الاقتصاد المصري في تقرير غولدمان ساكس

الاقتصاد المصري في تقرير غولدمان ساكس

09 فبراير 2022
أزمات في الخبز وغلاء الأسعار يرهق المواطن المصري (getty)
+ الخط -

استعرضت في المقال السابق الأسباب التي قال بنك الاستثمار غولدمان ساكس الاستثماري الأميركي إنها دفعته إلى "عدم توقع حدوث انخفاض ملحوظ في قيمة الجنيه المصري هذا العام"، مع توجه مجلس الاحتياط الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي) لرفع معدلات الفائدة على الدولار.

وعرضت، من وجهة نظري بالتأكيد، ما أوضَحَته أسبابُ البنك الأميركي من ترجيحه حدوث انخفاض في قيمة العملة المصرية بنسبة 15%، اعتبرها البنك منخفضة للغاية، ورؤيته أن تخفيض قيمة الجنيه ستكون له كُلفة كبيرة على الاقتصاد المصري، وعلى موقف المستثمرين المحليين والأجانب من الدولرة، وتحول المدخرين من العملة المحلية إلى الدولار، رغم محدودية تأثيره الإيجابي على الحساب الجاري المصري، ثم دَفْع البنك بوجود "احتياطيات نقد أجنبي قوية" يمكن من خلالها الدفاع عن الجنيه لفترة أخرى، بالإضافة إلى توقعه تحسن "ميزان الضغوطات" على الجنيه خلال الفترة القادمة.
وبالإضافة إلى توضيح أن فقدان الجنيه 15% من قيمته يعني تجاوز سعر الدولار 18 جنيها، وإشارتنا إلى أن هذا الانخفاض كفيل بالإطاحة بكل عوائد السندات التي يحصل عليها مستثمرو أدوات الدين بالجنيه المصري في عام كامل، كانت بقية الأسباب التي ذكرها البنك تدعو، على عكس رؤية البنك، إلى ضرورة التعجيل بإجراء خفض تدريجي للعملة المصرية، وليس تعويما كاملا على غرار ما حدث في نوفمبر/ تشرين الثاني 2016، قبل أن يتحول سعرها غير الحقيقي إلى معوق رئيسي للسياسات النقدية، وكارثة تتفاقم آثارها المتوقعة بمرور الوقت، وخاصة أنه على عكس رؤية البنك أيضاً، فإن ميزان الضغوطات على العملة المصرية مرشح للتدهور مع رفع الفائدة في أميركا، كما هو الحال مع عملات الأسواق الناشئة والنامية.

موقف
التحديثات الحية

ذلك في ما يخص تفنيد الأسباب، لكن الحقيقة أن تقرير البنك الاستثماري الأميركي حمل العديد من الإشارات السلبية للجنيه المصري، مثل وجود العديد من الاختلالات الخارجية في مصر، ويقصد بها الميزان التجاري والحساب الجاري، من النوع الذي لا يمكن استمراره، كونه يضع مصر تحت رحمة السياحة وتحويلات العاملين بالخارج، وكلاهما لا يمكن ضمانهما في الظروف الحالية، لتجد مصر نفسها مضطرة للاعتماد على الاقتراض قصير الأجل من الخارج.

ومن ثم الإبقاء على معدلات الفائدة المرتفعة، بما لها من تأثيرات سلبية على معدلات الاستثمار والنمو والمالية العامة للبلاد. وأكد التقرير على ضرورة إجراء مصر إصلاحات هيكلية للتعامل مع تلك الاختلالات.
أكد التقرير أيضاً ضعف البنية التصديرية المصرية بسبب ضعف مناخ الأعمال المثقل بتدخلات الدولة/ الجيش بصورة مبالغ بها، وهو ما يحد من تكافؤ الفرص ويدعم البيروقراطية، مشيراً إلى أن التطبيق التعسفي للقوانين واللوائح، كما عدم القدرة على إنفاذ العقود، يضعان الكثير من العوائق أمام نمو القطاع الخاص وزيادة إنفاقه الاستثماري.
وأكد التقرير أيضاً أن فشل الحكومة المصرية في التعامل مع هذه الاختلالات يزيد من المخاطر التي تتعرض لها العملة المصرية على المديين المتوسط والطويل، مع افتراض استمرار الدعم الخليجي وتجديد ودائع السعودية والإمارات في المدى القصير، لأن هناك حدودا لما يمكن الاعتماد عليه من استثمارات الأجانب في أدوات الدين.

