الحكومات العربية تدعم مزارع القمح الأجنبي

الحكومات العربية تدعم مزارع القمح الأجنبي

01 اغسطس 2022
ارتفاع أسعار القمح والوقود يرهق جيوب المواطن المصري (getty)
+ الخط -

السعر المزرعي التحفيزي الذي تدفعه الحكومة للمزارعين مقابل القمح المخصص لصناعة الخبز والمكرونة، هو أحد أهم السياسات الزراعية الناجحة التي تنتهجها الحكومات المستقلة لتشجيع المزارعين المحليين على زيادة إنتاج وإنتاجية محصول القمح، وتحقيق الاكتفاء الذاتي من المحصول الاستراتيجي ومن غيره من المحاصيل والمنتجات الغذائية الأساسية، وبناء مخزون احتياطي وفائض للتجارة الدولية. 

فالعلاقة وثيقة وطردية دائماً بين السعر المزرعي وبين كمية الإنتاج ومعدل الإنتاجية، تزيد الحكومة السعر فيتوسع المزارعون في مساحة المحصول، ويزيد الإنفاق على البذور والأسمدة، فيزيد الإنتاج إلى حد الكفاية والتصدير. 

والعكس صحيح تمامًا، تخفّض الحكومة سعر المحصول، فيقلل المزارع المساحة أو يمتنع عن زراعته، ويبحث عن الفرصة البديلة، ويزرع محصولا آخر أكثر ربحية، وفي الغالب يكون أقل أهمية من القمح من الناحية الاستراتيجية.

لم تتصدر روسيا وأوكرانيا قائمة الدول المصدرة للقمح إلا بالأسعار التحفيزية، بالتوازي مع دعم تكلفة البذور عالية الإنتاج والأسمدة الكيماوية والمبيدات

سياسة التحفيز السعري تنافي تماماً سياسة تحرير الزراعة، التي تترك أسعار المحاصيل لتفاعل قوى السوق وهي العرض والطلب، بغض النظر عن تكلفة الإنتاج وسياسات الإغراق الأجنبية، وهي السياسة التي فرضتها الولايات المتحدة على دول التبعية وكانت سببا في تخلف إنتاجها من القمح وتحولها للاستيراد، والسياسات الشيوعية التي كانت سببا في وضع دول الاتحاد السوفييتي على رأس الدول المستوردة للقمح، وعانت بسببها من ويلات المجاعة وأزمات الغذاء المتكررة. 

ولم تتصدر روسيا وأوكرانيا قائمة الدول المصدرة للقمح إلا بسياسة الأسعار التحفيزية، بالتوازي مع دعم تكلفة البذور عالية الإنتاج والأسمدة الكيماوية والمبيدات الزراعية لتكون بأسعار غير ربحية. وهي نفس السياسة التي انتهجتها الولايات المتحدة وتصدرت بسببها الدول المصدرة للقمح لعقود طويلة امتدت منذ منتصف القرن الماضي حتى سنوات قليلة مضت. 

دعم سخي هناك 

الولايات المتحدة، التي ظلت المصدر الأول للقمح في العالم لأكثر من نصف قرن وصاحبة فكرة استخدام القمح كسلاح لترويض الشعوب، تقدم دعما سخيا للمزارعين الأميركيين لتشجيعهم على إنتاج المحاصيل الاستراتيجية، وهي القمح والذرة والصويا والقطن والأرز. 

وفي عهد الرئيس دونالد ترامب، قدمت الحكومة الأميركية حزمة مساعدات في صورة مدفوعات مالية مباشرة لمزارعي المحاصيل الاستراتيجية تراوحت بين 14 و20 مليار دولار في السنة، وطوال فترة حكمه. 

وبعد الحرب على أوكرانيا، اقترحت إدارة خلفه جو بايدن تقديم دعم إضافي بقيمة 500 مليون دولار إلى المزارعين، بهدف تعويض صادرات القمح والذرة الأوكرانية التي توقفت بسبب الغزو الروسي. فزاد دعم القمح من 3.38 دولارات لكل بوشل يزن 27.2 كيلوغراما، بمعدل 124 دولاراً للطن، إلى 5.52 دولارات للبوشل، بمعدل 202 دولار لكلّ طن، ما يمثل 40 بالمائة من السعر التصديري الذي وصل إلى 505 دولارات للطن. وبذلك يكون السعر المزرعي للقمح الذي تقدمه الحكومة للمزارع الأميركي هو 707 دولارات للطن. 

روسيا، بعدما أنفقت 30 مليار روبل سنوياً في ميزانية الدعم الزراعي لمنتجي القمح من 2016 إلى 2018، قررت زيادة الدعم إلى 300 مليار في سنة 2022، وبزيادة أكبر ليبلغ 377 مليار روبل بحلول عام 2024، وذلك من أجل تعويض منتجي القمح عن تكاليف الإنتاج والتسويق. وبهذه السياسة أصبحت روسيا أكبر مصدّر للقمح والشعير في العالم، ورابع أكبر مصدّر لبذور دوار الشمس، وخامس أكبر مصدر لزيت عباد الشمس.

