أن يتحول العمل مقبرة في شركات استثمارية دولية

أن يتحول العمل مقبرة في شركات استثمارية دولية

17 يناير 2022
ضغوط معيشية متزايدة في مصر (Getty)
+ الخط -

لا مبالغة في أن قصة نور عاشور، الموظف المصري الذي انتحر مؤخرا بمقر عمله حين ألقى نفسه من الدور الثالث، ستظل محفوظة في ذاكرة من تابعها، ربما ينسى الاسم، لكن ليس الواقعة بما تمثله من مأساة صادمة، إضافة إلى حوادث مشابهة لم تحظى بنفس الاهتمام وتحمل دلالات عن قسوة سوق العمل، لا تظهرها المؤشرات والإحصاءات الرسمية بقدر المشاهدات الميدانية، ودراسات الحالة التي تتبع المشكلات المستجدة في بيئة ونظم العمل، وتحليل أثرها داخل النسق الاقتصادي على الظروف الاجتماعية والمشكلات النفسية.

وتجسد واقعة الانتحار صورة عن بعض الوظائف الحديثة نسبيا، ومنها خدمة العملاء، والتي تتسم بمعدلات عالية من الإجهاد النفسي والعصبي، سواء ما تعلق بمتاعبها كمهنة وما تسببه من مشكلات طبية، أو ظروف بيئة العمل، والتي تتصف بدرجات استغلال، منها طول ساعات العمل وتواضع الأجور وهشاشة علاقات العمل، ما يسبب في النهاية ضغوطاً متعددة.

ويتشارك عمال القطاع الخاص جزءاً من هذه الخصائص، حيث يفتقدون مفهوم العمل اللائق الذي يشير إلى فرص تشغيل تضمن الأمن والكرامة والأجر الكافي.

تجسد واقعة الانتحار صورة عن بعض الوظائف الحديثة نسبيا، ومنها خدمة العملاء، والتي تتسم بمعدلات عالية من الإجهاد النفسي والعصبي

وحسب إحصائيات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، فقد بلغت نسبة من يعملون عملاً دائماً بالقطاع الخاص 27.3 بالمائة في 2020، ونسبة المؤمن عليهم اجتماعيا أقل من 11 بالمائة، ما يعنى انتشار علاقات العمل الهشة وهدر حقوق العاملين، المتزامنة مع طبيعة العمل المؤقت التي أصبحت سمة غالبة لقطاع الخدمات في القطاع الخاص، بل وفي كثير من القطاعات الحكومية التي توسعت في تطبيق نظام التعاقدات مع شركات خاصة، حتى لم تعد هناك، في بعض الأحيان، حدود فاصلة بين القطاعين العام والخاص.

وارتفعت في السنوات الأخيرة نسبة قوة العمل من خريجي الجامعات الحكومية، ويضاف إليهم مئات الآلاف سنويا. وبلغ عدد الخريجين 428 ألفاً خلال 2019، في حين وصل إلى 450 ألفاً في 2020، منهم من يتسمون بمهارات استخدام أدوات الاتصال وتحدث الإنكليزية بطلاقة، كحالة بعض العاملين في خدمة العملاء، الذين يمثلون حائط صد لمشكلات العملاء مع الشركات، ويتحملون ردود الأفعال الغاضبة والمتجاوزة في أحيان كثيرة، وتكون معاناة العاملات أعلى في ما يتعلق بالضغوط أو التجاوزات أو نظام العمل بالورديات الليلية.

وخلال شهادات ومقابلات مع عاملين بمراكز خدمة العملاء، يمكن قراءة صفحات من دفتر أحوالهم، وكيف يتحولون إلى مجرد أرقام، تتمثل في تحقيق المستهدف "التارجت" بصرف النظر عن حدود قدراتهم وتحملهم، يستخدم ذلك سلاحاً للضغوط ومبرراً للخصومات.

وفى أحيان كثيرة، تلجأ الشركات إلى توظيف خرجين جدد أو طلاب لتقليل تكاليف التشغيل، ويعد الخرجون الجدد، المعطلون حديثا والمتنقلون من وظائف إلى أخرى، مصدراً أساسياً للعمالة، وتكررت في الشهادات مصطلحات مثل "نشعر أننا عبيد"، "أنفار وأجراء عند الإقطاع"، "الإدارة تريد تحقيق الربح دون التفات إلينا"، مع تقليل العمالة أحيانا مع زيادة المهام، لتوفير تكاليف التشغيل.

بالإضافة إلى شكاوى من نمط إدارة يتصف بالتعسف والقهر والتهديد المستمر، ويتحمل العبء النهائي من هم في أدنى السلم الوظيفي، والذين يمثلون العامل الرئيسي في تقديم الخدمات، فيما تمثل قطاعات أخرى من الإدارة مهمة ناقلي ومستقبلي تقارير العمل، وهو ما يقترب من توصيف الإنثروبولوجي الأميركي ديفيد جرير Task Masters، أستاذ الاقتصاد الذي اهتم بتحليل نظم العمل.

