العرب والنفط ودروس الماضي

العرب والنفط ودروس الماضي

15 فبراير 2021
جائحة كورونا أخلَّت باستقرار أسعار النفط (Getty)
+ الخط -

غالباً ما يتمخَّض الماضي عن دروس مهمّة وحكمٍ مفيدة يمكن أن ترشد صنّاع القرار إلى اتِّخاذ قرارات سليمة تساعد على التخفيف من حدّة الصدمات المستقبلية، وما أحوج العالم اليوم إلى عدم تكرار أخطاء الماضي، فقد عبثت جائحة كورونا بسوق النفط العالمية، وأخلَّت باستقرار الأسعار، وأدَّت إلى انخفاض الطلب على النفط بمقدار 10 ملايين برميل يومياً.

كذلك انزلقت أسعار النفط إلى ما دون 20 دولاراً للبرميل، وانهارت أسعار العقود الآجلة للنفط الخام الأميركي إلى سالب 37 دولاراً للبرميل لأول مرّة في التاريخ في إبريل/ نيسان الماضي.

وأدَّت تلك الفوضى العارمة إلى دخول اقتصادات الدول العربية المعتمدة على تصدير النفط إلى دوّامة ركود اقتصادي هي الأسوأ من نوعها منذ الكساد الكبير في الثلاثينيات من القرن الماضي، وسحبت معها حتى الدول العربية الأخرى التي تعتمد على تحويلات المغتربين والاستثمارات والإعانات والمنح القادمة من تلك الدول الغنية بالنفط.

حتى الدول التي تمتلك صناديق سيادية ضخمة كالإمارات والكويت وقطر والسعودية خاب أملها ببقائها غنية للأبد، وقامت بعضها نتيجة لذلك بشدّ أحزمة التقشُّف وخفض التحويلات النقدية السخية وتقليل الإعانات وتأجيل المشاريع الطموحة التي تتطلَّب تمويلاً كبيراً.

فعلى سبيل المثال، كانت سنة 1986 نقطة نهاية لفترة رخاءٍ مالي امتدَّت لعشر سنوات وتميَّزت بارتفاع أسعار النفط التي لم تنتعش بدورها منذ ذلك الحين حتى أوائل القرن الحالي، وخلال فترة الركود تلك فقد نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في السعودية والإمارات نصف قيمته التي سجَّلها في عام 1980.

لذلك من الممكن أن يؤدِّي استمرار العمل بتلك السياسات التقشّفية في هذه الدول إلى الحيلولة دون تكرار ذلك المشهد الكابوسي، ولكن بشرط وجود تنبؤات موثوقة لأسعار النفط المستقبلية التي تتوقَّف بدورها على المدّة التي سيستغرقها تعافي الطلب على النفط، وكذلك مدى فعالية اتفاق "أوبك+" في السيطرة على سوق النفط.

وكان سعر خام البرنت قد ارتفع إلى أعلى مستوى منذ مارس/ آذار 2020 بعد ذلك الاتفاق، إذ تجاوزت الأسعار عتبة 40 دولاراً للبرميل، ثم لأكثر من 60 دولاراً في تعاملات نهاية الأسبوع الماضي، ولكن بناءً على تجارب الماضي تبقى قدرة مجموعة "أوبك+" على دفع أسعار النفط إلى مستويات أعلى محدودة، ولا سيَّما في ظل تحور فيروس كورونا وتأخّر عملية التلقيح في العديد من دول العالم.

فقد بيَّن التاريخ محاولات أوبك الفاشلة وكذلك إخفاقها في رفع سعر النفط إلى مستويات أعلى من تلك التي تُمليها توجّهات العرض والطلب، وبإمكان الدول العربية الغنية بالنفط أخذ العبرة من الماضي وتجنُّب إعداد خطط الاقتصادية بناءً على التفاؤل الذي قد يحيط بمجموعة "أوبك+" التي لا يوجد دليل قوِّي وملموس على أنّها ستُبلي أفضل من سابقتها "أوبك" التي لم تتَّعظ من أخطاء الثمانينيات.

يتمثل أهمّ درس مستفاد من انهيار الأسعار عام 1986 في أنّ الاتفاقات التي أبرمتها منظمة أوبك لم تكن كافية لرفع أسعار النفط بشكل يفوق التوقّعات، حتى ارتفاع الأسعار الذي حدث في خريف عام 1990 يُعزى بشكل أساسي إلى الغزو العراقي للكويت.

