التضخم الأميركي باقٍ لبعض الوقت

التضخم الأميركي باقٍ لبعض الوقت

12 يناير 2022
جيروم باول رئيس مجلس الاحتياط الفدرالي يتجه للإدلاء بإفادته أمام مجلس الشيوخ (Getty)
+ الخط -

على الرغم من التطمينات المتكررة الصادرة من رئيس بنك الاحتياط الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي) للمستثمرين، وللمواطنين بصفة عامة، من اقتراب التضخم الأميركي من أعلى مستوياته، في الطريق للعودة إلى مستوياته الطبيعة، تحت اثنين بالمائة التي لطالما استهدفها قادة البنك الفيدرالي، لا يشعر المستهلك بالثقة بما يسمع، خاصة مع رؤيته الكثير من السلع تختفي من المتاجر الكبرى في أميركا، ولا توجد في أي مكان آخر إلا بسعر مضاعف.

وتتعدد مظاهر التضخم التي يلمسها الأميركيون، بداية من سعر وقود السيارات الذي لم يتوقف عن الارتفاع، رغم انخفاض سعر برميل النفط عالمياً أغلب فترات الربع الأخير من العام المنتهي، وتجاوز ارتفاعه خلال العام الأخير نسبة 40%.

ومروراً بالأرفف الخالية من كراتين المياه الكبيرة منخفضة التكلفة وعرض الكراتين ذات الوحدات الأقل بدلاً منها، والتي تصل تكلفة الزجاجة الواحدة منها إلى ضعف تكلفتها في الكراتين الأكبر.

ووصولاً إلى الرسائل التي تصل على هواتف وأجهزة الحاسب الآلي التي يمتلكها أصحاب السيارات، بصورة متكررة، وبعروض تزداد سخاء في كل مرة لشراء سياراتهم المستعملة، من شركات ومعارض سيارات تعرض المبلغ "نقداً وفي الحال".

وتعرضت الولايات المتحدة لثلاث فترات من التضخم المرتفع في تاريخها في المائة سنة الأخيرة قبل الفترة الحالية، كانت الأولى والثانية بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، ثم كانت الثالثة خلال الفترة بين عامي 1965 – 1982، والتي شهدت السنوات الأخيرة من حرب فيتنام، ومنع العرب تصدير النفط للدول المساندة لإسرائيل في حرب 1973، ثم الثورة الإيرانية.

ومع اختلاف ظروف كل فترة، يمكن لمتابع الأحداث الحالية وتصريحات مسؤولي البنك الفيدرالي ملاحظة وجود بعض التشابه بين الأدوات المتاحة أمام البنك الفيدرالي للخروج من الأزمة في الوقت الحالي وما استخدمه بول فولكر، الذي تم تعيينه رئيساً للبنك الفيدرالي عام 1979، ولعب الدور الأكبر في إخراج البلاد من الأزمة بعدها بسنوات قليلة.
وفي حين كانت الأدوات المتاحة أمام فولكر قبل أكثر من أربعة عقود تقتصر على تقييد السيولة المتاحة في الأسواق، ورفع معدل الفائدة المعياري على أموال البنك الفيدرالي، تمتلئ جعبة البنك الفيدرالي، بعد تراكم خبرات التعامل مع الأزمات الأخيرة، بالعديد من الاختيارات الأخرى إن احتاج الأمر.
ومع ذلك، يرى البعض أن هذه الأدوات لن تكون ميسرة لسرعة الخروج من أزمة التضخم المرتفع بسلام، فالأمر يبدو مختلفاً هذه المرة، أو كما يقول الأميركيون (This time it is different).
نجح فولكر في إخراج أميركا من التضخم أوائل الثمانينيات، بعد أن ارتفع معدل البطالة لأكثر من 10%، ورفع معدلات الفائدة إلى 20%، ولم تكن هناك مشكلة في سلاسل التوريد، واستقرت أو انخفضت معدلات الأجور.

التضخم الحالي تلعب الدور الأكبر في وجوده اضطرابات سلاسل الإمداد التي أصبحت الولايات المتحدة تعتمد عليها بصورة كبيرة

أما التضخم الحالي، فتلعب الدور الأكبر في وجوده اضطرابات سلاسل الإمداد التي أصبحت الولايات المتحدة تعتمد عليها بصورة كبيرة، حتى في تصنيع العديد من المنتجات الأميركية، بعد أن أصبح معتاداً أن يتم إرسال السلع الوسيطة للتجميع في بلاد تنخفض فيها تكلفة الأيدي العاملة، مثل المكسيك والصين وفيتنام.