روسيا قررت زيادة الدعم إلى 300 مليار في سنة 2022، وبزيادة أكبر ليبلغ 377 مليار روبل بحلول عام 2024

سألت صديقاً أوكرانياً يعمل في مجال البحوث الزراعية، وهو دبلوماسي سابق يتحدث اللغة العربية ويستثمر في المجال الزراعي، عن حجم الدعم الذي تقدمه الحكومة الأوكرانية لمزارعي القمح، فقال إن أوكرانيا تقدم دعماً مباشراً لمزارعي القمح في حدود 80 بالمائة من تكلفة الإنتاج. وهو ما يشجع المزارعين على زيادة الإنتاج، حتى أصبحت أوكرانيا خامس أكبر مصدر للقمح في العالم ولقبت بسلة غذاء أوروبا. 

الهند، التي سعت مصر لشراء القمح منها بعد أزمة أوكرانيا، تقدم حداً أدنى لسعر الدعم للمزارعين وتلتزم قبل الزراعة بشراء المحصول بسعر سخي يحقق ربحاً وفيراً لهم، ولولا السعر التحفيزي لظلت الهند تتسول القمح وتفقد الملايين من مواطنيها في مجاعات مأساوية متكررة. 

وهذا العام رفعت مؤسسة الغذاء في الهند، الحكومية، سعر الدعم إلى 2015 روبية للقنطار، وزن 100 كيلوغرام، ما يشكل ضعف تكلفة الإنتاج وهي 1008 روبية للقنطار. وعندما ارتفع السعر العالمي للقمح بعد أزمة أوكرانيا، لم تعترض الحكومة على تفضيل المزارعين البيع للتجار بسعر 2700 روبية للقنطار. 

إفقار عربي متعمد 

منذ أن توقفت إمدادات القمح من روسيا وأوكرانيا بسبب الحرب، وحكومات الدول العربية تعيش هلعاً أمنياً أكثر من أيّ حكومة أخرى حول العالم، بسبب اعتمادها على الدولتين بصفة أساسية في تأمين 60 بالمائة من احتياجاتها من القمح، البالغة 38 مليون طن، إذ تستورد اثنين من كلّ ثلاثة أرغفة خبز يستهلكها المواطن العربي من روسيا وأوكرانيا، والتي أصبحت في قبضة الرئيس فلاديمير بوتين. 

وفشلت محاولات الرئيس الأميركي في إقناع رئيس وزراء الهند، ناريندرا مودي، لتصدير القمح لمصر ولبنان والجزائر وتراجعه عن قرار وقف تصدير القمح. وكذلك تراجعت فرنسا والاتحاد الأوروبي ودول السبع عن توفير القمح، بسبب موجات جفاف غير مسبوقة تسببت في تراجع الإنتاج. 

وبحلول موسم حصاد القمح في المنطقة العربية في إبريل الماضي، رأت حكومات مصر والجزائر وتونس والعراق وسورية والمغرب والسودان في القمح المحلي فرصة لشراء القمح من المزارعين العرب.

وأعلنت عن زيادات قالت إنها غير مسبوقة في سعر القمح المحلي، تحفيزا وتشجيعا وتنفيذا لتوجيهات القيادة الحكيمة لتحقيق الأمن الغذائي للمواطن السيد في الوطن السيد، ودعماً للمنتج المحلي، بفتح التاء أو كسرها ليس مهماً، المهم أن تضع الحكومة يدها على القمح من المزارعين حتى تمر الأزمة وتتجنب الثورات الشعبية. 

بحلول موسم حصاد القمح، رأت حكومات مصر والجزائر وتونس والعراق وسورية والمغرب والسودان في القمح المحلي فرصة للشراء

ولنتعرف على الأسعار المحفزة التي وضعتها الحكومات لشراء القمح من المزارعين العرب في ظلّ الأزمة العالمية، سنكتفي بثلاثة أمثلة فقط للدلالة على مرارة الأزمة التي يعيشها مزارع القمح العربي بسبب سياسات الحكومات غير الرشيدة. 

الجزائر

في الجزائر، أعلنت الرئاسة عن زيادة سعر القمح الصلد، المخصص لصناعة المعكرونة وخبز القالب، من المزارعين بنسبة 33 بالمائة، وسعر القمح اللين، المخصص لصناعة الخبز المسطح، بنسبة 43 بالمائة، لتشجيع المزارعين على زيادة الإنتاج وتحقيق الأمن الغذائي إلى آخره من الباجة المحفوظة. 

وجاء في البيان الرئاسي أن الحكومة رفعت سعر شراء القمح الصلد، إلى 6 آلاف دينار، ما يعادل 43 دولارا للقنطار، وزن 100 كيلوغرام. ورفعت سعر شراء القمح اللين المحلي إلى 5000 دينار، 35.9 دولاراً للقنطار. أي أن الحكومة سوف تشتري القمح الصلد من المزارع بما يعادل 431 دولاراً للطن، والقمح اللين بسعر 359 دولاراً للطن. 

