استمع إلى الملخص
- مخاطر الخصخصة الشاملة: الخصخصة قد تؤدي إلى استحواذ النخب المالية على الأصول، مما يعزز التفاوت الاقتصادي. يتطلب نقل الأصول بيئة شفافة، وهو أمر صعب في ظل الفساد. الخصخصة العشوائية قد تفاقم المشكلات.
- دروس من التجارب العالمية: تجارب سنغافورة وماليزيا تُظهر نجاح الخصخصة المدروسة. يُقترح تبني نموذج الخصخصة الجزئية والشراكات بين القطاعين العام والخاص، مع الحفاظ على الأصول الاستراتيجية، وضمان الشفافية والعدالة.
أُثيرت خلال الأيام الماضية في سورية دراسة قرارات لخصخصة القطاع العام للخروج من أزمتها الاقتصادية الممتدة منذ سنوات بعد سقوط نظام الأسد في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024. يشكل إصلاح القطاع العام أحد الملفات الأساسية والحسّاسة لإعادة بناء الاقتصاد الوطني، على اعتبار أن عائلة الأسد اعتمدت منذ وصولها إلى السلطة في العام 1970 نموذج الاقتصاد الاشتراكي القائم على التخطيط المركزي، حيث تدير الدولة وسائل الإنتاج وتشرف على عملية توزيع الثروة بهدف تحقيق التشغيل العام والعدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية المتوازنة، إلا أن هذا النموذج، وعلى الرغم من نبل أهدافه ومساعيه، واجه العديد من الإشكاليات البنيوية التي أثّرت على أدائه واستدامته على مدار خمسة عقود من حكم الأسد.
وعلى أهمية الموضوع يثير الحديث عن الخصخصة الشاملة مخاوف جدية حول تأثيراتها المحتملة على المجتمع السوري، خاصة في ظل الظروف الاقتصادية المتدهورة. فالقطاع العام، رغم كل عيوبه البنيوية، يظل مصدر رزق لمئات الآلاف من الأسر السورية وركيزة هامة للخدمات الأساسية. فهل يمكن السير في مسار الخصخصة ويكون حلّاً عملياً، أم أنه سيزيد من حدة الأزمة الاقتصادية في البلاد؟
خطورة الخصخصة الشاملة
غنيٌّ عن القول إن سورية تعاني أزمات اقتصادية مركبة ومعقدة، كانهيار البنى التحتية، وتراجع الإنتاج، وانخفاض القدرة الشرائية. تحتاج تلك الأزمات إلى تكاتف جهود محلية ودولية وتوفر إمكانيات كبيرة للدخول في مرحلة التعافي وإعادة الإعمار بشكل متوازن. ويشكل القطاع العام بشركاته ومؤسساته البالغة أكثر من 300 شركة ومؤسسة تعمل في مختلف التخصصات، الموظّف الرئيس في البلاد وعمودها الفقري، إلا أن معظم تلك الشركات تعد خاسرة وتعاني الفساد والبيرقراطية والبطالة المقنعة، حيث بلغ حجم الخسائر، ما بين عامي 2006 و2011، تريليوناً و480 ملياراً و411 مليون ليرة سورية، بحسب تقرير للجهاز المركزي للرقابة المالية.
تشكل الخصخصة الشاملة للشركات العامة وخضوعها الفوري للسوق التنافسي تهديداً جدياً يتمثل في احتمال استحواذ النخب المالية النافذة على هذه الأصول، خاصة تجار الحرب والفاسدين الذين استغلوا الأزمات الاقتصادية خلال سنوات الثورة لتحقيق مكاسب هائلة وتكوين ثروات طائلة. هذا الأمر قد يؤدي إلى تعزيز التفاوت الاقتصادي بشكل أكبر، مع إضعاف دور الدولة في توفير الخدمات الأساسية للمجتمع.
يتطلب نقل أصول شركات الدولة إلى القطاع الخاص بيئة شفافة وسوقاً حرة، وهو أمر في غاية الصعوبة والحساسية، خاصة في الحالة السورية التي تفتقر إلى مقومات الشفافية والكفاءة والرقابة. وتُظهر تجارب الدول النامية أن الخصخصة العشوائية غالباً ما تؤدي إلى تفاقم المشكلات بدلاً من حلها، وسورية ليست استثناءً من هذا السياق. ففي ظل انتشار الفساد وضعف الإدارة، ووجود أثرياء الحرب والتحديات الأمنية والعقوبات، قد تصبح الخصخصة أداة لإثراء فئة صغيرة على حساب الأغلبية، أو وسيلة لتمكين جهات خارجية من السيطرة على أصول الدولة الحيوية.
إضافة إلى ذلك، تعاني القوة الشرائية للمواطنين ضعفاً شديداً، حيث لا يتجاوز متوسط دخل الموظف 20 دولاراً شهرياً، مما يجعلهم يعتمدون بشكل كبير على الخدمات والسلع المدعومة من الدولة. في ظل هذه الظروف، سيؤدي الاعتماد الكامل على القطاع الخاص لتقديم الخدمات حتماً إلى ارتفاع الأسعار، مما يزيد من الأعباء على الأسر السورية التي تعيش في أوضاع اقتصادية صعبة، مع وصول معدلات الفقر إلى مستويات قياسية تجاوزت 80% من السكان.
دروس من التجارب العالمية
على الرغم من المخاطر التي ترافق الخصخصة، لكنها ليست حلّاً محكوماً بالفشل إذا ما تمت إدارتها وفق معايير مدروسة وتجارب ناجحة. دول مثل سنغافورة وماليزيا، التي واجهت تحديات اقتصادية مشابهة، تمكنت من تحويل شركات القطاع العام إلى مؤسسات ديناميكية ومربحة عبر إعادة الهيكلة، وتعزيز الشفافية، والاعتماد على شراكات مدروسة مع القطاع الخاص.
