استمع إلى الملخص
- العلاقات الاقتصادية بين تركيا وروسيا تتجاوز بكثير تلك التي كانت بين تركيا وسوريا، مع حجم تبادل تجاري يبلغ 55 مليار دولار وطموح لزيادته إلى 100 مليار دولار، ويشمل التعاون قطاعات حيوية مثل الطاقة والسياحة.
- رغم التوتر الحالي، يُتوقع أن تُغلّب المصالح المشتركة على الخلافات بين روسيا وتركيا، مع التركيز على المصالح الاقتصادية المشتركة وتجاوز التوترات السياسية.
تتأهب المنطقة لخريطة اقتصادية جديدة بعد إسقاط نظام بشار الأسد، فالاقتصاد ورقة مهمة يبحث جميع الأطراف ذات العلاقة بالملف السوري اللعب بها، خلال الفترة المقبلة. ويبدو أن نتيجة بارزة بدأت تتضح معالمها بعد أيام من تحرير سورية، وهي أن روسيا قد تكون أكبر الخاسرين اقتصادياً، في حين ستكون تركيا أكبر الرابحين.
يتفق مراقبون أتراك على ما يقال حول دخول علاقات بلادهم مع روسيا الاتحادية "مرحلة برود وتوتر"، خلال الفترة الأخيرة، رافضين عتَب موسكو لما تعتبره "طعناً في ظهرها" جراء دعم تركيا للفصائل المقاتلة التي حررت كامل الأراضي السورية، خلال 12 يوماً، وأجبرت الرئيس المخلوع بشار الأسد على الفرار، عبر مطار حميميم (القاعدة العسكرية الروسية غربي سورية) إلى موسكو، بعد وصول فصائل المعارضة إلى العاصمة السورية دمشق، في الثامن من ديسمبر الجاري.
يؤكد المراقبون أن روسيا أكبر الخاسرين اقتصادياً، بينما تتأهب تركيا لحصد مكاسب كثيرة بعد تحرير سورية، ويأتي ذلك وسط مخاوف من انعكاسات سلبية على العلاقات التجارية التركية الروسية، لكن البعض يتوقع أن يتجاوز الطرفان الأزمة، في ظل العلاقات الوطيدة سياسياً وعسكرياً واقتصادياً بين أنقرة وموسكو.
في هذا السياق، يرى مدير أكاديمية الفكر (مستقلة) في إسطنبول، باكير أتاجان، أن العلاقات التركية السورية "القدرية" من تقارب اجتماعي وحدود مشتركة تمتد لنحو 900 كيلومتر، ووجود أكثر من 3 ملايين سوري في تركيا، لاجئين ومستثمرين ومقيمين، إضافة إلى المخاطر التي انعكست على تركيا جراء الحرب- كل تلك الأسباب، يضاف إليها الضغط المتواصل من المعارضة بسبب اللاجئين، دفعت تركيا، وبطرق متعددة، إلى الدعوة والسعي لحل الأزمة السورية بالطرق السياسية والحوار. ولكن عندما "رفض النظام السوري الحوار مع المعارضة والتطبيع مع تركيا" احترمت تركيا خيار الشعب السوري بإطاحة الأسد، ومن ثم أعلنت دعمها للشعب وقراره.
توتر العلاقات التركية الروسية
عن أثمان ما يمكن أن ينعكس على تركيا اقتصادياً، جراء توتر العلاقات مع روسيا، يشير أتاجان لـ"العربي الجديد" إلى أن التوتر لن يستمر طويلاً "وهو لم يخرج للعلن أو ينعكس على الاقتصاد حتى الآن"، ولكن يرجح المحلل التركي أن تعي روسيا أسباب الموقف التركي، بل وتقيّم، بناء على المعطيات المستجدة، العلاقات مع "سورية الجديدة".
ويشير المحلل التركي إلى أنه لا توجد مقارنة بين العلاقات الاقتصادية التركية الروسية مع التركية السورية، إذ لا يزيد حجم التبادل بين تركيا وسورية، قبل الثورة عام 2011، عن 3 مليارات دولار، وبعد الثورة وتحرير شمال غربي سورية، عن 4 مليارات دولار في كلا الاتجاهين، في حين يزيد التبادل التجاري بين تركيا وروسيا عن 55 مليار دولار، والطموح أن يصل إلى 100 مليار دولار.
لا تقتصر العلاقات بين أنقرة وموسكو على التبادل التجاري، فروسيا ترفد تركيا بأكبر عدد من السياح (نحو 7 ملايين سائح)، كما توجد مشروعات مشتركة عديدة، أهمها المفاعل النووي (محطة آق قويو) في ولاية مرسين جنوبي تركيا، وهي أول محطة للطاقة النووية في تركيا وواحدة من أكبر الاستثمارات في البلاد، والتي تم الاتفاق عليها مع روسيا في عام 2010.
