استمع إلى الملخص
- التحديات الاقتصادية واللوجستية: يعاني الاقتصاد السوري من انكماش حاد، مع فقدان الليرة 98% من قيمتها. استعادة إنتاج النفط والغاز تتطلب استثمارات ضخمة، والعقوبات الغربية تعيق جهود إعادة الإعمار.
- التحديات السياسية والاجتماعية: نجاح الاتفاق يعتمد على التعاون بين الأطراف المختلفة، مع تحديات من التدخلات الخارجية. يتطلب تحقيق التنمية المستدامة توزيع عادل للثروات وإصلاحات مؤسسية وحل سياسي شامل.
قليلٌ من السوريين من توقعوا حدوث انفراجة سياسية في ملف "قسد" مع الحكومة السورية الانتقالية، لا شك أن الاتفاق توّج بعد سلسلة من اللقاءات والمحادثات بين الطرفين، لكن في النهاية وقصارى القول إنه أنهى أي حديث عن تقسيم سورية ورسم الخرائط وتلوينها، لتعود سورية كلها خضراء كما يراها أهلها منذ خرجوا في العام 2011 وهتفوا في الشوارع ضد التقسيم مؤكدين على وحدة سورية أرضاً وشعباً.
تلوح في الأفق اليوم فرصة قد تعيد ملامح الاقتصاد السوري المنهك في خضم الدمار الذي خلَّفه أكثر من عقد من الحرب والعقوبات الدوليّة، إذ يشكل الاتفاق المُبرَم بين الطرفين لاستعادة السيطرة على حقول النفط والغاز والمناطق الزراعية في شمال شرقي سورية، منعطفاً جيوسياسياً واقتصادياً قد يُعيد توجيه بوصلة البلاد نحو التعافي خلال العامين القادمين على أقل تقدير، أو على الأقل يُخفف من حِدّة الأزمات.
لكن إلى أي مدى يمكن لهذه الثروات أن تملأ الهوّة العميقة في أزمات الاقتصاد السوري؟
الاقتصاد السوري... محاولة النهوض
قبل الخوض في تأثيرات الاتفاق، لا بد من فهم حجم الكارثة التي يعيشها الاقتصاد السوري اليوم. وفقاً لتقديرات البنك الدولي، انكمش الناتج المحلي الإجمالي لأكثر من 60% منذ عام 2011، وفقدت الليرة السورية 98% من قيمتها، بينما يعيش 90% من السكان تحت خط الفقر. ولا تزال العقوبات الغربية، وعلى رأسها "قانون قيصر"، تحاصر النظام المالي وتحجب سورية عن الدخول إلى المنظومة المالية الدولية، وتعيق أي محاولة لإعادة الإعمار.
ولمّا كانت سورية بحاجة للاعتماد على مواردها لتقليل الاعتماد على الخارج وتخفيف حدة الأزمات، تُمثِّل المناطق الشمالية الشرقية (محافظات دير الزور والحسكة والرقة)، خزاناً استراتيجيّاً لسورية، كان خارج سيطرة الحكومة السورية المؤقتة منذ سقوط النظام في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 2024، ودخل إلى حساباتها مع توقيع الاتفاق مع "قسد" في العاشر من مارس/ آذار 2025. تُنتج هذه المنطقة ما يصل إلى 80% من احتياطيات سورية النفطية، التي تُقدر بـ2.5 مليار برميل، بالإضافة إلى حقول غاز مهمة.
وكان الإنتاج النفطي قد انخفض من 380 ألف برميل يومياً عام 2010 إلى أقل من 80 ألف برميل في اليوم، بحسب تقديرات عام 2023، معظمه يُهرب عبر وسطاء إلى دول مجاورة أو يُستخدم محليّاً.
وتمثل المنطقة أيضاً، وخاصة محافظتي دير الزور والحسكة، خزاناً استراتيجياً للغاز الطبيعي في سورية، حيث تقدّر احتياطياتها بنحو 240 مليار متر مكعب من الغاز، حيث تنتج حقول مثل "كونوكو" و"الطابية" و"العُمر" في منطقة دير الزور، قرابة 21 مليون متر مكعب يوميّاً، مُغطيةً نحو 40% من احتياجات سورية المحلية من الغاز، والتي تُستخدم أساساً في توليد الكهرباء وتشغيل المصانع، في حين انخفض الإنتاج إلى أقل من خمسة ملايين متر مكعب يومياً بحلول عام 2023.
ويبلغ إجمالي إنتاج سورية من الغاز الطبيعي ما بين 30 – 35 مليون متر مكعب يومياً يغطي الاستهلاك المحلي، والفائض يذهب للتصدير، في حين بالكاد يصل الإنتاج اليوم إلى نحو عشرة ملايين متر مكعب يومياً من جميع الحقول. أما في قطاع الزراعة، فتحتضن المنطقة 70% من أراضي سورية الزراعية، وتعتبر القلب النابض للزراعة السورية، بما في ذلك حوض الفرات الذي كان يُنتج قرابة 50% من القمح السوري قبل النزاع، و60% من الشعير، وهي محاصيل أساسية لتوفير رغيف الخبز الذي يمثل المادة الأساسية على المائدة السورية.