لا يختلف اثنان على توقع خروج بعض الاستثمارات الأجنبية من أدوات الدين بالعملة المحلية مع رفع معدلات الفائدة في أميركا، وتزيد الظروف التي أبرزها التقرير الصادر عن بنك استثمار له وزنه في السوق العالمية من التأثيرات السلبية التي يمكن توقعها على العملة المصرية، وبالتالي على معدل التضخم في بلد يرقد ثلث سكانه المائة وعشرة ملايين تقريباً تحت خط الفقر، حتى أن مجلة إيكونوميست البريطانية وصفت الاقتصاد المصري بأنه ثالث أكثر الاقتصادات في العالم عرضة لمخاطر رفع الفائدة في أميركا، إلا أن هذا لا يعني أن البلد يسير نحو انهيار تام لا يمكن الفرار منه.
يحظى النظام المصري الحالي بدعم قوي من العديد من القوى الإقليمية التي هي مستعدة لبذل الغالي والنفيس لإبقائه على قيد الحياة، وهو ما تزداد علاماته وضوحاً كلما لاحت للبصر الأمواج العالية على الاقتصاد المصري، فيحتمي تارة بمظلته الخليجية ويزيد من الاقتراض، وتارة أخرى يبخل بغطائه على مواطنيه فيفرض الضرائب، فقط ليتمكن من عبور العام المالي، قبل أن تتلاحق الأمواج عليه في العام التالي، وهكذا في تكرار لا يمكن أن يتصور أحد دوامه، إلا بمزيد من التنازل عن أصول مصرية قيمة، يحصل بها الأصدقاء في الخليج على ما يجعلهم لا يتوقفون عن إقراض مصر، وتساعدهم على ذلك أسعار نفط مستمرة في الارتفاع منذ ما يقرب من عشرين شهرا.
سيستجيب البنك المركزي المصري لأول زيادة للفائدة في واشنطن برفع الفائدة في القاهرة لمنع الأموال الساخنة من الخروج، وربما يسمح بانخفاض تدريجي لسعر العملة المصرية، إلا أنه سيعمل جاهداً لعدم خسارتها أكثر من 10% كل عام، تمثل الفارق حالياً، وعلى الأرجح حتى نهاية 2023، بين معدل الفائدة على كل من الجنيه والدولار. فإذا اشتكى المواطن المصري من تراجع قيمة عملته بعشرة بالمائة، يكون الرد بأنه يحصل على فائدة تعوض تلك الخسارة، فينتفي وقتها، من وجهة نظر الحكومة والبنك المركزي المصريين، أي سبب للدولرة.

ينجح هذا الأسلوب لبعض الوقت، لكنه لا ينجح كل الوقت طالما لا توجد خطط للعلاج الجذري، وأقصد به علاج الاختلال في الميزان التجاري والحساب الجاري، بما يضمن توفير بعض الحماية للعملة المصرية، ويجنبها اللجوء لمزيد من الاقتراض.

الهدف الأساسي لأي نظام سياسي، وما يقدمه من برامج لإدارة الاقتصاد، يفترض أن يكون تحسين مستوى معيشة المواطنين، من خلال تحسين القدرة الشرائية لما بين يديهم من أموال، عن طريق خطوتين، الأولى زيادة الناتج المحلي للبلاد ليزيد نصيب الفرد منه، وثانيهما الحفاظ على قيمة العملة المحلية، أو زيادتها، أمام الدولار، لتحسين قدرتها الشرائية. لمثل هذا فليعمل العاملون في الحكومة المصرية، وبغير هذا فعليهم أن يتوقفوا عن الإشارة إلى أوهام نجاح برامج الإصلاح الاقتصادي.

المساهمون