استمع إلى الملخص
- وفقاً لجمعية مسلك الحقوقية، تعمدت إسرائيل تدمير قطاع الصيد منذ أكتوبر 2023، مما أثر على حياة 110 ألف شخص، ومنعت دخول المواد الأساسية لإصلاح القوارب، مما جعل الصيد مهمة خطيرة ومكلفة.
- تدمير قطاع الصيد جزء من سياسة إسرائيلية لفرض التجويع على غزة، مما أدى إلى كارثة إنسانية تهدد 2.4 مليون شخص، وتعتبر جريمة حرب وفق القانون الدولي، مما أثار استياءً دولياً.
في الوقت الذي تخوض فيه قوات جيش الاحتلال الإسرائيلي البرية أو البربرية حرب إبادة وتدمير للأراضي الزراعية المنتجة للغذاء في عموم قطاع غزة، لتفرض سياسة التجويع ضدّ السكان، كانت قوات إسرائيل البحرية تشنّ حرباً أخرى أكثر خبثاً من الحرب البرية، إذ شنّت حرباً وحشية على الصيادين في قطاع غزة، مستغلّة غياب كاميرات الصحافيين، واستهدفتهم بالمسيّرات في البحر المتوسط، وقتلت واعتقلت منهم المئات في البحر والبر، واستخدمت طائرات أف 16 والمسيّرات في تدمير شواطئ غزة ومراكب الصيد وأسواق السمك، بهدف إحكام خطة تجويع سكان القطاع المحاصرين، بحرمانهم من الأسماك التي تعدّ مصدر البروتين الوحيد المتاح محلياً وذاتياً في القطاع. وبلغ الحقد بجيش الاحتلال الذي يصف نفسه بالأكثر أخلاقية في العالم إلى أن يتعمّد قصف قاع البحر بالمتفجرات الكيميائية لتهجير الأسماك بعيداً عن شاطئ غزة.
وكشفت جمعية مسلك، وهي جمعية حقوقية إسرائيلية تدافع عن حرية الفلسطينيين في قطاع غزة في التنقل وتطالب بفتح المعابر ووقف الحصار منذ سنة 2005، أنّ الجيش الإسرائيلي تعمّد تدمير قطاع الصيد في غزة كلياً منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 باعتباره أحد مصادر الرزق والأمن الغذائي الرئيسية لسكان قطاع غزة. وتسبّبت الهجمات من الجو والبحر والبر في القضاء على بنية قطاع الصيد التحتية الأساسية، من قوارب الصيد وأحواض الأسماك وميناء الصيد في مدينة غزة، وجعلتها غير صالحة للاستخدام.
ومنع جيش الاحتلال طوال فترة الحرب دخول الصيادين إلى البحر، بما في ذلك خلال فترات وقف إطلاق النار. وعندما تجرأ الصيادون على دخول المياه القريبة من الشاطئ للصيد على الرغم من أنّهم يخاطرون بحياتهم، أطلق الجيش الإسرائيلي النار عليهم لقتلهم. وبهذه السياسة الخبيثة، أصبحت الأسماك سلعة نادرة في قطاع غزة، وارتفعت أسعار المتوفّر منها لكنّها غير متاحة للغالبية العظمى من السكان.
وكان قطاع الصيد من القطاعات الاقتصادية الرئيسية في قطاع غزة سابقاً، وعمل ليس منتجاً رئيسياً للغذاء فحسب، بل بوصفه مصدراً لفرص العمل للصيادين أنفسهم وللعاملين في الصناعات المغذية، منها إصلاح، وصيانة القوارب والنقل والتسويق. ووفقاً لتقديرات منظمة الأغذية والزراعة الفاو التابعة للأمم المتحدة، قبل اندلاع الحرب في أكتوبر 2023 اعتمد أكثر من 6 آلاف من سكان غزة على قطاع الصيد مصدرَ دخل رئيسي، منهم حوالى 4500 صياد وأصحاب قوارب صيد، وكان هذا القطاع مصدر دعم مباشر وغير مباشر لحوالى 110 ألف شخص في غزة. وكان في غزة قبل الحرب أكثر من ألفي قارب، منها 1100 بمحركات وحوالى 900 بالتجديف اليدوي.