وتبلغ مساحة الأراضي القابلة للزراعة في المنطقة نحو 1.2 مليون هكتار، أي نحو 40% من إجمالي الأراضي الزراعية السورية، وإضافة إلى زراعة القمح يزرع فيها القطن والشعير والخضروات، وتعتمد نسبة كبيرة من سكان المنطقة على الزراعة مصدرَ دخل رئيسياً، وتشكل الزراعة 25% من الناتج المحلي الإجمالي السوري.
الاتفاق... أرقامٌ مُتفائلة
وسط تحديات كبيرة من نافلة القول إن الاستعادة الرسمية لهذه المناطق قد لا تعني بالضرورة عودة فورية لكامل الإنتاج، في ظل العقبات اللوجستية والسياسية التي تظلّ كابحاً رئيسيّاً، إذ تعرّضت منشآت النفط في دير الزور والحسكة لتخريب واسع من قبل تنظيم داعش، ثم القصف الروسي والأميركي والتركي لاحقاً والعمليات العسكرية التي استمرّت لسنوات، إضافة إلى حجم الفساد المستشري في التعاطي مع ملف النفط في المنطقة.
وتتطلب إعادة تأهيلها استثمارات ضخمة قد تصل إلى مليارات الدولارات وخبرات تقنية غائبة حالياً، وبحاجة لرفع العقوبات عنها لتمكين الشركات من الدخول وإعادة الترميم وتأهيل الآبار لعودة الإنتاج لطبيعته.
وفيما لو نجحت سورية في استعادة إنتاجها النفطي إلى 200 ألف برميل يوميّاً، أي حوالي نصف مستويات ما قبل العام 2011، فقد تساهم في سد 80% من الاحتياجات المحلية للنفط والتي تقدر بحوالي 250 ألف برميل يومياً، وتبلغ قيمتها بالسوق بالعالمية حوالي ملياري دولار (على افتراض سعر 60 دولاراً للبرميل) ستشكل وفراً للخزينة العامة، إضافة إلى عودة التيار الكهربائي لسابق عهده وانخفاض تكاليف الإنتاج وانعكاسها على القوة الشرائية للسكان.
كما أن عودة المنطقة الشمالية الشرقية والتي تلقب بـ"سلة غذاء سورية" ستساهم في انتعاشة الاقتصاد الزراعي أكثر بعد سلسلة من الخسائر منيت بها الدولة خلال السنوات الماضية، حيث شهد إنتاج القمح انخفاضاً من أربعة ملايين طن سنويّاً إلى أقل من مليون طن، ومن شأن استعادة الزراعة تُقلّص فاتورة استيراد الغذاء، وقد تسمح بالتصدير مجدداً. وقد يدفع الاتفاق الجديد دولاً مثل الصين وتركيا والسعودية للاستثمار في سورية، مستفيدة من تراجع الوجود الأميركي وحاجة الدولة الماسّة للاستثمار في قطاع الطاقة والزراعة.
الاتفاق ليس مجرد صفقة اقتصادية عابرة، بل خطوة نحو إعادة دمج المكون الكردي مع بقية المكونات السورية، بعد سنوات من "الإدارة الذاتية". وقد يُشكّل سابقة لتفكيك الانقسامات الجغرافية - الاقتصادية التي غذَّتها النزاعات طوال السنوات الماضية. وعلى الرغم من الجانب المشرق لتوقيع الاتفاق، لكن يجدر الانتباه لجملة من التحديات التي قد تواجه الطرفين، ولعلّ أهمها الانقسام الأيديولوجي بين "هيئة تحرير الشام" و"قوات سوريا الديمقراطية"، وإرث العنف، إذ لطالما حاربت فصائل المعارضة "قسد" بدعم من تركيا، واشتركت الأخيرة في معارك مع النظام ضد فصائل المعارضة أيضاً.
لذا سيتوقف نجاح الاتفاق على حجم الانفتاح السياسي من قبل الطرفين والاتفاق على عقد اجتماعي يضمن حقوق الجميع ويعيد بناء الثقة. والتحدي الآخر مرتبط بالتدخل الخارجي، إذ لا تزال واشنطن تدعم "قسد" وسط معارضة تركيا لهذا الدعم، وثالث تلك التحديات مرتبط بإدارة الثروات؛ إذ تطالب الحكومة السورية بالسيادة الكاملة على الحقول، فهل تنجح في إقرار آلية توزيع عادلة للثروة وتحقيق تنمية اقتصادية مستدامة لجميع المحافظات انطلاقاً من منطقة شرق الفرات؟
رابع التحديات، هو العقوبات الغربية، فعلى الرغم من تجميد بعضها لمدة عام، إلا أن هذا الملف يحتاج لوقت طويل لحين الانفكاك من هذه العقوبات. أخيراً، لا شك أن استعادة السيطرة على النفط والغاز والزراعة في الشمال الشرقي خطوة ضرورية، لكنها ليست كافية لإنقاذ الاقتصاد السوري. التعافي الحقيقي يتطلب حلّاً سياسيّاً شاملاً يفتح الباب أمام رفع العقوبات. وإصلاحات مؤسسية لمحاربة الفساد وضمان توزيع عادل للثروة، وتنمية اقتصادية لكافة المحافظات وسكانها، واستثمارات دولية غير مشروطة بأجندات إقليمية.