الطريق نحو التعافي المالي في لبنان

29 يناير 2025
نازحون يعودون إلى منازلهم في جنوب لبنان، 27 نوفمبر 2024 (فرانس برس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- شهد لبنان تطورات سياسية إيجابية بانتخاب رئيس جديد وتكليف رئيس للحكومة، مما يعزز استقرار المؤسسات والتحضير لإعادة الإعمار بعد الحرب الإسرائيلية.
- تواجه الحكومة تحديات كبيرة، منها تقدير كلفة إعادة الإعمار ومراجعة الموازنة، مع ضرورة التعامل الجدي مع تضارب تقديرات الخسائر لتعزيز مصداقيتها دوليًا.
- يجب على الحكومة معالجة أزمة سندات اليوروبوندز غير المسددة منذ 2020، والتفاوض لإعادة هيكلة الدين السيادي والقطاع المصرفي، وإتمام الاتفاق مع صندوق النقد الدولي لاستعادة الثقة الدولية.

منذ بدايات العام الحالي، ساد جوٌ من التفاؤل في بعض الأوساط الاقتصادية اللبنانية، بخصوص مستقبل الوضع المالي في البلاد. فانتهاء الحرب الإسرائيلية على لبنان، سرعان ما تلاه انتخاب رئيس جديد للجمهورية في بدايات هذا العام، بعد سنتين وشهرين من الفراغ في سدّة الرئاسة. وبعد أربعة أيّام فقط، جرت تسمية رئيس مكلّف بتشكيل الحكومة، وهو ما سيكمّل عمليّة تكوين السلطة التنفيذيّة الجديدة. وهذا ما أوحى بدخول لبنان في مرحلة جديدة، يمكن أن ينتظم فيها عمل المؤسّسات الدستوريّة، بالتوازي مع التحضير لحقبة إعادة الإعمار.

غير أنّ دخول مسار التعافي المالي، والشروع بالنهوض الاقتصادي بعد خمس سنوات من الانهيار، سيحتاج إلى ما يتجاوز الاكتفاء بإعادة تشكيل السلطات الدستوريّة. إذ فور تشكيل الحكومة المقبلة، من المفترض أن تتزاحم أمامها مجموعة من الاستحقاقات الماليّة التي تأخّر لبنان في التعامل معها، والتي يُفترض أن تتم الاستجابة لها بالمعالجات الملائمة. أمّا معالجة الانهيار نفسه، فستحتاج إلى خطوات جريئة وقيادة سياسيّة قويّة، وذلك بخلاف ما كان عليه الحال خلال السنوات الماضية.

التحدّي الأوّل الذي سيواجه الحكومة المقبلة بعد تشكيلها، سيكون استكمال عمليّة مسح الأضرار التي خلّفتها الحرب الإسرائيليّة الأخيرة على لبنان، والتي لم تتمكّن حكومة تصريف الأعمال الحاليّة من إنجازها. وبعد إنجاز هذا المسار، سيكون على الحكومة المقبلة تقدير الكلفة الإجماليّة المتوقّعة لعمليّة الإعمار، بالإضافة إلى قيمة المساعدات التي سيقتضي تقديمها للقطاعات الاقتصاديّة في المناطق المتضرّرة، لإعادة إحياء النشاط الإنتاجي هناك.

ومن المعلوم أنّ البلاد تعاني اليوم من تضارب التقديرات الرسميّة والدوليّة، بخصوص حجم خسائر الحرب. فبينما قدّر البنك الدولي حجم هذه الخسائر عند مستوى 8.5 مليارات دولار أميركي، قدّمت وزارة الاقتصاد والتجارة اللبنانيّة تقديرات أضخم، تتراوح بين 15 و20 مليار دولار. وهذا ما تعارض بدوره مع أرقام نائب رئيس الحكومة اللبنانيّة سعادة الشامي، الذي اكتفى بتقدير حجم هذه الخسائر عند مستوى "يفوق الـ 10 مليارات دولار".

تضارب هذه التقديرات، سيمثّل ضربة لمصداقيّة الحكومة اللبنانيّة عند التوجّه إلى أي مؤتمر للمانحين في المستقبل، لطلب المساعدات وتمويل إعادة الإعمار. ولهذا السبب، يفترض أن تتعامل الحكومة المقبلة بجديّة فائقة مع عمليّة مسح الأضرار وتقييم كلفة إعادة الإعمار، بما قد يفرض التعاقد مع مكاتب استشاريّة وهندسيّة مختصّة بهذا النوع من المهام.

موقف
التحديثات الحية

وعلى المستوى المالي أيضًا، سيكون على الحكومة المقبلة فور تشكيلها إعادة النظر في موازنة العام الحالي، التي لم تتم مناقشتها أو إقرارها في البرلمان بعد. مع الإشارة إلى أنّ حكومة تصريف الأعمال كانت قد صاغت هذه الموازنة قبل توسّع الحرب خلال العام الماضي، وهو ما جعل نفقاتها وإيراداتها المقدّرة بعيدة عن واقع ما بعد الحرب. ولذلك، طلبت لجنة المال والموازنة النيابيّة من الحكومة استرداد الموازنة وتعديلها.

