الاقتصاد أسقط حكومة بايرو... الديون تكبل فرنسا والعجز يبتلع خطط الإصلاح
استمع إلى الملخص
- تعاني فرنسا من عجز مالي كبير بلغ 5.8% من الناتج المحلي الإجمالي في 2024، مع دين عام تجاوز 3.3 تريليونات يورو، مما يعكس مسارًا مقلقًا بدأ منذ مطلع الألفية.
- تواجه الحكومة الجديدة ضغوطًا لمعالجة العجز المالي وسط برلمان منقسم ومعارضة قوية، مع توقعات باستمرار عدم اليقين السياسي حتى 2027.
لم يكن سقوط حكومة فرانسوا بايرو مجرد حدث سياسي عابر في تاريخ الجمهورية الفرنسية الخامسة، بل هو انعكاس مباشر لمسار مالي واقتصادي طويل قاد فرنسا إلى وضع هش. ففي يوم الاثنين الثامن من سبتمبر/ أيلول 2025 خسر بايرو تصويت الثقة في البرلمان بهامش كبير بلغ 364 صوتا ضد الحكومة مقابل 194 مؤيدا، ليصبح ثالث رئيس وزراء يطيح به ملف الميزانية في أقل من عامين. لكن الذي مهد لذلك هو اقتصاد متضخم بالديون، وعجز يبتلع كل خطط ومحاولات الإصلاح، وأسواق بدأت تفقد ثقتها تدريجيا، ومواطن يئن من الغلاء والتضخم.
وفي قراءة لهذا المشهد المعقد سياسيا واقتصاديا، أوضح رئيس أبحاث الاقتصاد الكلي في بيكتيت ويلث مانجمنت فريدريك دوكروزيه أن الأزمة الفرنسية دخلت مرحلة جديدة، قائلا: "لا يوجد سيناريو متفائل، لا يوجد مخرج فعلي، ولا يوجد أي سيناريو موثوق يمكن أن يحقق مستوى الضبط المالي نفسه"، بحسب رويترز. وهو ما يعني أن خطة التقشف التي حاول بايرو تمريرها لم تعد قابلة للحياة في ظل الانقسام السياسي، وأن البدائل المتاحة أمام الحكومة المقبلة لن تكون سوى حلول جزئية ترحّل المشكلة بدل حلها.
وأعلن مكتب الرئيس إيمانويل ماكرون أنه سيعين رئيس وزراء جديد خلال أيام، ليكون الخامس في أقل من عامين، رافضا دعوات المعارضة إلى حل البرلمان أو الاستقالة. وتتمثل أولى مهام الحكومة المقبلة في تمرير ميزانية 2026، وهو التحدي نفسه الذي واجهه بايرو عند توليه المنصب قبل تسعة أشهر، وسط برلمان منقسم بشدة يجعل الحصول على الدعم مهمة شاقة. كما يعني أن اختيار شخصية توافقية قادرة على تمرير الميزانية يبدو مهمة شبه مستحيلة، في وقت تتربص فيه المعارضة اليمينية واليسارية بفرصة لفرض أجندتها، بينما يدعو اليمين المتطرف بزعامة مارين لوبان واليسار الراديكالي بقيادة جان لوك ميلونشون لانتخابات جديدة أو حتى استقالة ماكرون نفسه.
الأرقام القاتلة
منذ شهور، كانت الأرقام الاقتصادية هي العدو الأول لحكومة بايرو. فبحسب بيانات المفوضية الأوروبية ويوروستات، بلغ العجز في الموازنة الفرنسية 5.8% من الناتج المحلي الإجمالي في 2024، وهو الأعلى في منطقة اليورو التي لا يتجاوز متوسطها 3.1%. وتشير التوقعات الرسمية إلى أن العجز سيبقى عند 5.4% في 2025، في وقت تعهّدت فيه باريس بتقليصه تدريجيًا إلى أقل من 3% بحلول نهاية العقد. لكن الخطط الموضوعة بدت غير قابلة للتنفيذ سياسيًا. أما الدين العام، فقد تجاوز حاجز 3.3 تريليونات يورو، أي أكثر من 114% من الناتج في النصف الأول من 2025، مع اتجاه صاعد يتوقع أن يصل إلى 117% في 2026 وفق تقديرات صندوق النقد الدولي. والأخطر من ذلك أن كلفة خدمة الدين تتسارع على نحو غير مسبوق، وتحذر محكمة الحسابات الفرنسية من أن مدفوعات فوائد الدين قد تقفز من 59 مليار يورو في 2024 إلى أكثر من 100 مليار يورو في 2029، لتصبح أكبر بند منفرد في الموازنة إذا لم تعالج الاختلالات سريعا.
