استمع إلى الملخص
- التعاون السعودي-الصيني وتحدياته: تسعى السعودية لتعزيز التعاون التكنولوجي مع الصين رغم التحذيرات الأميركية، وتواجه تحديات أمنية وسياسية تتعلق بالاعتماد على التكنولوجيا الصينية وتأثيرها على الاستقلال التكنولوجي والأمن السيبراني.
- التحديات القانونية والأخلاقية: يواجه "ديبسيك" تحديات قانونية وأخلاقية تتعلق بإساءة الاستخدام وسرقة البيانات. تدرس دول الخليج استخدامه بحذر لضمان الأمان والكفاءة، مع توقعات باتفاقيات تعاون جديدة.
سلط النجاح السريع لنموذج "ديبسيك" الصيني، رخيص التكلفة، الضوء على التوجه المستقبلي لاستثمارات دول الخليج في مجال الذكاء الاصطناعي، خصوصاً السعودية، التي تبدي اهتماماً خاصاً بهذا المجال، وخصصت له استثمارات بقيمة 1.2 مليار دولار، حسبما أوردت خطتها الاستراتيجية 2030.
ويعود انخفاض تكلفة "ديبسيك" إلى عدم اعتماده على أحدث شرائح الرقائق الإلكترونية الأميركية من طراز "إنفيديا" بسبب القيود المفروضة على الصين، ما يشير إلى أن تعاون الرياض مع بكين في هذا المجال قد يضمن للسعودية أهدافها الاستراتيجية والاقتصادية بكلفة أقل كثيراً من تخطيطها السابق، وهو وما أورده تقرير نشرته مجلة "فوربس"، حيث أشار إلى أن المملكة قد تستفيد من النموذج الصيني لتسريع تطوير مشروعاتها.
كذلك أورد تقرير آخر نشرته منصة TechCrunch المتخصص في التقنية أن نجاح شركة ديبسيك في تقديم حلول ذكاء اصطناعي منخفضة الكلفة يجعلها نموذجاً جذاباً لدول الخليج تحديداً، التي تسعى لتعزيز قدراتها التكنولوجية دون تكاليف باهظة، لافتاً إلى أن النموذج الصيني قد يُحفز إنشاء شركات ناشئة محلية في مجال الذكاء الاصطناعي، خصوصاً مع وجود دعم حكومي قوي في السعودية والإمارات.
وسبق أن نشرت صحيفة "فاينانشال تايمز" البريطانية تقريراً أشار إلى سعي الرياض للاعتماد على بكين لتقليل الاعتماد على التكنولوجيا الأميركية، خصوصاً في ظل التوترات الجيوسياسية، غير أن هذا التوجه لا يبدو مستقراً، إذ تبدو الرياض مترددة في هذا الشأن، حيث ظهرت أخيراً تحولات استراتيجية في السياسة السعودية تجاه التعاون التكنولوجي مع الصين، خصوصاً في ظل الضغوط الأميركية المتصاعدة. وأظهر الصندوق السعودي "آلات"، الذي يملك استثمارات بقيمة 100 مليار دولار والمدعوم من صندوق الاستثمارات العامة، استعداداً لفك ارتباطه بالشركات الصينية إذا طلبت واشنطن ذلك، وفقاً لتصريحات نقلتها وكالة "بلومبيرغ" عن رئيس الصندوق التنفيذي، أميت ميدها.
ديبسيك وخفض التكلفة
وفي هذا الإطار، يشير عميد كلية إدارة الأعمال في الجامعة الأميركية للتكنولوجيا في لبنان، بيار الخوري، لـ "العربي الجديد"، إلى أن شركة "ديبسيك" حققت نجاحاً كبيراً في تقديم تطبيق ذكاء اصطناعي منخفض التكلفة، ما قد يعيد تشكيل معادلات المنافسة العالمية في هذا المجال، ويحمل تأثيراً خاصاً على دول الخليج، وخصوصاً السعودية، حيث يمكن أن يسهم في تسريع تبني تقنيات الذكاء الاصطناعي بطرق متعددة.
ويمثل انخفاض التكلفة أحد العوامل الرئيسية في هذا الإطار، حيث يتيح للشركات الصغيرة والمتوسطة في دول الخليج الوصول إلى تقنيات متقدمة دون الحاجة إلى استثمارات ضخمة، ما يعزز الابتكار المحلي ويزيد من قدرة المنطقة على المنافسة عالميا، بحسب الخوري. وبالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يدفع نجاح "ديبسيك" دول الخليج، وفي مقدمتها السعودية، إلى تعزيز التعاون مع الصين في مجالات التكنولوجيا المتقدمة، بحسب الخوري، الذي يرجح أن يشمل هذا التعاون تبادل المعرفة والتدريب والاستثمار المشترك في أبحاث الذكاء الاصطناعي.
ورغم التحذيرات الأميركية من تعميق العلاقات التكنولوجية بين دول الخليج والصين، يلفت الخوري إلى أن السعودية قد ترى في هذا التعاون فرصة استراتيجية لتحقيق تقدم تقني سريع، خصوصاً مع طموحاتها الكبيرة في تطوير بنيتها التحتية التكنولوجية، ضمن إطار رؤية السعودية 2030 التي تهدف إلى تنويع الاقتصاد بعيداً عن النفط، حيث يشكل الذكاء الاصطناعي أحد المجالات الرئيسية التي يمكن أن تساهم في تحقيق هذا التحول.
