الريال الإيراني يتهاوى... تصعيد أوروبي ضد طهران يربك الأسواق
استمع إلى الملخص
- تحديات الاقتصاد الإيراني: يعاني الاقتصاد من تضخم يتجاوز 30%، وعجز في الموازنة، واعتماد على النفط، مما أدى إلى تآكل قيمة الريال. يلجأ الإيرانيون إلى شراء الذهب والدولار كملاذ آمن، مما يزيد الطلب على الدولار.
- تأثير ارتفاع الأسعار على الحياة اليومية: ارتفعت أسعار السلع الأساسية بنسبة 53%، مما زاد الضغوط التضخمية على المستهلكين وأدى إلى تراجع القدرة الشرائية واتساع رقعة الفقر.
شهدت أسعار السلع في إيران قفزة كبيرة خلال الأيام الأخيرة، على خلفية المخاطر الجيوسياسية والتصعيد الأوروبي الأخير، وبموازاة تلك الزيادة شهدت أسعار العملات الأجنبية المتداولة في سوق الصرف المحلية قفزة جديدة، إذ تجاوز سعر الدولار في السوق الحرة حاجز مليون ريال مرة أخرى، ما أدى إلى ارتفاع ملموس في أسعار الذهب، ورفع من وتيرة قلق الإيرانيين إزاء تقلص موائدهم وتراجع قدرتهم الشرائية، فيما اتجه بعضهم إلى شراء الدولار والذهب وأدوات الاستثمار شبه الآمنة للحفاظ على قيمة مدخراتهم.
حتى نحو أسبوع مضى، كان الدولار يُتداول في السوق الحرة بطهران ضمن نطاق 950 إلى 970 ألف ريال، لكن مع انتهاء المهلة الأوروبية لتفعيل آلية "الزناد" أو "سناب باك" ضد إيران في نهاية أغسطس/آب المنصرم، مع تصريحات وتهديدات حادة من مسؤولين غربيين، تغيّر المزاج العام في السوق المحلية بسرعة. وتسارعت وتيرة هذا التغيير مع رسالة الدول الأوروبية الثلاث فرنسا وبريطانيا وألمانيا يوم الخميس الفائت إلى مجلس الأمن لبدء إجراءات تفعيل الآلية، وإعادة فرض العقوبات وقرارات الأمم المتحدة على إيران، ليرتفع سعر الدولار السبت الماضي، مع إعادة فتح السوق غير الرسمية، إلى مليون وأربعين ألف ريال، قبل أن يتراجع قليلاً إلى في تعاملات الأحد إلى مليون وستة وثلاثين ألف ريال. ويُذكر أن الدولار في إيران كان قد بلغ نحو مليون وسبعين ألف ريال قبل عام تقريباً.
أسباب ارتفاع الدولار
بهروز أسعدي، ناشط في تجارة العملة بشارع منوچهري في طهران، علق على تلك التطورات قائلاً لـ"العربي الجديد" إن أهم عامل في الارتفاع الأخير لسعر الدولار، بدء تفعيل آلية "الزناد" وظلال التهديد بإعادة فرض عقوبات مجلس الأمن على إيران واستئناف الحرب عليها، إضافة إلى احتمال إدراجها مجدداً تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة. وأضاف أن تفعيل الآلية يمكن أن يؤدي إلى تشديد العقوبات في مجالات المالية والمصارف والطاقة والدفاع. وأشار إلى أن تجار العملة، خصوصاً في السوق غير الرسمية، عززوا الطلب على شراء الدولار والذهب تحسباً لارتفاع الأسعار وانخفاض إيرادات النقد الأجنبي وتزايد صعوبة المعاملات.
ويعاني الاقتصاد الإيراني منذ سنوات من تضخم مزمن يتجاوز 30%، وتراكم السيولة، والعجز في الموازنة العامة، والاعتماد المفرط على الموارد النفطية المعرضة لتقلبات الأسعار والعقوبات، ما تسبب في تآكل مستمر لقيمة الريال، وجعل أي صدمة سياسية أو اقتصادية ذات أثر مضاعف على سعر الصرف. وفي الوقت ذاته، تستفيد الحكومة الإيرانية من ارتفاع الدولار لتغطية عجز الموازنة.
