن هناك من يدّعي ذلك، إلا أن اتفاق الطائف لم ينص على هذا الأمر. ومع ذلك، لا يزال رئيس مجلس النواب نبيه بري يؤكد أن محاضر اتفاق الطائف تضمنت نقاشاً حول تخصيص وزارة المالية للشيعة.
وأوضح يونس أن المراسيم، ولا سيما مراسيم الإنفاق، تحتاج إلى توقيع رئيس الجمهورية، ورئيس الحكومة، والوزير المعني، إضافة إلى توقيع وزير المالية، ما يمنحه قدرة تعطيلية. فعلى سبيل المثال، في عام 2022، تم إعداد مرسوم للتشكيلات القضائية، إلا أنه عندما وصل إلى وزير المالية يوسف خليل لم يوقع عليه، مما أدى إلى تعطيله. وقد كانت هذه التشكيلات القضائية ضرورية لمتابعة تحقيقات انفجار مرفأ بيروت، ولكن الوزير لم يوقّع عليه لأسباب خاصة، ما أدى إلى عرقلة الإجراءات.
وأشار يونس إلى أن هذا الأمر تم استخدامه أكثر من مرة لتعطيل قرارات الحكومة، وأن الثنائي الشيعي لطالما سعى للحصول على وزارة المالية. ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أنه في حكومات سابقة، وتحديداً خلال عهد رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، تم تعيين وزراء من غير الطائفة الشيعية في وزارة المالية، مثل فؤاد السنيورة، جهاد أزعور، وريّا الحسن. لكن في عام 2014، أصرّ رئيس مجلس النواب نبيه بري على أن تكون الوزارة من حصة الشيعة، فتم تعيين الوزير علي حسن خليل، وتلاه غازي وزني، ثم يوسف خليل، وحالياً تم تعيين ياسين جابر وفق التشكيلة الأخيرة للحكومة. ويبدو أن الهدف هو تكريس الوزارة للثنائي الشيعي، نظراً إلى أن أي قرار مالي لا يمكن أن يُنفذ من دون توقيع وزير المالية، مما يسمح باستخدامه أداةَ تعطيلٍ سياسي.
وأضاف أن وزارة المالية استُخدمت سابقاً لتعطيل نفقات محددة، مثلما حدث عندما كان هناك خلاف بين نبيه بري ورئيس الوزراء الأسبق سعد الحريري حول النفقات السرية لفرع المعلومات، حيث لم يتم التوقيع عليها ولم تُصرف الأموال، ما أدى إلى تعطيلها سياسياً.
المساعدات وقرارات الحكومة في لبنان
أما في ما يتعلق بالمساعدات الخارجية، فقد أوضح يونس أنها لن تأتي إلا وفق عدة شروط، أبرزها: تطبيق اتفاقية القرار الدولي 1701، وإجراء الإصلاحات المصرفية، التي لم تتحقق منذ خمس سنوات، فضلاً عن أن أي قروض أو مساعدات دولية يجب أن تمر عبر صندوق النقد الدولي، مما يستدعي التوصل إلى اتفاق مع الصندوق قبل أن تقدم الجهات المانحة أي تمويل للبنان. مؤكداً أن هذا الأمر لا يرتبط بوزارة المالية بقدر ما يرتبط بالشروط الإصلاحية الاقتصادية.
وعن قدرة الثنائي الشيعي على تعطيل قرارات الحكومة الجديدة، أكد يونس أنه رغم أن الثنائي كان قادراً في السابق على عرقلة القرارات عبر وزارة المالية، لكن الأوضاع اليوم تغيرت، إذ إنهم هم أنفسهم في حاجة إلى التمويل لإعادة الإعمار، فتكلفة الإعمار تقدر بين 3 و4 مليارات دولار، وحتى الآن لم تتضح الجهات المانحة. وبالتالي، إذا استخدموا الوزارة مجدداً أداةَ تعطيل، فقد يلحقون الضرر بأنفسهم.
لا يتحمّل الثنائي الشيعي وحده مسؤولية الانهيار المالي والاقتصادي في لبنان، ولا يمكن عزله عن سياق أوسع من السياسات التي رسَّخت نهج المحاصصة داخل وزارة المالية وأفرغتها من دورها الرقابي والتنظيمي في إدارة المال العام. فالحقيقة أن جذور هذا الواقع تعود إلى مرحلة ما بعد الحرب الأهلية، حين تولّت "الحريرية السياسية" وزارة المالية على مدى عقود، باستثناء حكومة سليم الحص التي شهدت تعيين جورج قرم وزيراً للمالية. أما العقل المدبّر لهذا المسار، فكان حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الذي أدار السياسة النقدية بما يخدم مصالح المنظومة الحاكمة.
