استمع إلى الملخص
- تقرير "الجبهة المصرية لحقوق الإنسان" يوضح أن هذه السياسات القمعية أدت إلى خرق القوانين المالية وهروب رجال الأعمال، مما أثر سلباً على بيئة الاستثمار وأجبرهم على شراكات غير مرغوبة مع الدولة.
- تحت ضغط دولي، بدأت السلطات في الإفراج عن رجال أعمال مثل صفوان ثابت لتحسين صورة مصر الاقتصادية ودعم القطاع الخاص، دون شمول السياسيين، مما يشير إلى دوافع اقتصادية بحتة.
اعتادت الأفلام المصرية التي تعالج قضايا الإرهاب إظهار "المتطرفين دينياً" وهم يقولون عن غيرهم من المصريين "أموالهم حلال وغنيمة لنا"، لكن "الجبهة المصرية لحقوق الإنسان"، رصدت حديثاً في تقرير حقوقي بعنوان "أموالهم غنيمة لنا: تهديد الشركات والاستثمار المحلي تحت ستار الحرب على الإرهاب"، واستعرضت فيه الإجابة عن سؤال: كيف تستولي السلطات المصرية على أموال رجال الأعمال بحجة الحرب على الإرهاب؟
التقرير الذي صدر يوم 19 فبراير/ شباط الجاري، رصد عمليات استهداف الشركات الخاصة في مصر والملكيات والأموال منذ انطلاق حملة "الحرب على الإرهاب" منذ عام 2013، التي كانت تستهدف الإسلاميين وشركاتهم، والمستمرة حتى الآن.
وكانت حملة اعتقالات ومصادرة أموال وممتلكات لرجال أعمال وشركات اقتصادية مهمة، قد بدأتها السلطات المصرية عام 2020، وشملت مالك صحيفة "المصري اليوم"، وصاحب سلسلة شركات تجارية "صلاح دياب"، ثم رئيس مجلس إدارة شركة "جهينة" للألبان "صفوان ثابت" ونجله وأخيه.
وامتدت الحملة لمالك "مجموعة التوحيد والنور التجارية" محمد السويركي، وسرت أنباء عن إجبار شركات الجيش، شركة "العربي" الشهيرة للأجهزة المنزلية، على التنازل عن توكيل "توشيبا"، ضمن توسيع أنشطة الإنتاج الحربي في الأجهزة المنزلية، رغم نفي شركة "العربي" ذلك.
وضمن من جرى التضييق عليهم رجل الأعمال والاستشاري العالمي ممدوح حمزة الذي اعتقل 2019، ثم حكم عليه بالسجن عام 2020 بتهمة التحريض ضد الدولة.
كما شملت عام 2021 رجل الأعمال ومالك قناة المحور، حسن راتب، بتهمة التجارة في الآثار، وتردد أن الهدف هو إجباره على التنازل عن قناته "المحور" لشركات المخابرات (المتحدة للإعلام)، وشركاته وجامعته في سيناء، بخلاف أصحاب شركات أخرى صغيرة تعرضوا للمصير نفسه، وذلك قبل أن تحدث انفراجة، ويجري إطلاق سراح العديد منهم.
أموالهم غنيمة في مصر
يقول تقرير "الجبهة المصرية لحقوق الإنسان" إن عملية استيلاء السلطات المصرية على أموال بعض رجال الأعمال وشركاتهم، بدأت في أعقاب انقلاب الجيش على أول رئيس منتخب، وهو الراحل محمد مرسي، عبر مجموعة من الإجراءات الاستثنائية التي جرى تقنينها بتشريعات لاحقة صدرت بحجة "الحرب على الإرهاب".
وبموجب هذه التشريعات التي تستند لقانون محاربة الإرهاب، تبنّت السلطات المصرية سلسلة ممارسات قمعية للأنشطة الاقتصادية، واعتبرت أموال وشركات الإخوان "غنيمة"، وتحفظت على أموال وشركات زعمت أنها تابعة لجماعة الإخوان المسلمين، وأفرادها ومحسوبون عليها، أو يتقاربون معها.
وهي السياسة التي أعادت للأذهان مجدداً سيناريو الاستيلاء على الأموال والملكية الخاصة تبعاً لمحددات سياسية، في عقود سابقة، عقب تأسيس الجمهورية المصرية في 1952.
وقد قُدر حجم الاستيلاءات على هذه الأموال في بعض السنوات مثل عام 2015 بـ 532 شركة، وفي عام 2018 وصل عدد الشركات المتحفظ عليها لـ 118 شركة، وبلغت القيمة الإجمالية لهذا التحفظ في عام 2018 حوالي 300 مليار جنيه (16.7 مليار دولار، حسب الأسعار في هذا التوقيت).
لكن التقرير يشير إلى أن تلك الإجراءات الاستثنائية ضد رجال الأعمال والشركات الاقتصادية، لم تقتصر على أعضاء تيار الإسلام السياسي وجماعة الإخوان المسلمين، بل امتدت لتشكل تهديداً واسعاً لمجتمع الأعمال والاستثمار المحلي في مصر.
