استمع إلى الملخص
- الأزمات السياسية والاقتصادية تتفاقم بسبب الحرب في أوكرانيا وارتفاع تكاليف الطاقة والتضخم، بالإضافة إلى تأثير السياسات التجارية الأمريكية وفرض الرسوم على الصناعات الأوروبية.
- التوقعات المستقبلية تشير إلى تفاقم الأزمات مع استمرار الضغوط الدولية وصعود اليمين المتطرف، مما يزيد من حالة عدم اليقين السياسي والاقتصادي في ألمانيا.
ظلت ألمانيا لسنوات طوال نموذجاً لدولة الرفاهية والعدالة الاجتماعية، والقلعة الصناعية الأولى في أوروبا، وصاحبة الاقتصاد الأقوى داخل القارة العجوز، بل ثالث أكبر اقتصاد في العالم، والأول أوروبياً، وتحتضن إمبراطورية صناعة السيارات الفارهة والصناعات الثقيلة، وارتبط اسمها بالعلامات التجارية الكبرى للسيارات وأبرزها فولكسفاغن وبي إم دبليو ودايملر وأودي وبورشه ومرسيدس بنز.
وكان شعار "صنع في ألمانيا" كفيلاً باختراق أي سوق خارجي مهما تكن درجة تنافسيته، دعم ذلك تخصص الشركات الألمانية في تطوير المعدات المُعقَّدة وإنتاجها، بما فيها قطع الغيار والسلع الاستثمارية وتقنيات الإنتاج المبتكرة والصناعات التحويلية والكيميائية والطبية، والتميّز كذلك بقوة الابتكار والحداثة والتوجه نحو الأسواق الخارجية.
لكن ما يحدث هذه الأيام يثير القلق الشديد حول ألمانيا التي كانت تمتلك إلى وقت قريب واحداً من أكبر وأقوى الاقتصادات في العالم، والوجهة المفضلة لأصحاب الخبرات والاستثمارات والصناعات الثقيلة، والباحثة الآن عن هوية جديدة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً.
ما يحدث هذه الأيام يثير القلق الشديد حول ألمانيا التي كانت تمتلك إلى وقت قريب واحداً من أكبر وأقوى الاقتصادات، والوجهة المفضلة لأصحاب الخبرات والاستثمارات والصناعات الثقيلة
فعلى المستوى الشعبي، فإن المشهد الصادم حالياً داخل معظم المدن الألمانية، هو وجود مشردين يفترشون الشوارع والأرصفة ويحتلون مداخل البنايات السكنية، وطوابير تصطف ساعات للحصول على وجبة ساخنة أو سلع غذائية مجانية، ومتقاعدين يبحثون عن زجاجات فارغة لبيعها للمتاجر مقابل ثمن زهيد.
لا يقف الأمر عند هذا الحد، فالأرقام الرسمية تشير إلى أن أكثر من 21.3% من سكان ألمانيا، أي ما يزيد عن 25.5 مليون شخص، يعيشون تحت خط الفقر أو مهددون بالإقصاء الاجتماعي بحلول عام 2024، وأن ما يقرب من 25% من الأسر لا تملك أي مدخرات في البنوك، بسبب دخلها المنخفض وارتفاع تكاليف المعيشة، وفق أحدث استطلاع أجراه مصرف "آي إن جي" البريطاني، كما يواجه نحو 3.2 ملايين مسن ممن تجاوزت أعمارهم 65 عاماً خطر الفقر، بحسب بيانات هيئة الإحصاء الأوروبية "يوروستات".
حال الاقتصاد الكلي لا يختلف كثيراً عن أحوال الناس المعيشية الصعبة، ونظرة للأرقام المتعلقة بمؤشرات الاقتصاد نجد أنها مقلقة للغاية، فمعدل البطالة يتفاقم يوماً بعد يوم، مع مرور ألمانيا بأزمة اقتصادية وسياسية حادة في الفترات الماضية، ومخاوف بشأن الأمن الوظيفي، فهناك 2.8 مليون عاطل من العمل مع ارتفاع المعدل إلى 6%، وهناك موجات إغلاقات وإفلاسات واسعة النطاق للشركات في أكبر اقتصادات أوروبا، بل إن حالات الإفلاس ارتفعت إلى مستويات مماثلة للأزمة المالية العالمية في عام 2009.
ونظرة للأرقام نجد أن هناك 32 ألف حالة إفلاس متوقعة في الدولة الأوروبية الأبرز خلال العام الجاري بفعل تعمق الركود والتباطؤ الاقتصادي، وعدد حالات إفلاس الشركات قفز إلى 22.4 ألفاً في العام الماضي، وهو أعلى مستوى منذ عام 2015. وما يقلق الألمان هو أن مشكلة الإفلاس الأخطر حالياً تكمن في أنها تهدد آلاف الشركات الكبرى، ومنها علامات تصنف على أنها الأفضل عالمياً مثل فولكسفاغن وبي أم دبليو وسيمنس وبوش.
من المتوقع أن تتفاقم أزمة ألمانيا مع خوض ترامب حروباً تجارية واقتصادية شرسة ضد جميع الشركاء التجاريين للولايات المتحدة، بما فيهم الاتحاد الأوروبي
حتى الصادرات، قاطرة الاقتصاد الألماني، فإن هناك تراجعاً في أرقامها، خاصة مع هجرة الشركات الألمانية، ومن المتوقع أن يتعمق التراجع مع فرض الولايات المتحدة رسوما على صناعة السيارات والأدوية والرقائق الأوروبية، وتعمق أزمة الطاقة مع غياب تدفق الغاز الطبيعي من موسكو ومحاصرة قطاع الطاقة الروسي أوروبياً.
متاعب ألمانيا والاقتصاد الأكبر والأهم في القارة الأوروبية لم تبدأ مع نشوب أزمة سياسية وزيادة حالة عدم اليقين في البلاد، بالتزامن مع انهيار الائتلاف الحكومي، لكنها تعمقت مع نشوب الحرب في أوكرانيا وموجات التضخم العالمية وارتفاع تكاليف الطاقة التي صاحبت الحرب، وزيادة الأعباء البيروقراطية وتردد المستهلكين في الإنفاق.
ومن المتوقع أن تتفاقم الأزمة في الفترة المقبلة مع خوض دونالد ترامب حروباً تجارية واقتصادية شرسة ضد جميع الشركاء التجاريين للولايات المتحدة، بما فيهم الاتحاد الأوروبي وفي القلب ألمانيا، وكذا بسبب الضغوط الأخرى التي يمارسها ترامب على دول القارة، ومنها ما يتعلق بمحاولات إقصاء أوروبا عن ملف مفاوضات أوكرانيا، ومخاوف من احتمال صعود اليمين المتطرف داخل ألمانيا.
وفي ظل تلك التعقيدات وغيرها يترقب الألمان نتائج الاجتماعات التشريعية المقبلة المقررة يوم 23 فبراير/شباط الجاري، والتي يتحدد على أساسها شكل الخريطة السياسية والاقتصادية المقبلة لأهم دولة داخل الاتحاد الأوروبي.