ويأمل المحلل التركي ألا ينعكس الموقف التركي "الداعي إلى حرية وتحرير الشعب السوري" على علاقات بلاده مع روسيا، متوقعاً أن تتزايد العلاقات الدولية الداعمة للسوريين تباعاً، من أوروبا والولايات المتحدة، بل روسيا وإيران، لأن أساس علاقات الدول هو المصالح المشتركة وليس الأشخاص، خاصة إن كانوا مستبدين مثل بشار الأسد، حسب وصف أتاجان.
وتسعى تركيا وروسيا، خاصة بعد توقيع بروتوكول التعاون، العام الماضي، خلال الاجتماع الـ18 للجنة الاقتصادية المشتركة الهادف إلى رسم خريطة طريق لمسار العلاقات الاقتصادية بينهما في السنوات المقبلة، إلى رفع قيمة التبادل إلى 100 مليار دولار، وتعزيز التعاون في قطاعات الطاقة والزراعة والصناعة والسياحة والمقاولات والنقل والجمارك.
وتبقى الطاقة أبرز قطاعات التعاون بين البلدين، والتي تعاظمت بعد الحرب الروسية على أوكرانيا، وسرّع من اتفاق إنشاء مركز للغاز الطبيعي في تركيا الذي تناقش لمساته الأخيرة هذه الفترة، شركة "غازبروم" الروسية وشركة خطوط أنابيب البترول التركية (بوتاش).
رهان موسكو على بشار
بيد أن ما يرشح من "توتر مضبوط" اليوم، يمكن أن يؤثر على تنفيذ المشروعات المشتركة أو تأخيرها، سواء الاستثمارات أو مركز الغاز أو حتى المفاعل النووي الثاني الذي تتطلع تركيا إلى إسناده لروسيا كي تقيمه في ولاية سينوب على البحر الأسود.
وكانت مصادر إعلامية عدة قد رجّحت تصاعد الخلاف بين أنقرة وموسكو، بعد سيطرة المعارضة السورية على كامل سورية، ما أحدث تبدلات عميقة بالواقع السوري وملامح مستقبله، ما يهدد الوجود الروسي ومصالح موسكو، ليس في سورية، بل وربما في المنطقة، وذلك بعد رهان موسكو على سورية وبشار الأسد، منذ عام 2015 على الأقل، وقت أن دخلت بكل قوتها، العسكرية والسياسية والاقتصادية، إلى جانب النظام، لتحول دون انتصار ثورة السوريين وتوطد الوريث على كرسي أبيه، كما يقول السوريون.
ولقد رفعت موسكو من حجم التبادل باتجاه واحد، من خلال تزويد الأسد بالقمح والنفط والسلاح، ليقترب حجم التبادل خلال العام الماضي من نحو 250 مليون دولار (المعلن عدا السلاح)، كما يقول الاقتصادي السوري من دمشق، نعمان أصلان، وتزيد من حضورها، إلى جانب الصين، لتحتلا المراكز الأولى، بعد انحسار دور الدول العربية وشريك سورية التاريخي الأول (الاتحاد الأوروبي) منذ اندلاع الثورة والعقوبات المفروضة على سورية.
يلفت أصلان، خلال اتصال مع "العربي الجديد"، إلى أن حجم التبادل التجاري بين دمشق وموسكو لا يمكن ضبطه بدقة، كما أنه سلك منحى المقايضة، خاصة بعد تراجع موارد سورية وشبه نفاد القطع الأجنبي، وحاجة دمشق في الوقت نفسه للقمح الروسي، بعد تراجع الإنتاج إلى أقل من مليون طن وارتفاع الاستهلاك إلى أكثر من مليونين. لكن التبادل في مجمل الأحوال لا يصل إلى حجم التبادل مطلع الثورة أو عام 2010، وقت أن كان بنحو 1.5 مليار دولار.
ولكن، يبيّن المتحدث أنه لا يدخل السلاح ضمن قيمة التبادل، كما أن الصادرات السورية إلى روسيا تراجعت كثيراً، واقتصرت على بعض الخضر والفواكه وزيت الزيتون.