قوى جديدة
بدوره، قال النائب في البرلمان اللبناني، مارك ضو، في حديث خاص مع "العربي الجديد"، إن هناك قوى جديدة بدأت تأخذ موقعها في الحياة السياسية، مما يفرض تحديات كبيرة، خاصة في ظل الضغوط الشديدة على تشكيل الحكومة الجديدة. واعتبر أن سيطرة الثنائي الشيعي على وزارة المالية تؤثر على الجبايات، والإعفاءات، والحالات الاستثنائية، والخدمات المقدمة لبعض الشركات والمؤسسات، كما تؤثر على تسمية حاكم مصرف لبنان ونوابه، إضافة إلى دورها في مراقبة العمل الجمركي والدوائر العقارية.
وأشار ضو إلى أن رغبة الثنائي الشيعي في الاحتفاظ بوزارة المالية تعود إلى الامتيازات التي تحصل عليها، وسيطرتها على الضرائب من الناحية الخدماتية، كونها تلعب دوراً محورياً على الصعيد المالي، نظراً إلى أن جميع الإيرادات والنفقات تمر عبر الوزارة. وأضاف أن الوزارة لها دور أساسي في الإصلاحات المالية المطلوبة من لبنان، لكن المشكلة لا تقتصر على الوزير فقط، بل تشمل عمل اللجان الوزارية، ما يجعل الأمر أوسع من مجرد تعيين وزير من جهة سياسية معينة.
وأكد أن التجارب السابقة لتسلّم الثنائي الشيعي وزارة المالية كانت لها نتائج كارثية على البلاد، وكانت من الأسباب الرئيسية التي أدت إلى الانهيار المالي والاقتصادي، نتيجة تغطيتهما لممارسات مصرف لبنان وتواطئهما في السياسات المالية. وأوضح أن استمرار هيمنة الثنائي على الوزارة اليوم يعود إلى التوازنات السياسية، واحتكارهما للتمثيل الشيعي وحجمهما الكبير في البرلمان.
ورأى ضو أن معالجة الأزمة الاقتصادية لا تقتصر على وزارة المالية فقط، بل تتطلب عملاً حكومياً متكاملاً، لكنه أشار إلى أن الثنائي الشيعي لم يعد قادراً على التسبب بالضرر كما كان يفعل سابقاً، عبر تشكيل "الثلث المعطل" وخنق كل القرارات الإصلاحية، لأن موازين القوى وتركيبة الحكومة الحالية تختلف عن سابقاتها.
وأكد أن وزير المالية الحالي يحظى بقبول مبدئي من المجتمع الدولي، وأن المعيار الأساسي كان عدم وجود أي عقوبات عليه، مشيراً إلى أن التركيبة الحكومية الحالية مختلفة، ما لن يؤثر على الدعم المالي الذي يمكن تقديمه للبنان. كما أوضح أن إعادة هيكلة القطاع المصرفي هي من صلاحيات المصرف المركزي، لأنه جهة مستقلة، إلا أن الانهيار المالي، والخسائر الاقتصادية، وعدم تسديد سندات الخزينة هي من مسؤولية وزارة المالية، مما يبرز الفرق في الأدوار بين الطرفين.
واعتبر ضو أن نجاح الحكومة يعتمد على عملها فريقاً متجانساً، حيث ستلعب الأجواء السياسية دوراً حاسماً في نجاحها من خلال التعاون بين الوزارات، أو في فشلها في حال حدوث خلافات سياسية تعطل عملها.
من جهة أخرى، أفاد الخبير الاقتصادي أنطون فرح، في حديث خاص مع "العربي الجديد" بأن لوزارة المالية وجهين أساسيين. الأول يتمثل في استخدام التوقيع الثالث داخل الوزارة لتحقيق مكاسب ومطالب لا علاقة لها بالوضع المالي، وقد شهدنا عدة مرات امتناع وزير المال عن التوقيع على العديد من الملفات والقضايا، ما جعله وسيلة للابتزاز. أما الوجه الثاني، فيتعلق بتمويل الدولة وإعداد الموازنة، إذ إن جميع القضايا المالية تمر عبر هذه الوزارة، ما يجعلها مسلكاً حيوياً يمكن استغلاله أيضاً لتحقيق مكاسب مالية للمؤسسات التابعة للثنائي الشيعي.
في السياق، كشف تقرير حديث لصحيفة المونيتور الأميركية عن سبب إصرار الثنائي الشيعي على الاحتفاظ بوزارة المالية اللبنانية، اللذين ينفردان بحقيبتها منذ عام 2014، موضحة أن النزاع حول وزارة المالية ليس جديداً، إذ شغل هذا المنصب شخصيات مسيحية وسنية منذ نهاية الحرب الأهلية اللبنانية عام 1990، لكن منذ عام 2014، باتت الحقيبة محصورة بالتحالف الشيعي.
ورأى التقرير أن الدور الاستراتيجي الذي ستلعبه الوزارة في صنع القرارات المالية وإعادة الإعمار بعد الحرب هو ما دفع إلى تصاعد النزاعات السياسية حول السيطرة عليها، في وقت تقاوم فيه قوى المعارضة والجهات الفاعلة الدولية استمرار هيمنة حزب الله.