وفي تصريح لافت، قال رجل الأعمال الإيراني بابك زنجاني لوسائل الإعلام المحلية، يوم الجمعة، إن سعر الدولار الحالي "لا علاقة له بآلية الزناد أو العقوبات"، محملاً البنك المركزي المسؤولية كاملة، وقال إنه يقف وراء رفع الأسعار. أما أمير علي، أحد العاملين في بيع وشراء الدولار في السوق غير الرسمية، فأوضح أن من أسباب الارتفاع أيضاً تراجع المعروض في السوق بما لا يوازي زيادة الطلب. ولا تزال صادرات النفط الإيرانية تحت ضغط العقوبات، كما يواجه استرداد عائدات صادراتها والصادرات غير النفطية عقبات عدة، ما يقلص احتياطيات النقد الأجنبي ويحد من العرض.
حماية المدخرات بالدولار والذهب
في ظل ارتفاع سعر الدولار في السوق الحرة الإيرانية، وما يواكبه من موجات تضخمية، وغياب أفق لانخفاض التوترات مع الغرب وتوقعات بتفاقم الأزمات الاقتصادية، يلجأ عدد متزايد من الإيرانيين إلى شراء الذهب والعملات الأجنبية باعتبارها ملاذاً آمناً لحماية مدخراتهم من الانهيار، وساهم هذا السلوك في زيادة الطلب على الدولار وهو من أسباب زيادة سعره أيضاً. وكان عضو مجمع تشخيص مصلحة النظام، غلام رضا مصباحي مقدم، قد كشف في وقت سابق أنّ نحو 70 مليار دولار من العملات الأجنبية والذهب توجد بأيدي المواطنين الإيرانيين. وأضاف أن البعض يروّج لفكرة ضرورة رفع سعر الصرف من أجل تشجيع المصدرين، مؤكداً أن "هذا الكلام خاطئ تماماً".
وفي العاصمة طهران، تقول سمانه كارغر (42 عاماً) صاحبة ورشة منزلية لتصنيع الملابس النسائية إنها غيرت نهجها المالي منذ عامين، بعد أن اكتشفت أن أرباح البنوك لا تواكب وتيرة الغلاء والتضخم. وتوضح في حديثها مع "العربي الجديد" أنه "حين دفعت مؤخراً ثمن المواد الخام، فوجئت بأن التكلفة تضاعفت تقريباً مقارنة بالعام الماضي. فبدأت أشتري السبائك الذهبية والدولار حتى أحافظ على قيمة رأس مالي".
ومن أصفهان، يروي المتقاعد أكبر قرباني (58 عاماً) أنه اضطر إلى اللجوء لشراء الذهب والدولار، بعد أن لاحظ أن كل موجة لارتفاع العملة الأميركية ترفع معها أسعار السلع الأساسية والخدمات. ويقول: "راتبي التقاعدي يكفي بالكاد، والمدخرات في البنك تتآكل. الآن أمتلك ثلاث قطع من سبيكة "بهار آزادي" وبعض الدولارات لتأمين مدخراتي". يأتي هذا السلوك على وقع تزايد سعر الدولار إلى مستويات قياسية، وتراجع مستمر لقيمة العملة الوطنية، مما يدفع شرائح من الإيرانيين للبحث عن بدائل تحفظ ما تبقى من قدرتهم الشرائية في مواجهة اقتصاد يرزح تحت وطأة العقوبات والتوترات السياسية والاختلالات الهيكلية.
مخاوف الشارع تتزايد
وعادة ما يؤدي ارتفاع سعر الدولار في إيران إلى زيادة أسعار السلع المستوردة والمواد الأولية المطلوبة للإنتاج المحلي، ما يرفع تكاليف الإنتاج ويضيف ضغوطاً تضخمية كبيرة على المستهلكين، بالتوازي مع نمو الأجور بوتيرة أبطأ من التضخم، فتتراجع القدرة الشرائية وتتسع رقعة الفقر. مريم، مواطنة من طهران تبلغ 35 عاماً وتعمل في القطاع الخاص، تقول لـ"العربي الجديد": "لدي طفل في المدرسة، وزوجي سائق في خدمة سيارات عبر الإنترنت. منذ العام الماضي، تضاعفت تقريباً نفقات المنزل. مع ارتفاع الدولار، حتى السلع المنتجة محلياً تصبح أغلى. الشهر الماضي أردنا شراء حاسوب محمول بسيط لعملي، فوجدت أن سعره ارتفع من 25 مليوناً إلى 33 مليون تومان فقط بسبب الدولار، فقررنا التراجع".
