الصراع الروسي الإسرائيلي المستجدّ

الصراع الروسي الإسرائيلي المستجدّ

09 اغسطس 2022
مظاهرات يهودية داعمة لأوكرانيا وضد الحرب في تل أبيب (getty)
+ الخط -

ظهر الصراع الخفيّ بين روسيا وإسرائيل على السطح، ليكشف عن استراتيجية بوتين الجديدة لليّ ذراع الكيان الصهيوني الذي اتَّخذ موقفاً واضحاً ومعارضاً للغزو الروسي لأوكرانيا ويذعن لما تمليه عليه الحكومة الأميركية، فقد عقدت محكمة في موسكو جلسة استماع أولية في 28 يوليو/تموز بخصوص إغلاق الفرع الروسي للوكالة اليهودية لإسرائيل التي مكَّنت 16 ألف يهودي روسي من الهجرة إلى إسرائيل منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، وحدَّدت جلسة الاستماع المقبلة في 19 أغسطس/آب.

وعلى إثر ذلك، سارع رئيس الوزراء يائير لبيد إلى إرسال وفد إسرائيلي لحلّ هذه المشكلة التي لم تكن في الحسبان، والتي تهدِّد آلاف اليهود الروس، لا سيَّما أولئك الذين يتطلَّعون للاستقرار في إسرائيل ويعارضون الحرب ويهابون التجنيد في روسيا ويخشون العقبات الروسية التي تعترض فرارهم.
تأسست الوكالة اليهودية لإسرائيل عام 1929، بهدف مدّ أواصر العلاقة والتعاون بين المجتمعات اليهودية وتجميع الشتات اليهودي من كلّ أنحاء العالم وخدمة مشروع العودة الصهيونية إلى بلاد كنعان، فقد لعب الفرع الروسي للوكالة دوراً بارزاً في مساعدة أكثر من 238 ألف يهودي على الهجرة من روسيا منذ عام 1989، كما أشرف على هجرة 7760 يهوديا روسيا إلى إسرائيل في عام 2021، بحسب تقرير التأثير لعام 2021 الذي أصدرته الوكالة.
ويشير التقرير ذاته إلى أنّ المبلغ المصروف على نشاطات فروع الوكالة في روسيا وآسيا قُدِّر بـ 1.572 مليون دولار أمريكي في 2021، بينما وصل ذلك المبلغ إلى 1.59 مليون دولار في فروع الوكالة بأوروبا، و420 ألف دولار في فروع الوكالة بأفريقيا، و392 ألف دولار في فروع الوكالة بأميركا اللاتينية، و65 ألف دولار في فروع الوكالة في أستراليا ونيوزيلندا وجنوب المحيط الهادئ.