في سنغافورة وبعد استقلالها عن ماليزيا، تبنت الحكومة نهج الخصخصة التدريجي والمخطط بعناية لتحويل شركات القطاع العام إلى كيانات تساهم بفعالية في النمو الاقتصادي، حيث استهدفت الحكومة الشركات ذات الأداء الضعيف وخصخصتها مع الاحتفاظ بجزء من ملكيتها. مثل شركة الخطوط الجوية السنغافورية، التي انتقلت من شركة حكومية متعثرة إلى واحدة من أفضل شركات الطيران في العالم بفضل تطوير الكفاءات الإدارية والتقنية وتطبيق استراتيجيات تجارية مبتكرة. إضافة إلى ذلك، أُنشئ إطار تنظيمي صارم لضمان الشفافية وحماية حقوق العمال.
يمكن لسورية أن تستلهم هذا النهج مع الشركة السورية للطيران، بحيث تحتفظ الدولة بملكية جزئية وتبيع الجزء الآخر للقطاع الخاص، مع ضمان العدالة الاجتماعية وحقوق العاملين. كما يمكن تطبيق عقود من نوع "ابنِ – شغّل – انقل" على مطاري دمشق وحلب الدوليين، مما يسهم في تحسين البنية التحتية وتعزيز الكفاءة التشغيلية والخدمة المقدمة ومن ثم الربحية أيضاً.
وفي ماليزيا، اعتمدت الحكومة على الخصخصة جزءاً من خطتها الاقتصادية الشاملة، حيث ركزت على تحسين جودة الخدمات وتقليل الأعباء المالية على الدولة. أحد أبرز الأمثلة هو شركة الكهرباء الوطنية الماليزية، التي تمت خصخصتها لتحسين الكفاءة وزيادة الإنتاجية. ولضمان نجاح هذه الخطوات، أنشأت الحكومة هيئات رقابية مستقلة، وحرصت على تعزيز الشفافية وتشجيع الشركات الصغيرة والمتوسطة للدخول في السوق.
يمكن تبني نهج مشابه في سورية مع مؤسسة الكهرباء السورية، التي تعاني أزمات متفاقمة وخسائر مالية كبيرة. يمكن تخصيص أقسام معينة مثل النقل أو التوزيع، أو التركيز على التوليد من خلال شراكات مع القطاع الخاص. كما يمكن ترخيص شركات طاقة متجددة تزود الكهرباء للشبكة العامة، مما يعزز الإنتاجية ويقلل الاعتماد على الموارد التقليدية.
علاوة على ذلك، لم تقتصر جهود ماليزيا وسنغافورة على الخصخصة فقط، بل شملت تطوير قطاعات حيوية مثل التعليم والصحة والبنية التحتية. ساهم هذا النهج المتوازن بين القطاعين العام والخاص في خلق بيئة استثمارية جاذبة عززت النمو الاقتصادي. في ما يخص سورية، يمكن الإبقاء على قطاعي التعليم والصحة تحت إدارة الدولة، مع إجراء إصلاحات هيكلية لتحسين الأداء والكفاءة. يمكن تبني نماذج إدارية حديثة تحاكي القطاع الخاص من حيث الإنتاجية والجودة، مع تشجيع المبادرات الخاصة لتقديم خيارات تعليمية وصحية متميزة.
في ظل الظروف الحالية التي تشهدها سورية، أفضل سيناريو هو تشكيل لجنة من عدة خبراء من عدة تخصصات تدرس أفضل الخيارات المتاحة لمستقبل سورية على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي. ومن بين النماذج التي يمكن العمل عليها: نموذج الخصخصة الجزئية الذي يركز على الشراكات بين القطاعين العام والخاص، حيث يسمح هذا النموذج بالاستفادة من خبرات القطاع الخاص من دون فقدان الدولة السيطرة الكاملة على الأصول الاستراتيجية. وبعض الشركات الكبرى قد تحتاج إلى تقسيمها إلى وحدات أصغر تتمتع بالاستقلالية الإدارية والمالية، ما يسهل عمليات المتابعة والمساءلة، وإدخال التكنولوجيا لتحسين أداء الشركات العامة وتقليل الفساد قد يكون خطوة جوهرية نحو تعزيز الشفافية وتُسهم في زيادة الإنتاجية، وتقليل الوقت والتكاليف وتحسين الخدمات المقدمة للمواطنين. وأيضاً ضمان استقلالية الهيئات الرقابية وتفعيل دور المجتمع المدني في متابعة عمليات الخصخصة يحد من مخاطر سوء الإدارة والفساد.
أخيراً، نعم القطاع العام يحتاج إلى خصخصة في سورية وينبغي العمل على هذا الملف، ولكن في الوقت نفسه يفترض أن معيار خصخصة أي شركة في سورية يعتمد على الموازنة بين ضرورة الإصلاح الاقتصادي وحماية الفئات الأكثر هشاشة في المجتمع. فالخصخصة ليست هدفاً بحد ذاتها، بل وسيلة لتحقيق كفاءة اقتصادية أكبر، وتخفيف العبء عن الدولة، وتحقيق التنمية المستدامة. ولضمان النجاح، يجب أن تتم هذه العملية ضمن مشروع ورؤية شاملة تستند إلى الشفافية، والعدالة، والمساءلة وليس على ربحية القطاع الخاص فحسب.