بيد أن التعدي على الشركات والأموال والملكيات الخاصة تحت مقصلة قوانين الحرب على الإرهاب، والإجراءات الاستثنائية المرتبطة بها قد تجاوز كثيراً أعضاء تيار الإسلام السياسي وجماعة الإخوان المسلمين، وبات يُشكل تهديداً واسعاً لمجتمع الأعمال والاستثمار المحلي في مصر.
ويشرح تقرير "الجبهة المصرية لحقوق الإنسان"، كيف جرى استهداف الشركات الخاصة في مصر والملكيات والأموال من تفصيل قوانين وإجراءات قضائية، أطلقت أيدي الأجهزة الأمنية العاملة في نطاق مكافحة الإرهاب في ملاحقة قطاع الأموال والشركات الخاصة، وجمع المعلومات اللازمة عنها دون قيد أو مساءلة، ودون مسوغات في كثير من الأحيان غير "الاشتباه".
ونتج عن هذا خرق النصوص القانونية الحامية لسرية البيانات المالية والاقتصادية، ووقف أنشطة شركات ورجال أعمال، وهروب بعضهم للخارج، أو البحث عن جنسية أجنبية لحماية أموالهم واستثماراتهم، كي لا تصبح "غنيمة" للسلطات المصرية.
كيف يجعلونها "غنيمة"؟
يشير تقرير المنظمة الحقوقية لأبرز الجهات والأجهزة القائمة على ملف الاستيلاء وتعقب الشركات ورجال الأعمال بحجة "مكافحة الإرهاب"، مثل: "وحدة مكافحة غسل الأموال ومكافحة الإرهاب" وثغرات عملها في الاستيلاء والتعقب، إلى جانب لجان الاستيلاء الإدارية والقضائية، وكذلك الأجهزة الأمنية.
ولتأكيد جدية التقرير الحقوقي، أورد سلسلة من الوقائع والشهادات لأصحاب شركات، أو ذويهم أو عاملين فيها، تمكّنت "الجبهة المصرية" من الحصول عليها خلال الفترة من 2013 / 2024، والذين واجهوا هذه الاستيلاءات الفعلية، وتعرضوا لسلسلة من العواقب القانونية والمالية بالغة الضرر على أعمالهم وشخصيتهم الاعتبارية والطبيعية.
حل أزمة السلطة المالية
ويشير التقرير الحقوقي الذي يرصد هذه الظاهرة الاقتصادية الأمنية الخطيرة، إلى أن السبب وراء استهداف السلطات المصرية "غير القانوني وغير الدستوري" لهذه الشركات ورجال الأعمال، كان لإنقاذ السلطة من سلسلة أزماتها المالية والاقتصادية، وإعادة هندسة وإدارة السوق المصرية وفقاً لتفضيلاتها، بشكل يناقض مبادئ السوق الحر، وقوانين العمل، وحقوق الإنسان.
وأكد أن هذا الاستهداف الممنهج لقطاع الاستثمار والأعمال، كان بسبب بحث السلطة وأجهزتها عن مصادر تمويل متعددة للخزانة، وقد كشفت عمليات التحفظ والاستيلاء عن حجم الموارد المالية التي يمكن ضخها للخزانة المالية، وتساهم في تجاوز أزمة إيرادات الدولة، وكذلك إجبار رجال الأعمال والشركات على الدخول والشراكة في المشروعات الاقتصادية التي تبنتها السلطة السياسية، والتي لم تجد إقبالاً من مجتمع الأعمال عليها.
ورصد التقرير كيف تبنّت السلطات نمطاً متزايداً في استهداف رجال الأعمال والشركات باتهامات الإرهاب، مؤكداً أنه تبع ذلك إجبارهم على الدخول في شراكات مع الشركات المملوكة للدولة، أو شراء المتعسر منها بمبالغ كبيرة لا يقبلها رجال الأعمال أولئك، عوضاً عن إجبارهم بشكل دوري ومستمر على التبرع بمبالغ كبرى للصناديق السيادية.
وقد ألقى التقرير الضوء على هذه الانتهاكات السافرة تجاه الاستثمار المحلي في مصر، وما يمثله من عقبة أمام اندماج مصر في الاقتصاد العالمي، وإخلال بالتزاماتها الاقتصادية الدولية، وحقوق المواطنين والمستثمرين فيها، ما يفاقم من أزمتها الاقتصادية الداخلية، ويجعلها بيئة غير آمنة للاستثمار والاقتصاد الحر.
أبرز المتضررين
ونوه التقرير بأن فئة كبار رجال الأعمال التي تضررت من هذه الممارسات ضمّت شخصيات مثل رجل الأعمال صلاح دياب، الذي بدأ استهدافه في 2015 وتكرر ذلك الاستهداف في 2020، وأكد التقرير أن دياب نفّذ ما طُلب منه، دون إشارة إلى طبيعة الأمر.
كما ضمت القائمة رجال أعمال آخرين مثل محمد الأمين وحسن راتب، الذي اتُّهم بالتنقيب غير القانوني عن الآثار، وانتهى الأمر براتب إلى التنازل عن حصص من استثماراته في سيناء، ومن بينها مصنع إسمنت سيناء لصالح شراكة مع جهات من الأجهزة السيادية (الجيش).