ويضيف أصلان أن قيمة وحجم التبادل التجاري بين دمشق وموسكو لا يعكسان طبيعة العلاقات الاقتصادية، ولا يدللان على حجم خسائر روسيا بعد انتصار الثورة، لأن روسيا اعتمدت على وجودها على الأرض و"وصولها إلى المياه الدافئة"، واعتبار سورية مركز تصدير إقليميا ودوليا. ومن المهم، كما يعبّر الاقتصادي السوري، الإشارة إلى الاستثمارات الروسية في سورية، والتي لم يطفُ منها على السطح سوى مرفأ طرطوس الذي استثمرته بنحو 500 مليون دولار لـ49 سنة قابلة للتجديد، إذ إن هناك مشاريع واستثمارات أخرى وكثيرة، تتعلق بمشاركة الشركات الروسية في تشغيل البنية التحتية الحيوية (كهرباء، مياه).
ويشير أصلان إلى استثمارات سياحية روسية أخرى في الساحل السوري (اللاذقية وطرطوس)، إضافة إلى استثمار تحديث شركة الأسمدة بمدينة حمص وترميم وإعادة تأهيل حقول النفط والغاز، وربما الأهم حصرية استثمار واستخراج واستيراد الفوسفات السوري.
إمكانية تجاوز الخلافات بين روسيا وتركيا
بعد انتصار الثورة ولجوء رئيس النظام المخلوع إلى روسيا، تحاول موسكو تحميل خسائرها في سورية لتركيا، كما يقول الاقتصادي التركي مسلم أويصال لـ"العربي الجديد".
ولكن يضيف أويصال أن روسيا ليست على حق بتحميلها تركيا المسؤولية، وهنا لن يكون "الرد بالمثل" لتحميل موسكو مسؤولية دعم نظام مستبد أو رهانها على الحصان الخاسر ومعاداة الشعب السوري والوقوف في وجه تطلعاته، بل سيكون النظر للأمر من عين المصالح المشتركة، ما يوصلنا إلى أن "التوتر المحدود" سيزول وستغلّب أنقرة وموسكو مصالحهما.
وأشار إلى الحاجة المتبادلة، "فبلاده ملاذ روسيا بعد الحصار والعقوبات الأوروبية والأميركية. كما أن موسكو من شركاء أنقرة الاقتصاديين الأوائل ومصدر السياح ومشتري العقارات الأول. والأهم، أن روسيا عامل قوة لتركيا على صعيد الطاقة، سواء من خلال المفاعل النووي السلمي (آق قويو) أو اعتمادها مركزاً لتصدير الغاز الروسي وربما النفط، وبذلك تعزيز دور تركيا الرائد الذي تسعى إليه على صعيد الطاقة، خاصة بعد اكتشافات الغاز "الهائلة" في البحر المتوسط الأسود المقدرة بنحو 710 مليارات متر مكعب".
يعوّل الاقتصادي التركي على تغيير كامل المشهد، بعد وصول الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب، لأنه مقبل على علاقة جيدة مع الرئيس رجب طيب أردوغان، كما أنه من أنصار وقف الحرب الروسية على أوكرانيا وسحب القوات الأميركية من سورية، ما يبدل من تأجيج الصراع الذي دعمته الإدارة الأميركية الحالية بقيادة جو بايدن.
وعلى الجانب الروسي ومن دون تصريحات رسمية علنية، بدأت أصوات محللين تحمّل تركيا مسؤولية خسارة الدور الروسي المتوقع في سورية الجديدة، بل تصف وقوف أنقرة إلى جانب الثورة وتحرير البلاد وإسقاط النظام بأنه "طعنة تركية في ظهر روسيا".
ويكشف محلل الشؤون الاستراتيجية في موسكو، رولاند بيجاموف، عن وجود توتر قوي حالياً في العلاقات بين روسيا وتركيا، لكن الكرملين يحرص على عدم إظهاره، كاشفاً خلال تصريحات صحافية الأربعاء الماضي، عن استمرار العلاقات، و"يلزم مرور بعض الوقت قبل أن يتم إعادة تقييمها".
ويصف بيجاموف أردوغان "بالحليف والشريك غير المربح لروسيا"، لكنه الأفضل ضمن الخيارات الحالية.
ويرى مدير أكاديمية الفكر في إسطنبول، باكير أتاجان، أن ردود أفعال بعض المحللين والمفكرين الروس، هي" آنية وارتجالية"، لأن استمرار دعم روسيا لبشار الأسد، بعد ضعفه وضرب القوات الإيرانية وحزب الله وتحطيم الاقتصاد السوري، هو في حقيقة الأمر عبء كبير على موسكو.
ويضيف أتاجان لـ"العربي الجديد" أن ما تم بناؤه، بين أنقرة وموسكو، على صعيد الاقتصاد والتعاون العسكري (صواريخ إس 400 خاصة) يجعل تجاوز التوتر الحالي، وتغليب مصالح كلا البلدين، ممكناً وضرورة.