وعند إعادة النظر في أرقام موازنة العام الحالي، سيكون على الحكومة المقبلة تقدير التغيّرات التي طرأت على الإيرادات العامّة بعد الحرب، وخصوصًا من جهة تداعيات الشلل الذي ضرب النشاط الاقتصادي، في مناطق واسعة من لبنان. كما سيكون من الضروري تضمين الموازنة النفقات التي ستفرض نفسها، للتعامل مع الأضرار التي طاولت البنية التحتيّة، أو لمساعدة الفئات الأكثر هشاشة التي تأثّرت بالاعتداءات الإسرائيليّة.

أمّا أبرز التحديات التي ستفرض نفسها أمام الحكومة المقبلة، فسترتبط بملف سندات اليوروبوندز التي امتنع لبنان عن سدادها منذ آذار/مارس 2020. فخلال شهر آذار/مارس المقبل، ستكون قد انقضت خمس سنوات على تخلّف البلاد عن سداد هذه الديون، وهو ما يُفقد الدائنين حقّهم بالفوائد المتراكمة، إذا لم يُباشروا بإجراءات "المطالبة القانونيّة" بحقوقهم. وعليه، ثمّة مخاوف جديّة من تلقّي الدولة اللبنانيّة دعاوى قانونيّة في المحاكم الأميركيّة، من جانب الدائنين، قبل هذا التاريخ.

لتلافي حشر الدائنين بهذه المهلة، وللحؤول دون دفعهم للادعاء على الدولة اللبنانيّة، قامت حكومة تصريف الأعمال بتعليق مبدأ "مرور الزمن" على هذه الفوائد، لمدّة ثلاث سنوات إضافيّة. أي بعبارة أخرى، علّقت الحكومة –بهذا الإجراء- حق لبنان في إسقاط فوائد السندات المترتبة عليه، إذا لم يبادر الدائنون للمطالبة قانونيًا بمستحقّاتهم بحلول مارس/ آذار المقبل. وبهذه الخطوة، راهنت الحكومة على طمأنة الدائنين وتجنّب المواجهة القانونيّة معهم.

إلا أنّ هذه الخطوة وحدها قد لا تكون كافية لتجنّب المعركة القضائيّة مع الدائنين. إذ من الناحية العمليّة، قد يشكّك جزء من الدائنين في كفاية إجراء من هذا النوع، بوصفه ضمانةً قانونيّة لهم، لكونه صادرا عن حكومة تصريف أعمال، لا حكومة مكتملة الصلاحيّة. وعلى هذا الأساس، سيكون على الحكومة المقبلة المُسارعة إلى تأكيد القرار نفسه، ومن ثم تدعيم قرارها باستشارات قانونيّة تطمئن الدائنين إزاء حقوقهم. وهذا ما سيسمح للبنان بكسب بعض الوقت، وتفادي معركة قانونيّة مع الدائنين في مطلع العهد الرئاسي الجديد.

لكن رغم أهميّة كسب بعض الوقت على هذا النحو، يجب ألا تعتمد الحكومة المقبلة سياسة شراء الوقت بشكلٍ دائم، مع حملة سندات اليوروبوندز. فطالما أنّ لبنان لم يجد حلًا نهائيًا لأزمة الديون التي تخلّف عن سدادها، لن تتمكن الدولة من العودة إلى أسواق الدين الدوليّة، كما لن تتمكّن من بيع أي سندات دين جديدة. ولهذا السبب، من المفترض أن تشرع الحكومة المقبلة فور تشكيلها بالتفاوض مع حملة السندات، للتفاهم على خطّة لإعادة هيكلة الدين السيادي، وفق فوائد واستحقاقات وقيم جديدة.

ومسار إعادة هيكلة الدين العام، لا يمكن فصله عن عمليّة إعادة القطاع المصرفي، الذي يحمل بدوره جزءًا من الديون السياديّة. وهذا ما يفرض أيضًا التسريع بإنجاز مشروع قانون إعادة هيكلة القطاع في الحكومة، قبل إحالته للمجلس النيابي، لوضع الإطار التشريعي الكفيل بإعادة الانتظام للعمل المصرفي ومعالجة الخسائر المتراكمة في ميزانيّات القطاع المالي. وتجدر الإشارة إلى أنّ حكومة تصريف الأعمال كانت قد ناقشت عدّة مسوّدات لمشروع القانون، من دون إقرار مسوّدة، بسبب الخلافات المحليّة حول كيفيّة التعامل مع أزمة الودائع.

أخيرًا، بات من الواضح أنّ لبنان يحتاج إلى إنجاز الاتفاق النهائي مع صندوق النقد الدولي، للحصول على شهادة ثقة من هذه المؤسّسة، قبل المضي قدمًا بأي اتفاق مع حملة سندات اليوروبوندز، أو مع مانحي إعادة الإعمار. ففقدان الثقة بالدولة اللبنانيّة، بعد خمس سنوات من تعثّر الخطط الماليّة، دفع معظم الشركاء الدوليين والدائنين الأجانب إلى ربط تعاونهم مع لبنان ببرامج صندوق النقد. وذلك ما سيفرض على الحكومة المقبلة المسارعة إلى العودة إلى طاولة المفاوضات مع الصندوق في خطوة أولى، بعد إقرار خطّتها الشاملة للتعافي المالي.

المساهمون