على طول ساحل غزة الذي يبلغ 41 كليومتراً، كانت هناك خمسة مراكز رئيسية للصيد. وكان قطاع الصيد في غزة أحد القطاعات المحلية القليلة لإنتاج الغذاء ذاتياً في القطاع، وله أثر مباشر وواسع على الأمن الغذائي للسكان. فالأسماك تعدّ مصدراً مهماً للبروتين الصحي، وكانت متوفرة بأسعار منخفضة في القطاع مقارنة بمصادر البروتين الأخرى مثل اللحوم والدواجن. ويقدر نقيب صيادي غزة إنتاج الأسماك في غزة قبل الحرب بنحو 28 ألف طن من الأسماك، وعدد الصيادين بأكثر من سبعة آلاف صياد في بحر غزة لمسافة 10 أميال بحرية، ويمارسون مهنتهم بواسطة أدوات صيد متقدمة.
ميناء الصيادين في غزة الذي يبلغ طوله حوالى 650 متراً، هو الميناء الوحيد في القطاع، وفيه رست معظم القوارب والمعدات البحرية، وتعرض الميناء لقصف واسع من جيش الاحتلال، وفي الأسبوع الأول من الحرب انخفض عدد القوارب التي كانت صالحة للعمل في الميناء بحوالى 50%. ووفقاً لصور الأقمار الصناعية أغرق جيش الاحتلال جميع القوارب التي كانت في الميناء أو خرجت من الخدمة بحلول يوم 10 يناير/ كانون الثاني 2024.
وأعلن الجيش الإسرائيلي أنّ ساحل غزة منطقة قتال، ونقلت صحيفة الإندبندنت البريطانية عن أستاذ العلوم البيئية في غزة عبد الفتاح عبد ربه، أن البحرية الإسرائيلية تطلق بصورة مستمرة قذائف لها تأثير كيميائي وإشعاعي في عمق بحر غزة، ما انعكس على البيئة البحرية وأثّر في التنوع الحيوي. وبعد انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق الساحلية، أجرى عبد ربه جولة بحرية وجد خلالها أن عمق البحر أصبح خالياً من الأعشاب البحرية، وتحول إلى صحراء رملية صفراء نتيجة القذائف الإسرائيلية. وقتلت إسرائيل 210 صيادين، 60 منهم أثناء الصيد في البحر، وفق رئيس نقابة صيادي غزة زكريا بكر.
وفي منتصف مايو/أيار الماضي، رصدت مفوضيّة الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان نمطاً ممنهجاً من الهجمات العسكرية الإسرائيلية على الصيادين في غزة، يشمل إطلاق النار عليهم في البحر من البحرية الإسرائيلية، بالإضافة إلى استهدافهم بطائرات من دون طيار في البحر والبر، واعتقال عشرات منهم ومصادرة القوارب حتّى أصبح صيدُ السمك مرعباً.
وبشهادة جمعية مسلك، في الأيام الأولى للحرب، قيدت إسرائيل دخول الفايبرغلاس والمحركات التي تُعرّفها إسرائيل على أنها مزدوجة الاستخدام، لأنها ضرورية لتشغيل وإصلاح قوارب الصيد، ومنعت الوقود لتشغيل مراكب الصيد التي نجت من المحرقة التي نفذها الجيش في ميناء غزة، وكلف النزول إلى البحر سقوط أكثر من ثلاثة صيادين يومياً نتيجة استهداف جنود البحرية الإسرائيلية المتعمّد لهم، رغم أنهم غير مقاتلين.
ويقول نقيب الصيادين الفلسطينيين نزار عياش إنّ إسرائيل قضت على مهنة الصيد بالاستهداف والاعتقال والملاحقة، ودمرت ميناء غزة وحرقت المراكب وأعدمت صيادين، حتّى وصل سعر كيلوغرام البوري إلى 120 دولاراً، وهو السعر الأغلى في العالم.