وبعد مرور بضعة أشهر على انتهاء تلك الأزمة تراجع سعر النفط مجدداً ووصل في سنة 1998 إلى مستويات دنيا وتطلَّب زيادة قوية ومستدامة في الطلب العالمي على النفط، وخاصة من منطقة شرق آسيا، ليُعاود الارتفاع في العقد الأول من القرن الحالي.

يعتمد نجاح "أوبك+" في ما فشلت فيه سابقتها على جعل الخروج من المجموعة مُكلفاً، وبالتالي عسيراً على الأعضاء، وما دام الأمر خلاف ذلك ستظلّ سوق النفط في حالة ركود لمدّة قد تطول أكثر مما يمكن لميزانيات الدول العربية المعتمدة على النفط تحمُّله، حيث تتَّضح ملامح الانقسام وعدم التجانس على "أوبك+".

فقد أعلنت المكسيك، التي سبق لها أن وقَّعت على اتفاقية مارس/ آذار 2020، أنّها لن تلتزم بتخفيضات الإنتاج التي تمّ الاتفاق عليها، وهذا ما يجعل الخروج من المجموعة سهلاً ويسيراً، لا سيّما في ظلّ غياب أيّ رادع أو عقوبة تكفل درء الانسلاخ عن المجموعة.

لذلك يعتبر الرهان على نجاح اللقاحات في الحدّ من الزحف الكوروني، وبالتالي إنعاش الطلب العالمي على النفط، أكثر أماناً وضماناً من الرهان على فعالية "أوبك+" في انتشال أسعار النفط من هوّة الركود، فقد توقَّعت وكالة الطاقة الدولية "IEA" استرجاع حوالي نصف الطلب على النفط، الذي بدَّدته الجائحة، في عام 2021 بناءً على طرح لقاحات ضدّ الفيروس أثبتت فعاليتها مخبرياً.

لكن ينبغي الحذر بشأن التفاؤل بتلك التوقّعات والتراخي في الاستمرار على النهج التقشّفي، فقد ينجرّ عن ذلك ما لا تُحمد عقباه إن لم تتحسَّن أسعار النفط، إذ تُبيِّن شواهد من التاريخ فترات تعافى فيها الطلب العالمي على النفط وانتعشت خلالها الأسعار بشكل معتدل، ممّا أدّى إلى تحفيز العرض، وبالتالي تراجع أسعار النفط مرّة أخرى.

كثيراً ما يُخطئ الخبراء في توقّعاتهم لأسعار النفط، ففي عام 2015، توقَّع العديد من الاقتصاديين والمستثمرين البارزين أنّ انخفاض سعر النفط إلى ما دون 100 دولار للبرميل لن يطول لأكثر من سنة، وبعد ذلك اتَّضح أنّهم كانوا على خطأ.

والأمر الخطير أنّ الدول العربية التي تتنفَّس وتعيش على صادرات النفط تكون دائمة الترقُّب والتتبُّع لمثل تلك التوقّعات والتنبؤات متناسية أهمية التسيير الرشيد لأرباح النفط خلال فترات ازدهار أسعار النفط، فكل تلك الأرباح التي تراكمت خلال الفترة الممتدة من 2011 إلى منتصف 2014 لم تُترجم إلى استثمارات غير نفطية ذات عوائد مجدية، بل زادت الطين بلة وتحوَّلت بفعل قصر نظر الحكومات العربية إلى أصفار على اليمين في مبالغ الإنفاق العام التي تسلَّل جزء كبير منها إلى جيوب الفاسدين على حساب المصلحة العامة للمواطنين.

خلاصة القول إنّه حتى لو ارتفعت أسعار النفط فإنّها لن تصل إلى المستوى الذي يضع حدّاً لمعاناة ميزانيات الدول العربية الغنية بالنفط، لذلك ينبغي على حكومات تلك الدول تنسيق خطط إنفاقها وفقاً لمستويات أسعار النفط الحالية وتفادي الإنفاق على المشاريع التي لا طائل منها سوى إرضاء النخب الحاكمة والطبقات الثرية المخملية، حتى تتجنَّب التعرُّض لأزمات هي وشعوبها في غنى عنها.

المساهمون