كما يشعر العاملون بأن مسارهم ومستقبلهم الوظيفي بلا أفق، فلا فرص للترقي ولا خبرات تتراكم، مع شعور عميق بالاغتراب، فلا يشعر العاملون بنتاج عملهم كما في مهن أخرى، وفي يوم العمل، يكونون أقرب إلى السجناء مربوطين بمقعد وسماعة لتلقي المكالمات والرد عليها بشكل آلي، محدودي الحركة، والإجازات في أضيق الحدود، ليتكرس إحساس بأن العمل كما قيود السجن، ومطلوب أن يبقى الموظف هادئاً أمام أي تجاوز أو غضب من العملاء، وهو يتلقى تعنيفاً يومياً في حال ساءت خدمات الشركات.

أما عن قواعد العمل، فهي قابلة للتغيير السريع كما فريق العاملين، وفي بعض الأحيان، تمتد ساعة العمل بشكل قسري، وحدث أن أضربت مجموعة من الموظفات نصف ساعة في إحدى الشركات الكبرى احتجاجا على مد ساعات العمل، ليتم بعدها تسريح ثلث العمالة في يوم واحد.

وتلقي واقعة الانتحار الضوء على الشركات الدولية العاملة في مجال خدمة العملاء، تكون مراكزها في الدول الغنية، عابرة للحدود وقوانين بلد المنشأ، وتعمل في بلدان فقيرة، بنيتها التشريعية لا تراعي حقوق العاملين، وتوظف تقنيات الاتصال والعمل عن بعد، وتستثمر انخفاض الأجور وحوافز الاستثمار، ويقبل على وظائفها آلاف الخريجين الذين يعانون البطالة، ويخضعون للقبول بالحد الأدنى الذي يكفي معاشهم.

وربما لا يكفي كما في حالة نور عاشور الأربعيني الذي يعيل طفلين، ولا يزيد راتبه عن 4 آلاف جنية (تقريبا 250 دولاراً شهرياً) ومطلوب منه أن يكفي الراتب أجر السكن ومستلزمات المعيشة الضرورية.

لا يمكن التقليل من أثر ظروف العمل القاهرة من ساعات عمل طويلة، بالإضافة إلى ساعات الوصول إلى العمل إذا كانت مقار العمل بعيدة

إجمالا، لا يمكن التقليل من أثر ظروف العمل القاهرة من ساعات عمل طويلة، بالإضافة إلى ساعات الوصول إلى العمل إذا كانت مقار العمل بعيدة عن أماكن العاملين، وهو عبء إضافي يزيد من ساعات العمل أيضا، ومعها تتآكل الأجور المتدنية أصلا، وإذا تجاور ذلك مع التهديد بالفصل، يصبح العاملون في حالة من القلق المستمر التي تدفع إلى حالات اكتئاب العمل، وما ينتجه من أمراض نفسجسدية، ويمكن في السياق تذكر حالة الطبيب محمود سامي الذي فقد بصره أثناء مواجهة كورونا.

كل هذه الظروف تخلق هشاشة نفسية وانخفاضاً في تقدير الذات، وشعوراً متعاظماً بقسوة ظروف الحياة، وسبق أن أدين عدد من المديرين بشركة أورانج الفرنسية، "فرانس تيليكوم سابقاً"، عام 2019، بتهمة التحرش المعنوي، والايذاء النفسي، والقهر في بيئة العمل نتيجة أخطاء إدارية، ما تسبب في تعدد حالات الانتحار بين العاملين حسب رسائل تركوها قبل الانتحار، بالإضافة إلى شهادة أسرهم.

في حالة نور عاشور، كان من الممكن أن يتم سرد رواية السقوط من النافذة نتيجة اختلال التوازن كرواية بديلة، لكن شهادة بعض زملائه، وإن كانت محدودة، والتحريات، كشفت تفاصيل وملابسات أحاطت بالواقعة وظروف العمل، ومعها أصبحت مسار اهتمام مصري وعربي واسع، ما دفع الشركة بعد 6 أيام إلى أن تصدر "بيان نعي".

لكن، وللمفارقة، لم تذكر الشركة في بيانها اسم الموظف الذي وصفته بالزميل العزيز، ووعدت زملاءه بتوفير الدعم النفسي، ومع الواقعة، تم فتح باب النقاش حول مظالم دالة على سقوط لقواعد العدالة، وقهر يطاول العاملين في قطاع الخدمات، وعن تناقض بين وفرة الزوائد، في حين تفتقر حشود جائعة إلى ما هو ضروري، على حد تعبير روسو في مقال في أصل اللامساواة والتفاوت بين البشر.