بعد القرار، اشترى الديوان الجزائري للحبوب، الجهة الحكومية المنوطة بشراء القمح، شحنة من القمح اللين الأوروبي. ولأن الحكومة لا تعلن عن سعر شراء القمح الأجنبي من تلقاء نفسها باعتباره سرا يمس الأمن القومي كما تقول، اعتادت وكالة رويترز الحصول على معلومات السعر كسبق صحافي من تجار القمح الأوروبيين، الذين قالوا إن الشحنة بسعر 485 دولاراً للطن.

وبذلك اشترت الحكومة الجزائرية القمح من المزارع الأوروبي بزيادة 126 دولاراً في الطن عن السعر الذي فرضته لمزارعي القمح اللين الجزائري! 

وفي مناقصة أخرى، اشترى الديوان 250 ألف طن من القمح الصلد الأجنبي. وكالعادة، كشفت "رويترز" من التجار الأوروبيين أن سعر الطن 570 دولاراً، ما يمثل زيادة 139 دولاراً في الطن عن سعر القمح الصلد المحلي.

من هنا ندرك سبب عزوف المزارع الجزائري عن زراعة القمح، وانخفاض نسبة الاكتفاء الذاتي إلى 30 بالمائة، فأصبحت الجزائر خامس أكبر مستورد للقمح في العالم. 

تونس

في تونس، أيقونة الربيع العربي، أعلنت رئاسة الحكومة مؤخراً عن شراء القمح المحلي بأسعار تفضيلية، وزيادة سعر قنطار القمح الصلد المحلي وزن 100 كيلوغرام إلى 130 ديناراً، 42 دولارا للقنطار، زيادة 49.5 بالمائة عن سعر العام الماضي. وكذلك زيادة سعر القمح اللين المحلي إلى 100 دينار، 32.7 دولارا، بزيادة 49.3 بالمائة، وذلك لدعم مزارعي تونس وزيادة الإنتاج وتحقيق الأمن الغذائي وبقية الأسطوانة إياها. 

لم يجف مداد البيان الرسمي، حتى اشترى ديوان الحبوب الحكومي شحنة من القمح اللين الأوروبي. وكالعادة، قالت رويترز عن تجار أوروبيين إن سعر الطن 491 دولاراً، يعني بزيادة قدرها 164 دولاراً عن سعر القمح المحلي. ثم اشترى الديوان شحنة من القمح الصلد. وقالت "رويترز" أيضاً عن التجار الأوروبيين إنّ سعر الطن 634 دولاراً. يعني بزيادة قدرها 214 دولاراً في الطن عن سعر القمح المحلي. إنه سبب عزوف المزارع التونسي عن زراعة القمح، وانخفاض نسبة الاكتفاء الذاتي إلى 30 بالمائة، والاعتماد على الاستيراد بنسبة 70 بالمائة. 

مصر

في مصر، أعلن مجلس الوزراء عن زيادة سعر شراء أردب القمح، وزن 150 كيلوغراماً، من الفلاحين، بنسبة 21 بالمائة ليصل إلى 885 جنيهاً، ما يعادل 5900 جنيه للطن، 321 دولاراً. وقال إن الهدف من الزيادة هو دعم الفلاحين وزيادة الإنتاج المحلي وتحقيق الأمن الغذائي، إلى آخره. 

في التوقيت نفسه اشترت الهيئة العامة للسلع التموينية، الحكومية، شحنة قمح من فرنسا بسعر 466 دولاراً للطن، ما يعادل 8600 جنيه، وبزيادة قدرها 2700 جنيه (174 دولاراً) في الطن الواحد عن سعر القمح المصري.

من هنا ندرك أيضا كيف أصبحت مصر أكبر مستورد للقمح في العالم، بمعدل 13 مليون طن، ولماذا يعزف الفلاح عن زراعة القمح ويفضل البرسيم بسبب قرارات حكومة قام شعبها بثورة عليها شعارها العيش.

بخس الحكومات العربية أسعار القمح المحلي والاعتماد على استيراد القمح هو دعم مباشر للمزارع الأجنبي، ومن جيب المواطن

بخس الحكومات العربية أسعار القمح المحلي والاعتماد على استيراد القمح هو دعم مباشر للمزارع الأجنبي، ومن جيب المواطن العربي، وهو سبب رئيس لعزوف المزارعين العرب عن زراعة القمح كمحصول استراتيجي، ونقص الإنتاج الذي يسبب أزمات سياسية وثورات شعبية.

ولو أنها قدمت أسعارا عادلة للمزارعين العرب لكفت نفسها مذلة الاقتراض بالدولار لشراء القمح، ولأسست للاكتفاء الذاتي من السلعة الاستراتيجية التي تهدد استقرارها السياسي قبل رفاهية الشعوب. 

المساهمون