ومن خلال اعتماد تقنيات مثل "ديبسيك"، يرى الخوري إمكانية تسريع السعودية لهذا التحول عبر توفير حلول تكنولوجية عالية الجودة بتكلفة منخفضة، ما يسهم في دعم القطاعات الناشئة وتعزيز مكانتها مركزاً إقليمياً للابتكار، لكنه يؤكد مع ذلك أن هذا المسار لا يخلو من تحديات، أبرزها المخاطر الأمنية والسياسية المرتبطة بالتعاون مع الصين.
ويشير الخوري، في هذا الإطار، إلى المخاوف بشأن الاستقلال التكنولوجي، فالاعتماد على التكنولوجيا الصينية قد يؤدي إلى قيود في التحكم بالأنظمة وعدم القدرة على تطويرها بشكل مستقل، إضافة إلى تحديات الأمن السيبراني، إذ يمكن أن تكون أنظمة الذكاء الاصطناعي عرضة للهجمات السيبرانية أو الاستغلال من قبل أطراف معادية للسعودية سياسياً ومتحالفة مع الصين تقنياً. وقد يؤدي تعزيز التعاون مع الصين إلى توترات مع الولايات المتحدة، التي تبدي قلقاً متزايداً إزاء قضايا الجاسوسية ونقل التكنولوجيا ذات الاستخدام المزدوج، ما قد يؤثر بالعلاقات الثنائية في مجالات أخرى مثل الأمن القومي وتبادل المعلومات الاستخباراتية، حسبما يرى الخوري.
وفي ضوء هذه المعطيات، يخلص الخوري إلى أن السعودية ستواصل على الأرجح مساعيها في التعاون مع الصين في مجال الذكاء الاصطناعي، ولكن بحذر مدروس يوازن بين الفوائد الاقتصادية والتكنولوجية والمخاطر الأمنية والسياسية، مشيراً إلى أن القرارات في هذا السياق ستعتمد على تقييم استراتيجي دقيق يأخذ بالاعتبار الديناميكيات الجيوسياسية، وتحولات السوق، والاحتياجات المستقبلية للمملكة في مجال التكنولوجيا المتقدمة.
تغيير جذري
وفي السياق، يتوقع الخبير الاقتصادي، نهاد إسماعيل، أن يُحدث "ديبسيك" تغييراً جذرياً في قواعد اللعبة بمجال الذكاء الاصطناعي عالمياً، مشيراً إلى أن من أبرز مزاياه مجانيته وقدرته على المنافسة المباشرة مع تطبيقات مثل "تشات جي بي تي"، بالإضافة إلى تأثيره الكبير في الاقتصاد العالمي واستخدامه في تقنيات الإنتاج الصناعي.
ورغم المزايا العديدة، يشير إسماعيل إلى أن نموذج "ديبسيك" يواجه أيضاً تحديات قانونية وأخلاقية وأمنية قد تحدّ من انتشاره، فقد حذرت دول مثل إيطاليا وأيرلندا وبريطانيا وأستراليا مواطنيها من استخدام التطبيق، مشيرة إلى مخاطر إساءة الاستخدام وسرقة البيانات الحساسة، كذلك يُثار قلق غربي حول الكمّ الهائل من المعلومات التي قد تتدفق إلى الصين عبر التطبيق، وما إذا كانت الصين ستلتزم معايير الحوكمة والشفافية في تعاملها مع هذه البيانات.
ومن بين التحفظات التي أثارها الخبراء الغربيون، ويشير إليها إسماعيل، رفض "ديبسيك" أي محتوى يتضمن انتقادات للحزب الشيوعي الصيني أو الحكومة الصينية. وتركز المخاوف الأميركية على الاستخدامات العسكرية المحتملة للتطبيق، ما دفع البحرية الأميركية إلى فرض حظر على استخدامه الأسبوع الماضي.
وفي ما يتعلق بتأثير ذلك في توجهات الاستثمار الخليجية بمجال الذكاء الاصطناعي، يلفت إسماعيل إلى أن السعودية والإمارات تحديداً حققتا إنجازات كبيرة في مجال الاقتصاد الرقمي وتطبيقات الذكاء الاصطناعي، وتدرسان الآن إمكانية استخدام "ديبسيك" بعد التأكد من سلامته وكفاءته، ويتوقع أن تشهد الفترة المقبلة إعلانات لاتفاقيات تعاون جديدة بين دول الخليج وشركات عالمية في هذا المجال.
فالذكاء الاصطناعي يعد "أولوية استثمارية سيادية لدول الخليج"، حسب تعبير إسماعيل، الذي أشار إلى أن أبوظبي تستضيف معرض "عالم الذكاء الاصطناعي 2025". ويشهد المعرض مشاركة واسعة من قادة وخبراء الذكاء الاصطناعي لمناقشة التحولات المتسارعة في هذا المجال، بما في ذلك صعود "ديبسيك" ومشاريع ضخمة مثل "ستارغيت" بقيمة 500 مليار دولار.
وإزاء ذلك، فإن الاهتمام العالمي بـ"ديبسيك" من شأنه أن يؤدي إلى مطالب بتشديد معايير الأمن والخصوصية، ووضع قوانين جديدة تتعلق بحماية البيانات ومنع الاستخدامات غير الأخلاقية. ورغم صعوبة التنبؤ بالتطورات القادمة، إلا أن إسماعيل يرجح أن تتعاطى دول الخليج بحذر شديد مع هذه التقنيات الجديدة، مستفيدة من خبراتها السابقة في مجال الذكاء الاصطناعي.
ويخلص إسماعيل إلى أن التطبيق الصيني يمثل نقلة نوعية في مجال الذكاء الاصطناعي، لكنه يحمل في طياته تحديات كبيرة، تتطلب تعاوناً دولياً لضمان استخدامه بشكل آمن وفعال.