وفي خطابه الأخير أمام البرلمان قبل التصويت، اعترف بايرو بهذه الحقيقة الصادمة قائلا: "قد تملكون القوة لإسقاط الحكومة، لكنكم لا تملكون القدرة على محو الواقع. الواقع سيظل قاسيا: النفقات ستستمر في الارتفاع، وعبء الدين، الذي أصبح لا يطاق، سيزداد ثقلا وكلفة"، في إشارة إلى أن الأرقام وحدها كفيلة بفرض إصلاحات جذرية، لكن برنامجه لم يحظ بقبول. فقد اقترح حزمة ضبط مالي بقيمة 44 مليار يورو تشمل تخفيضات إنفاق واسعة وضرائب إضافية، إضافة إلى مقترح مثير للجدل بإلغاء عطلتين رسميتين لتقليل كلفة القطاع العام. غير أن هذه الإجراءات وإن بدت ضرورية من منظور مالي، لكنها أشعلت رفضا سياسيا واجتماعيا جعل سقوطه محتوما.
فخ الديون
من موقع القوة الاقتصادية إلى عبء الدين، انتقلت فرنسا خلال ربع قرن في مسار مقلق يعكس هشاشة التوازنات المالية للدولة. ففي مطلع الألفية، كان حجم الدين العام يقف عند حدود 880 مليار يورو فقط، أي ما يعادل قرابة 60% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو مستوى اعتبر آنذاك منسجما مع معايير ماستريخت التي تشترط ألا يتجاوز الدين نسبة 60% من الناتج. غير أن هذا الوضع المريح لم يدم طويلا، إذ سرعان ما تحول المسار التصاعدي للديون إلى سمة ثابتة في المالية العامة الفرنسية، مدفوعا بتراكم الأزمات العالمية والإقليمية التي استنزفت خزينة الدولة. فقد اضطرت باريس إلى ضخ مليارات اليوروهات لإنقاذ مصارفها وشركاتها الكبرى إبان الأزمة المالية العالمية عام 2008، ثم زادت مساهماتها في آليات الإنقاذ الأوروبية لمواجهة أزمة الديون السيادية بين 2010 و2012، قبل أن تأتي جائحة كورونا في 2020 لتفرض إنفاقا استثنائيا تجاوز 200 مليار يورو لدعم الاقتصاد والمجتمع.
وبنتيجة هذا المسار، قفز الدين العام إلى 3.345 تريليونات يورو في منتصف 2025، أي ما يعادل 114.1% من الناتج المحلي الإجمالي، وفق بيانات وزارة المالية الفرنسية، في حين لم يرتفع الناتج المحلي من 1.4 تريليون يورو في عام 2000 سوى إلى 2.9 تريليون يورو في 2025. هذا يعني أن الدين نما بأكثر من ثلاثة أضعاف سرعة الاقتصاد، لتتحول فرنسا من حالة انضباط مالي نسبي إلى نموذج لدولة متقدمة تعاني من دين عام خانق يقيد سياساتها الاقتصادية ويفرض عليها حسابات دقيقة أمام المستثمرين ووكالات التصنيف، بحسب بلومبيرغ.