في عام 2021، قدَّمت الوكالة اليهودية في إسرائيل 980 ألف دولار لـ 603 أفراد من ضحايا الإرهاب من اليهود الذين لجأوا إلى إسرائيل، كما خصَّصت مبلغاً بقيمة 91 ألف دولار للمساعدات الأمنية، وموَّلت 29 برنامجاً للتعليم الديني لفائدة 500 ألف مشارك بقيمة 2.62 مليون دولار، وفقاً لتقرير التأثير لعام 2021 الذي نشرته الوكالة على موقعها الإلكتروني الرسمي.
هناك مجموعة مؤلّفة من 18 شركة ومؤسّسة إسرائيلية تقف وراء الدعم المالي السخي للوكالة اليهودية، حيث تعمل هذه المؤسسات أيضاً على تأمين سكن ميسور التكلفة للمواطنين المسنِّين الفقراء ومحدودي الدخل في إسرائيل وتمويل المشروعات الصغيرة والمتوسِّطة لتعزيز تنمية ريادة الأعمال وإرشاد الشباب المعرَّضين للخطر ودعم البرامج التعليمية وتوفير فرص عمل مجدية، ومن بين أهم تلك الشركات نجد شركة أميغور "Amigour" المتخصِّصة في توفير السكن لكبار السنّ في إسرائيل والتي تدير 75 مشروعاً سكنياً في إسرائيل لفائدة 7500 من كبار السنّ من المهاجرين الجدد من الاتحاد السوفييتي السابق والناجين من الهولوكوست الذين يعيشون بالقرب من خط الفقر، ومؤسّسة داروما تزافونا Daroma Tzafona التي قدَّمت قروضاً لليهود بقيمة 380 مليون دولار ودعمت 813 مشروعاً تنموياً في إسرائيل.
الجدير بالذكر أنّه مثلما هنالك أهداف علنية للوكالة اليهودية كالحفاظ على الهوية الثقافية اليهودية وخلق جيل جديد من القادة الأقوياء وبناء اقتصاد مزدهر في إسرائيل، هنالك أيضاً أهداف خفية تتمثَّل في سرقة أذكى العقول والتجسُّس وسرقة البيانات لفائدة الكيان الصهيوني، فقد اتَّهمت موسكو هذه الوكالة بجمع بيانات شخصية من مواطنين روس بشكل غير قانوني ومعارض تماماً لمصالح روسيا، وبطبيعة الحال تحتاج روسيا، خلال هذه الحرب التي تشنُّها من أجل استعادة مجد الاتحاد السوفييتي الضائع، إلى وقف هجرة أفضل علمائها وفئتها المبدعة، ووضع حدٍّ لتسريب كافة أنواع المعلومات إلى أعدائها.
من ناحية أخرى، أدَّى تصاعد أزمة الوكالة اليهودية بين موسكو وتل أبيب إلى رفع رصيد نقاط خصم لبيد السياسي بنيامين نتنياهو الذي لطالما حافظ على علاقة محسوبة ومتوازنة ومسؤولة مع الرئيس الروسي بوتين لعدّة سنوات لصالح أمن إسرائيل. صحيح أنّ نتنياهو كان انتهازياً لكنّه لم يكن مخطئاً في تسيير علاقات إسرائيل بالروس، وكان متيقِّناً بأنّ أيّ محاولة لنكش الدب الروسي رضوخاً للنزوات الأميركية ستشكِّل تهديداً خطيراً لأمن إسرائيل بشكل أو بآخر، ويسعى بوتين من خلال هذه الخطوة أيضاً إلى تدمير صورة لبيد الشعبية وطلائها بمزيج من الهواية واللامسؤولية والغطرسة في الأسابيع الأولى من تولِّيه منصبه، تمهيداً لضرورة إعادة نتنياهو إلى قمّة الواجهة السياسية من جديد.
لقد أتقن نتنياهو لعبة النفاق السياسي الفجّ، فكان يطيع أولياء أمره في الولايات المتّحدة، لكنّه في الوقت ذاته لم يعص روسيا الحاضرة بقوّة في الفناء الخلفي المباشر لإسرائيل؛ كان نتنياهو يدرك تماماً أنّ إسرائيل لا تملك نفوذاً على بوتين وليس بحوزتها أيّ أوراق ضغط يمكن لها استغلالها في هذا الشأن، وكان واعياً بضرورة التعاون مع بوتين للعمل بشكل حرّ في سماء سورية وضرب الأهداف الإيرانية هناك، فقد سبق لموسكو أن أغلقت سماء سورية بعد إسقاط الطائرة الروسية "إيل 20" فوق أجواء اللاذقية في سبتمبر/أيلول 2018.

كما كان نتنياهو حريصاً على تنويع خياراته الدبلوماسية وأدواته الاستراتيجية، نزولاً لحاجة إسرائيل للتنسيق العسكري اليومي مع روسيا في مواجهة التهديدات الأمنية النابعة من سورية، والتعامل مع التموضع الإيراني المستمرّ هناك.
يبدو رئيس الوزراء الإسرائيلي الجديد يائير لبيد غير مدركٍ بعد لمدى خطورة اتِّخاذ موقف علني معارض لروسيا والتمادي في الإساءة إلى رئيسها، ففي كل الأحوال لم يصل الكيان الصهيوني بعد إلى القوّة والنزعة الانفرادية ومرحلة الفطام عن الدعم الأميركي. وبغضّ النظر عن ذلك لا يحقّ أصلاً لرئيس وزراء الكيان، الذي يحتلّ أرضاً ليست أرضه ويقتلع أهلها منها في أبشع صور الإبادة والتهجير القسري، أن يتجرَّأ على التفوُّه بكلمات عن حقوق الإنسان وإدانة الحروب.
خلاصة القول، التهديد الروسي بإغلاق مكاتب الوكالة اليهودية في موسكو ليس إلاّ خطوة تمهيدية لا ترقى لأن تكون صفعة سياسية ولا لكمة دبلوماسية في وجه الاحتلال الصهيوني، إنّما يمكن تقديرها على أنّها مجرّد فركة أذن خفيفة.

المساهمون