الخمسيني رحيم كريمي، صاحب محل لقطع غيار السيارات، قال لـ"العربي الجديد": "نحن نتعامل مع الدولار بشكل مباشر. هناك قطع مستوردة، وحتى إذا جرى تركيبها محلياً فموادها الأولية مستوردة. عندما ارتفع الدولار من 950 ألف ريال إلى مليون ريال، ارتفعت أسعار الجملة في اليوم نفسه". وأضاف: "بعض الزبائن يظنون أننا نرفع الأسعار عمداً، لكن الحقيقة أننا نشتري القطع الجديدة بأسعار أعلى. الضغط علينا أيضاً كبير، فالزبون لا يستطيع الدفع، والمبيعات تنخفض".
بدورها، قالت زهرا، وهي ممرضة بالغة من العمر 24 عاماً، لـ"العربي الجديد": "أنا وزملائي لا نتعامل مباشرة بالدولار، لكن كل شيء ارتفع سعره من حفاضات الأطفال التي نشتريها إلى إيجار المنزل. حين يرتفع الدولار، يبدو أن الجميع يسارع لمضاعفة الأسعار، حتى الملابس المحلية التي كانت بنصف هذا السعر العام الماضي أصبحت الآن ضعف ذلك، بينما الرواتب ثابتة لا تتغير". أما علي نادري (68 عاماً)، متقاعد من قطاع التعليم، فقال لـ"العربي الجديد": "أنا أعيش على راتب محدود قدره 200 دولار، لكن ارتفاع العملة الأميركية يعني غلاء الدواء والعلاج. دواء القلب الذي كنت أشتريه بـ250 ألف تومان أصبح اليوم بـ520 ألفاً. سمعت أن بعض الناس يتوقفون عن العلاج بسبب الغلاء ونقص الأدوية، وهذا أخطر ما في الأمر لأنه يهدد أرواح الناس".
قفزة كبيرة بالأسعار
في ظل اضطرابات أسواق الصرف والسلع تلك، تشير بيانات مركز الإحصاء الإيراني إلى أن أسعار السلع الأساسية ارتفعت بنسبة 53% خلال العام الماضي، وشمل الغلاء جميع مجموعات الغذاء من البقوليات إلى اللحوم ومنتجات الألبان، بزيادات تراوحت بين 50% و200%. ووفق أحدث تقارير المركز، بلغ معدل التضخم السنوي 42.4% الشهر الماضي، وهو مستوى غير مسبوق يزيد الضغط على الأسر الإيرانية، خصوصاً في الشرائح منخفضة الدخل. وسجّلت أسعار البقوليات الزيادة الأكبر، إذ ارتفع سعر الفاصولياء الحمراء بنسبة 200% من 115 ألفاً إلى 350 ألف تومان للكيلوغرام. واحتلت منتجات الألبان المرتبة الثانية بزيادة متوسطة 70%، منها الزبدة المبسترة التي ارتفع سعرها قرابة 90% من 32 ألفاً إلى 62 ألف تومان.
كما ارتفع متوسط سعر الأرز الإيراني بنسبة 83% خلال العام الماضي، بزيادة لا تقل عن 100 ألف تومان للكيلوغرام، فيما تراوحت زيادات أصناف الأرز الإيراني والمستورد بين 40% و80%. وشهدت المكسرات والفواكه المجففة ارتفاعات بين 20% و40%. وأوضحت المتابعات الميدانية أن أسعار الأرز ارتفعت 30% في المتوسط خلال شهر واحد، ووصلت الزيادة في بعض العلامات إلى 60% - 70%، مثل أرز "كلستان" المحلي الذي قفز من 290 ألفاً إلى 439 ألف تومان للكيلوغرام بين يونيو/حزيران ويوليو/تموز، أي نحو 50% في شهر، ما دفع نواب البرلمان للمطالبة بتدخل لجنة الزراعة. وشهدت أسعار اللبن ومنتجات الألبان، الركن الدائم في سلة الأسر، الشهر الماضي زيادة مصرحاً بها تراوحت بين 10% و15%، بعد ارتفاع سعر الحليب الخام من 18 ألفاً إلى 23 ألف تومان للكيلوغرام، مع إشارة وزارة الجهاد الزراعي إلى إمكانية السماح بزيادة إضافية تصل إلى 27%.