ضغوط على الحكومة المقبلة
وفي الأسابيع الأخيرة، ارتفعت بشكل لافت الضغوط على كلفة تمويل الدين الفرنسي، لتكشف أن الأزمة لا تتعلق فقط بحجم الدين المتراكم، بل أيضا بالثمن الذي تدفعه الدولة كل مرة تدخل فيها إلى السوق لجمع الأموال. ففي الرابع من سبتمبر/ أيلول الجاري، طرحت وكالة فرانس ترزور سندات سيادية بقيمة 11 مليار يورو، لكنها اضطرت لقبول مستويات فائدة أعلى بكثير من المعتاد، حيث بلغ العائد على السندات لأجل عشر سنوات 3.57% مقابل 3.17% فقط في عملية مشابهة خلال يونيو/ حزيران الماضي. وهذا الفارق البالغ 40 نقطة أساس يترجم مباشرة في ارتفاع فاتورة خدمة الدين، ويعني أن كل إصدار جديد يصبح أكثر كلفة من سابقه، وهو ما ينذر بتآكل تدريجي في قدرة الموازنة على تمويل أولوياتها. ويشير خبراء في أسواق السندات إلى أن هذه الزيادة في العوائد لا تعكس فقط أوضاع السوق العالمية، بل أيضا تراجع ثقة المستثمرين في قدرة فرنسا على ضبط مسارها المالي.
وتضع هذه التطورات الحكومة المقبلة تحت ضغط شديد للبحث عن بدائل عاجلة لمعالجة العجز. وفي مقدمة هذه البدائل يبرز خيار زيادة الضرائب، الذي يقترحه الاشتراكيون عبر خطة لفرض 15 مليار يورو إضافية على أصحاب الثروات الكبرى. غير أن هذا التوجه يثير تحفظات ملحوظة في الأوساط المالية، إذ يخشى أن يضغط على النمو الضعيف أصلا ويضاعف أعباء الدين بدل تخفيفها. وفي هذا السياق، انتقد راسل ماثيوز، مدير المحفظة في "آر بي سي بلو باي أسيت مانجمنت"، الاعتماد على الضرائب أداةً أساسية لتقليص العجز، قائلاً: ""ما نراه بشكل متزايد هو رفض المشاركين في السوق قبول الطريق الضريبي خياراً فعالاً لخفض العجز المالي الكبير. إنه ببساطة أصبح أقل مصداقية".
هدوء الأسواق
وعلى الرغم من أن الأسواق لم تظهر ذعرا فوريا بعد سقوط حكومة بايرو، حيث ارتفعت بورصة باريس يوم التصويت وتراجع هامش الفارق مع السندات الألمانية بشكل طفيف، إلا أن هذا الهدوء الظاهري لا يخفي حقيقة أن المستثمرين يتعاملون مع فرنسا باعتبارها حالة عالية المخاطر نسبيا مقارنة بما كانت عليه قبل سنوات. فبحسب بلومبيرغ، يعتبر كثير من مديري الأصول أن حالة عدم اليقين السياسي ستستمر حتى عام 2027 على الأقل، ما يعني أن الإصلاحات المالية الجوهرية مؤجلة، وأن العجز سيبقى بلا معالجة فعلية.
ويقول كيفن توزيت، عضو لجنة الاستثمار في شركة كارمينياك: "الأسواق تترجم أن احتمال وجود جبهة سياسية موحدة شبه معدوم، وبالتالي فإن مسألة ضبط العجز ستظل مؤجلة، وهو ما يضعف آفاق النمو في المدى المتوسط". ويترقب المستثمرون، يوم الجمعة المقبل، قرار وكالة فيتش بشأن التصنيف الائتماني لفرنسا. ورغم أن التقديرات تميل إلى أن أي خفض سيكون رمزيا أكثر منه عمليا، إلا أن انعكاساته قد تكون ملموسة، خصوصا على بعض الصناديق الاستثمارية العالمية التي تلزمها قواعدها ببيع السندات إذا تراجع التصنيف إلى مستويات معينة.
ومثل هذه الموجة من التخارج، ولو محدودة، قد تدفع العوائد إلى مستويات أعلى، لتدخل فرنسا في حلقة جديدة من ارتفاع الكلفة. وكل زيادة جديدة في العوائد تترجم مباشرة في مليارات إضافية تتحملها الخزينة. ويرى خبراء الاقتصاد في بنك أوف أميركا أن فرنسا لا تواجه خطرا وشيكا للتخلف عن السداد، لكن مسارها المالي يضعها على طريق "التآكل البطيء"، حيث يلتهم الدين مساحة متزايدة من الموازنة، ويقلص القدرة على الاستثمار في النمو أو تحسين الخدمات العامة.