الجفاف يضرب أنهار سورية والثروة السمكية مهدّدة

15 أكتوبر 2025   |  آخر تحديث: 15:12 (توقيت القدس)
مجرى نهر العاصي الجاف، إدلب، سورية، 4 أغسطس 2025 (عمر حاج قدور/ فرانس برس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- تراجع الثروة السمكية في ريفي حماة وإدلب بسبب الجفاف والصيد الجائر، مما أدى إلى بطالة وفقر بين الصيادين، كما يصف علي المصري تأثير تقلص المياه والتلوث على مهنة الصيد.
- مربو الأسماك في سهل الغاب يواجهون صعوبات بسبب شح المياه وارتفاع تكاليف الإنتاج، مما يهدد بانقراض المهنة، وفقاً لمربي الأسماك محمود رجب.
- الخبير البيئي فادي الأحمد يدعو إلى استراتيجية إنقاذ مستدامة تشمل دعم المزارع السمكية، تشجيع أنظمة تربية مغلقة، وتفعيل قوانين ضد الصيد الجائر للحفاظ على الثروة السمكية.

على ضفاف نهر العاصي في ريفي حماة وإدلب، تتكدس قوارب الصيادين القديمة كأنها شاهد صامت على زمن كانت فيه المنطقة الممتدة حتى سهل الغاب من أغنى مصادر الثروة السمكية في سورية، حيث كانت المياه الوفيرة والبيئة الطبيعية الخصبة توفر آلاف الأطنان من الأسماك سنويا، وكانت صيحات الصيادين فجر كل يوم مشهدا مألوفا لعقود. اليوم تغير المشهد جذريا: المراكب أصبحت قليلة، والمياه انحسرت، والأسماك باتت نادرة. وبين الجفاف الذي ضرب منابع الأنهار والصيد الجائر الذي استنزف البحيرات، تتراجع الثروة السمكية في سورية بوتيرة مقلقة، تاركة آلاف الصيادين في مواجهة البطالة والفقر.

يقول علي المصري، وهو صياد من جسر الشغور بريف إدلب الغربي، إن مهنة الصيد من النهر، التي كانت مصدر رزق كريم لعائلته على مدى عقود، تحولت في السنوات الأخيرة إلى عبء لا يدر ما يسد الرمق. ويضيف لـ"العربي الجديد" أن الأوضاع في نهر العاصي تغيرت جذريا، إذ تقلصت كميات المياه بشكل غير مسبوق، حتى بات النهر في كثير من مناطقه ضحلا بالكاد تبحر فيه القوارب الصغيرة، لافتا إلي أن الصيادين يخرجون لساعات طويلة دون أن يجنوا صيدا وفيرا كما في السابق، والشباك التي كانت تمتلئ بأسماك الكارب والمشط والجري والرومي باتت بالكاد تلتقط بضع سمكات صغيرة لا تساوي جهد يوم كامل.

ويتابع المصري أن "الجفاف ليس وحده السبب، فالتلوث المنتشر على مجرى النهر فاقم تدهور الوضع البيئي، إذ تصب مياه الصرف الصحي ومخلفات المصانع مباشرة في النهر من دون أي معالجة، ما أثر في صحة الأسماك وجودتها، فأصبحت ضعيفة وهزيلة، وبعضها يموت في الماء قبل أن يصاد. ويؤكد أن تراجع الإنتاج السمكي انعكس مباشرة على حياة الصيادين المحليين الذين وجدوا أنفسهم عاجزين عن تأمين لقمة العيش، ما دفع الكثير منهم لترك المهنة نهائيا أو اللجوء إلى أعمال شاقة بأجور زهيدة، فيما يحاول هو وبعض زملائه التمسك بمهنة ورثوها عن آبائهم رغم الصعوبات.