ولفت التقرير إلى تكرار الأمر ذاته مع رجل الأعمال سيد السويركي، مالك سلسلة محلات التوحيد والنور، والذي اتّهم في مخالفات ذات صلة بعدم مراعاة احتياطات الأمن الصناعي في منشآته، ليقضي في السجن بعض الوقت، وانتهى الأمر بخروجه بعد تنازله عن أصول شملت أراضي ومحلات تابعة له.
وتكرر السيناريو، حسب التقرير أيضاً، مع رجل الأعمال أحمد العزبي، مالك سلسلة صيدليات العزبي، والذي جرى توقيفه وتهديده بتحريك قضايا ضده، لينتهي الأمر به إلى الرضوخ إلى عروض الشراكة مع صندوق مصر السيادي، إذا بات الصندوق يمتلك 49% من أسهم تلك الشراكة، إلى جانب إجباره على دفع تبرع كبير لإحدى الجهات الحكومية.
وكان من أبرز من مُورست ضده هذه الممارسات للاستيلاء على شركته هو صاحب شركة جهينة للألبان، رجل الأعمال صفوان ثابت وابنه سيف، حيث بدأ الأمر بالتحفظ على أموالهم الشخصية وأموال عائلتهما، ثم القبض عليهما بعد رفض ثابت الأب دمج أحد مصانعه مع مصنع سعت جهات سيادية لإنشائه في قطاع الألبان، كما رفض شراء شركات غذائية مملوكة للدولة تعاني من خسائر مالية، بعد طلب أحد الوزراء منه ذلك، وانتهى الأمر لاتهامه بتمويل الإرهاب، والإضرار بالاقتصاد.
وفي 23 إبريل 2022 نشرت مجلة الإيكونوميست المجلة الاقتصادية الأهم في العالم تقريراً سلبياً عن الاقتصاد المصري، مؤكده أن حبس صفوان ثابت وابنه بدون تهم معلنة أو محاكمة تصرف أحمق، وتأثيره كارثي بالاستثمار في مصر.
واتهم التقرير الجيش بأنه المتحكم الأول في الاقتصاد، وأنه "يأخذ ما يريد"، وأن صندوق النقد الدولي كان يشكو من خنق مصر القطاع الخاص لحساب الأجهزة على طريقة "المافيا".
وأكدت الإيكونوميست أن السلطة حاولت الاستيلاء على شركة جهينة، أكبر شركة لتصنيع الألبان والعصائر في مصر، عبر أساليب "المافيا" والعصابات.
وسبق للرئيس السيسي أن اجتمع برجال الأعمال الكبار، وبينهم: صفوان ثابت، عام 2014، ودعاهم للتبرع لصندوق "تحيا مصر"، واعتبر محللون اقتصاديون ذلك "تهديداً مبطناً بالتبرع أو الاستيلاء على أموالهم"، وأثيرت ضجة حينئذ، دفعت بعضهم مثل نجيب ساويرس للتبرع.
ومع أن "صفوان ثابت وشركة جهينة" دفعت 50 مليون جنيه، كما دفع صلاح دياب وغيره، إلا أن إفلاس خزائن النظام بسبب كورونا، ونضوب التمويل الخليجي حينها، دفع السلطات لشنّ حملة جديدة، ولكن هذه المرة بحجة دعم الإرهاب.
إفراجات بأمر صندوق النقد
وحين بدأت السلطات المصرية لاحقاً الإفراج عن رجال أعمال اعتقلتهم للاستيلاء على أموالهم وشركاتهم، تحدثت تقارير دولية منها تقرير لوكالة رويترز 21 يناير/كانون الثاني 2023 عن أن الإفراج عن صفوان ثابت وابنه "سيف"، وغيرهم من رجال الأعمال، له صلة بقرض صندوق النقد الدولي بقيمة 3 مليارات دولار، واشتراط الصندوق وقف استهداف رجال الأعمال، وعدّ ذلك جزءاً من إصلاح الاقتصاد.
وربطت "رويترز" وتحليلات لصحف أجنبية، بين إطلاقه سراحهم، وحصول مصر على حزمة إنقاذ من صندوق النقد الدولي "تعهدت بموجبها الحكومة بأن تكون أكثر دعماً للقطاع الخاص".
وأكدت الصحف الأجنبية أن الإفراجات ليست "سياسية"، ولكن "اقتصادية"، بأوامر من صندوق النقد الدولي، ضمن خطة تفعيل دور القطاع الخاص وتوفير الطمأنينة له، لينقذ الاقتصاد، وفي الوقت ذاته التحايل بهذه الإفراجات الاقتصادية على تخلي الجيش عن بيزنس شركاته، وتقليص نشاطها.
فقد شملت الإفراجات "خصوماً اقتصاديين" كباراً فقط، مثل رئيس شركة جهينة ونجله، والخبير الاستشاري العالمي ممدوح حمزة، ولم تشمل سياسيين.