ومن ناحية أخرى، أظهرت البيانات الصادرة عن وزارة العمل الأميركية يوم الجمعة الماضي، انخفاض معدل البطالة إلى ما دون 4%، أي عند المنطقة التي يعتبرها الاقتصاديون مستوى التشغيل الكامل، الذي لا يستطيع أي اقتصاد أن يتجاوزه إلا قليلاً.

وأصبحت علامات ارتفاع نسب التوظيف ظاهرة في الحياة اليومية في الولايات المتحدة، حيث انتشرت اللافتات المعلقة على أبواب المحال التجارية التي تعتذر للمشترين بسبب اضطرارها لإغلاق أبوابها لعدم وجود العدد الكافي للموظفين، أو التي تعرض مبالغ تصل إلى 500 دولار مكافأة عند توقيع عقد العمل لمن يلتحق بأي من الوظائف الشاغرة في المكان.

وقالت وزارة العمل الأميركية إن متوسط أجر الساعة ارتفع خلال شهر ديسمبر/ كانون الأول بنسبة 0.6% مقارنة بالشهر السابق، وأظهرت بيانات أخرى ارتفاع أجر الساعة في القطاع الخاص مقارنة بالعام الماضي بنسبة 9.9%، وهو ما يتجاوز – حتى الآن – معدل التضخم الذي سجل 6.8% في آخر شهر تم إعلان أرقامه عند كتابة هذه السطور.

سيكون مستبعداً أن يرضخ التضخم لمجرد رفع معدلات الفائدة 4 مرات، بإجمالي لا يتجاوز 1%، حتى وإن كان ذلك مصحوباً بتقليص أو إيقاف مشترياته من السندات

في هذه الظروف، سيكون مستبعداً أن يرضخ التضخم لمجرد رفع معدلات الفائدة ثلاث أو أربع مرات، بإجمالي لا يتجاوز واحد بالمائة، حتى وإن كان ذلك مصحوباً بتقليص أو إيقاف مشترياته من سوق السندات.

وكما كان البنك الفيدرالي مندفعاً عند استشعاره أزمة انتشار الفيروس في الأراضي الأميركية، وما يمكن أن تتسبب فيه من أزمات في الأسواق، فانطلق مستخدماً ما أطلق عليه "بازوكا"، تيمناً بالمدفع المضاد للدبابات الذي استخدمه جنود الولايات المتحدة على نطاق واسع خلال الحرب العالمية الثانية، لا يبدو أن سلاحاً آخر يمكنه التعامل مع التضخم "المفترس" الذي يجثم على الأراضي الأميركية في الوقت الحالي، مسبباً الصداع لكل اقتصادات العالم وبنوكه المركزية.

أدرك البنك الفيدرالي حقيقة قوة التضخم الحالي، فأضاف لتقليص المشتريات ورفع الفائدة خطوة جديدة، تتمثل في إجراء تخفيض كبير لما في ميزانيته من سندات الخزانة، التي تتجاوز قيمتها حالياً 8.5 تريليونات دولار، وهو ما اعتبره الاقتصاديون السلاح المطلوب لقتل التضخم، مع ملاحظة الآثار السلبية المتوقعة على أسعار الأسهم، ليشهد النصف الأول من العام الجديد مدّاً جديداً للموجة التصحيحية التي شهدها العديد من الأسهم الأميركية، وإن توقع أغلب المحللين عدم تجاوزها نسبة عشرة بالمائة من المستويات الحالية.

ربما يكون المحللون على صواب، وتتماسك الأسهم سريعاً رغم قوة السياسات التقييدية، إلا أن الموعد المتوقع أن تتراجع فيه الموجة التضخمية الحالية وفقاً لكلمات مسؤولي البنك الفيدرالي يبقى شديد التفاؤل، خاصة وأن سعر برميل النفط من خام أوبك يدور حالياً حول الثمانين دولاراً. فماذا عساه يكون الحال لو تجاوز سعره مائة دولار قبل حلول فصل الصيف كما يتوقع البعض؟