لم تترك إسرائيل أيّ بنية تحتية للصيد إلّا ودمرتها. وفي اليوم الرابع من الحرب، قصفت قوات الاحتلال الميناء الوحيد في القطاع بطائرة إف 16، ما أدى إلى شطره إلى نصفين. ودمرت غير القوارب، مصانع تعليب وتصنيع الأسماك ومصانع الثلج وغرف صيانة القوارب ومكاتب شركات تبيع معدات الصيد، وسوق السمك وكلّ شيء له علاقة بصيد الأسماك. وخرّبت مزارع استزراع الأسماك وتركتها غير صالحة للاستخدام. نصت اتفاقيات أوسلو على أن مساحة الصيد قبالة غزة تصل إلى 20 ميلاً بحرياً، لكن إسرائيل خفضتها بالتدريج حتّى وصلت إلى ستة أميال بحرية قبل السابع من أكتوبر، وبعده طردت الصيادين وأعلنت البحر منطقة عمليات عسكرية.
وكانت أهداف جيش الاحتلال واضحة، وهي منع الصيادين من تلبية الاحتياجات الغذائية لسكان غزة، حتّى يتمكّنوا من استخدام الإمدادات الغذائية وسيلة عقاب جماعي للسكان، ويفرضوا أنفسهم مصدرَ الرزق الوحيد في غزة، ليسهل التحكم في السكان وتهجيرهم. يُعدّ الصيادون، وبنية الصيد التحتية والوصول إلى مصادر الغذاء، محميين جميعاً وفقاً لقانون حقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي التي تلزم الجيش الإسرائيلي بالتمييز بين المدنيين والمقاتلين، وبين الأهداف المدنية والأهداف العسكرية. وقتل الصيادين الذين لا يشكلون تهديداً عمداً، هو جريمة حرب، وبصفتها طرفاً في القتال وقوةَ احتلال، يقع على عاتق إسرائيل، واجب ضمان الاحتياجات الأساسية للسكان المدنيين في غزة، بما في ذلك الوصول إلى الغذاء ومصادر العيش، مثل الصيد.
ويمنع جيش الاحتلال الصيد في ساحل غزة منعاً تاماً، وقد حوّل ميناء الصيادين إلى رماد، ودمَّر جميع القوارب التي كانت على الساحل وما لم يحترق دُمّر، وأحرَقَ الشِّباك. وقدرت منظمة الفاو خسارة الصيادين بـ84 مليون دولار، تمنع إسرائيل دخول المساعدات الغذائية لقطاع غزة بحجة حرمان حركة حماس من الاستيلاء عليها.
تدمير جيش إسرائيل قطاع الصيد في غزة، إلى جانب تدميره وسائل إنتاج الغذاء الأخرى، الزراعية والحيوانية، وحشية وهمجية لا علاقة لها بقوانين الحرب، ولا بحركات المقاومة المشروعة وفق القانون الدولي، لكنّه واحد من الأسباب الأساسية للكارثة الإنسانية التي تتعمّدها إسرائيل في القطاع المنكوب، وإجبار للسكان للاعتماد المستمر على المساعدات التي تحتكرها "مؤسّسة غزة الإنسانية" التي تديرها الولايات المتحدة وإسرائيل. وفقاً لبيانات الأمم المتحدة، منذ شهر أيار/مايو 2025، فإنّ سكان القطاع بأكمله، حوالى 2.4 مليون شخص، يواجهون خطر المجاعة التي هندستها حكومة بنيامين نتنياهو الصهيونية وشاركت فيها الولايات المتحدة ودول غربية أخرى.
تدمير صناعة الغذاء والإنتاج المحلي الذاتي لقطاع غزة بواسطة جيش الاحتلال، مكّن حكومة إسرائيل من استخدام سيطرتها الكاملة على إدخال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، رافعةَ ضغط وسلاحَ حرب، وسياسةً لفرض التجويع، وهي جريمة إبادة جماعية يرتكبها الجيش الإسرائيلي وعلى مسمع ومرأى من الجماهير التي تعبّر في تظاهرات حاشدة حول العالم عن تقززها من تلك الممارسات الهمجية.