ضربة قاصمة

في سهل الغاب، أحد أهم مناطق تربية الأسماك في سورية، تتكرر المعاناة بشكل مختلف. يقول محمود رجب، وهو مربي أسماك من أبناء المنطقة يمارس المهنة منذ أكثر من عشرين عاما، إن موجات الجفاف المتلاحقة خلال السنوات الأخيرة شكلت ضربة قاصمة للقطاع الذي كان يوما من أبرز مصادر الدخل في الريف الشمالي الغربي لحماة. ويوضح لـ"العربي الجديد" أن الوضع تغير كليا منذ عام 2010، إذ كانت المزارع السمكية آنذاك تنتج كميات كبيرة تغطي السوق المحلية وتصدر إلى المحافظات المجاورة. كنت أمتلك أربعة أحواض تعمل بكامل طاقتها، وكان إنتاج كل حوض يبلغ نحو طنين في الموسم الواحد، أما اليوم فلا أستطيع تشغيل سوى حوض واحد بالكاد، نتيجة شح المياه وارتفاع تكاليف الإنتاج.

ويشير رجب إلى أن مصادر المياه التي كانت تغذي المزارع بدأت تتناقص تدريجيا بعدما جفت معظم الينابيع الجوفية التي يعتمد عليها المربون، ما اضطرهم للاعتماد على ضخ المياه بالمضخات التي تعمل بالمازوت، الأمر الذي ضاعف التكاليف بشكل كبير، حتى أصبح سعر المازوت أغلى من قيمة إنتاج السمك نفسه، على حد قوله، معتبرا أن استمرار الوضع الحالي سيقود إلى اندثار المهنة خلال فترة قصيرة ما لم تتخذ إجراءات عاجلة لتأمين مصادر مياه بديلة ودعم فعلي للمربين.

أساليب صيد مدمرة

من جهته، يرى الخبير البيئي فادي الأحمد أن تراجع الثروة السمكية العذبة في سورية ليس حدثا طارئا بل نتيجة تراكم طويل لعوامل مناخية وبشرية متشابكة. ويقول لـ"العربي الجديد" إن الجفاف الحاد وتراجع منسوب الأنهار والبحيرات خلال السنوات الأخيرة كان لهما الأثر الأكبر على البيئة المائية، إذ انخفضت مستويات المياه في بعض السدود والبحيرات أكثر من 60%، ما أدى إلى تقلص الموائل الطبيعية للأسماك واضطراب دورة تكاثرها وهجرتها الموسمية.

ويضيف الأحمد أن الأنظمة البيئية المائية في سورية باتت مهددة بالانهيار نتيجة تزايد الضغط البشري وغياب الرقابة، موضحا أن كثيرا من الصيادين يستخدمون أساليب صيد مدمرة كالصيد بالديناميت أو الكهرباء، إضافة إلى الشباك الدقيقة التي لا تسمح للأسماك الصغيرة بالنمو، ما يؤدي إلى استنزاف المخزون بسرعة. ويحذر من أن الضرر لا يقتصر على الأسماك وحدها، بل يمتد إلى الكائنات المائية الأخرى وإلى توازن النظام البيئي بأكمله. ويؤكد الأحمد أن غياب خطة وطنية متكاملة لإدارة الموارد المائية وحماية الثروة السمكية يزيد من تعقيد الأزمة، إذ إن القوانين الحالية قديمة وغير مطبقة فعليا، كما أن ضعف التنسيق بين الجهات البيئية والزراعية يعرقل أي جهد منظم لحماية المسطحات المائية.

ويشدد الخبير على ضرورة التحرك العاجل لوضع استراتيجية إنقاذ مستدامة، تشمل حصر المزارع السمكية المتبقية في مناطق الغاب والعاصي والفرات ودعمها فنيا ولوجستيا، وتشجيع أنظمة تربية الأسماك المغلقة التي تعتمد على تدوير المياه ومعالجتها لتقليل الفاقد، إلى جانب إطلاق برامج وطنية لإكثار الأسماك في المفاقس الحكومية وإعادة إطلاقها في البحيرات والأنهار لإحياء التنوع الحيوي، وتفعيل القوانين الرادعة ضد الصيد الجائر ومراقبة بيع الأسماك الصغيرة، فضلا عن حملات توعية موجهة للصيادين حول ممارسات الصيد المستدام. ويختم الأحمد بالقول إن هذه الخطوات، رغم صعوبتها في ظل الظروف الاقتصادية الراهنة، تبقى أقل كلفة بكثير من خسارة الثروة السمكية بالكامل، فالحفاظ على المياه والأنواع الحية ليس ترفا بيئيا، بل قضية أمن غذائي ومعيشي تمس مئات آلاف الأسر السورية.

المساهمون