أسواق بلا بضائع بعد عامين من حرب الإبادة... وأسعار جنونية للسلع الأساسية
استمع إلى الملخص
- تذبذب الأسعار وتأثيره: يعيش السكان في حيرة بسبب التغيرات غير المنطقية في الأسعار، مما أرهق الأسر ودفعها للاعتماد على المساعدات الغذائية، واستنزفت الحرب مدخراتهم بسبب ارتفاع أسعار السلع الأساسية.
- تشوه اقتصادي ممنهج: يواجه التجار تحديات بسبب شح البضائع وارتفاع تكاليف الاستيراد، واستغلال بعض التجار للأزمة، مما زاد معاناة المواطنين، وارتفاع معدلات الفقر والبطالة واعتماد الأسر على المساعدات الإنسانية.
تتواصل الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة منذ عامين، كانا كفيلين بإحداث انهيار شبه كامل في الأسواق المحلية التي شكلت منذ عقود شريان الحياة الأساسي للسكان. وخلال شهور الحرب، عانت الأسواق من شح شديد في البضائع نتيجة الإغلاق المتكرر للمعابر وارتفاع جنوني في الأسعار تجاوز في بعض الأحيان 8000% مقارنة بالقيمة الطبيعية. هذا الانهيار ترافق مع ضعف غير مسبوق في القدرة الشرائية لدى الغزيين، إذ باتت معظم العائلات عاجزة عن توفير احتياجاتها اليومية من المواد الأساسية.
ويأتي ذلك وسط مجاعة تتسع في ظل تشديد الحصار ومنع دخول المساعدات وشح السلع، إذ أكد تصنيف دولي لانعدام الأمن الغذائي، شاركت فيه الأمم المتحدة، خلال أغسطس/ آب الماضي، وصول المجاعة إلى محافظة غزة وتوقع انتشارها إلى محافظتي دير البلح وخانيونس. التصنيف المتكامل لمراحل الأمن الغذائي قال إن أكثر من نصف مليون شخص في قطاع غزة يواجهون ظروفاً كارثية، أي المرحلة الخامسة من التصنيف، ومن خصائصها الجوع الشديد والموت والعوز والمستويات الحرجة للغاية من سوء التغذية الحاد.
وتجدر الإشارة إلى أن قطاع غزة يحتاج يومياً إلى أكثر من 600 شاحنة محملة بالسلع والمواد الغذائية لتغطية احتياجاته، لكن سلطات الاحتلال لا تسمح إلا بدخول ما يقارب 70 شاحنة في أفضل الأحوال، وهو ما يُبقي السوق في حالة عجز دائم ويحول دون أي انتعاش حقيقي.
تقلبات بلا منطق
يقف الفلسطيني شادي حمد، النازح من شمال غزة إلى مخيم البريج وسط القطاع، أمام كشك صغير لبيع البقوليات وهو يحاول أن يوازن بين الأسعار التي تتغير بشكل غير مفهوم، قائلاً: "في بعض الأيام كنا نرى الأسعار تقفز لعدة أضعاف، وبعد أيام قليلة نجدها تنخفض فجأة إلى أقل من النصف، من دون أي تفسير واضح".
ويصف شادي المشهد الاقتصادي في غزة بـ"المشوه"، حيث بات المواطنون في حالة دائمة من الحيرة: "هل يشترون الآن خوفاً من ارتفاع جديد، أم ينتظرون على أمل انخفاض؟ هذا التذبذب المتواصل أرهق الأسر التي لم تعد قادرة على التخطيط حتى لأبسط احتياجاتها الغذائية". ويضيف لـ"العربي الجديد": "الأسواق فقدت استقرارها بفعل الحرب وتقييد المعابر، حتى أن السلع القليلة المتوفرة لم تعد تلبي الطلب المتزايد مع موجات النزوح الداخلية، ما ضاعف الأزمات المعيشية، كل يوم نشعر أننا أمام مفاجأة جديدة، مرة بارتفاع جنوني ومرة أخرى بندرة خانقة في البضائع".
ويشير إلى أن عائلته المكونة من سبعة أفراد تعيش على المساعدات الغذائية التي توزعها بعض المؤسسات الإنسانية، لكن هذه المساعدات شحيحة ولم تعد كافية لتغطية حاجة أسرته، "لم يعد لدينا رفاهية الاختيار نحن نأخذ ما هو موجود بغض النظر عن الجودة أو السعر".
في حين، يعيش هاشم الفيري، موظف في شركة خاصة من مدينة خانيونس جنوب القطاع، تجربة مختلفة، لكنها لا تقل قسوة، قائلاً: "كنت أدخر على مدار 16 عاماً من عملي أكثر من 11 ألف دولار، أملاً أن أؤمن مستقبل أسرتي، لكن كل هذه المدخرات تبخرت خلال أشهر الحرب بسبب ارتفاع الأسعار غير المسبوق".
ويضيف لـ"العربي الجديد": "أي سلعة أساسية سواء كانت غذاء أو دواء أو حتى أدوات بسيطة، شهدت قفزات في الأسعار وصلت أحياناً إلى أضعاف مضاعفة، ما جعله يستنزف مدخراته تدريجياً حتى نفدت بالكامل".
ويشدد الفيري على أن الأسعار باتت تفوق قدرة أي مواطن عادي حتى لو كان يمتلك دخلاً ثابتاً أو مدخرات سابقة، "في البداية كنت أظن أن الأزمة مؤقتة وستزول مع فتح المعابر، لكننا دخلنا في دوامة لا نهاية لها من الغلاء والإغلاق والتقشف الإجباري على مدار عامين من الحرب". ويؤكد الفيري الذي يعيل أسرة مكونة من ثمانية أفراد أن السوق الغزي أصبح بيئة طاردة لأي استقرار اقتصادي، "فالمواطن يشتري بحذر شديد ويحسب كل شيكل ينفقه، بينما التاجر نفسه لا يستطيع التنبؤ بما سيواجهه في الأيام القادمة من أسعار أو كميات متاحة".
تشوه اقتصادي ممنهج
يروي تاجر التوابل في سوق الشاطئ بمدينة غزة، وائل سعد، جانباً آخر من معاناة الأسواق على مدار عامين من الحرب، يتمثل في شح البضائع الأساسية مقابل وفرة بعض السلع الثانوية، قائلاً: "الاحتلال يتعمد التضييق على دخول المواد الأساسية كالقمح والزيوت والأرز، بينما يسمح أحياناً بإدخال منتجات ثانوية لا تسد حاجة السوق".
لكن الأمر لا يقف عند حدود الاحتلال فقط، إذ يلفت سعد إلى أن بعض التجار استغلوا الأزمة لممارسة الجشع، عبر إخفاء السلع الأساسية أو تخزينها ثم عرضها بأسعار مضاعفة وهو ما فاقم الأزمة وترك المواطن في مواجهة مزدوجة، حصار خارجي وجشع داخلي. ويكشف سعد لـ"العربي الجديد" عن أن تكاليف إدخال الشاحنات ارتفعت بشكل خيالي خلال أشهر الحرب، حيث وصل سعر التنسيق للشاحنة الواحدة في بعض الأحيان إلى 100 ألف شيكل، وهو ما انعكس مباشرة على أسعار السلع في السوق، "حتى عندما تتوفر بعض المواد تصل بأسعار لا يقدر المواطن البسيط على تحملها".
ويوضح أن المخاطر لم تقتصر على ارتفاع التكاليف فقط، بل شملت أيضاً الخوف من سرقة الشاحنات أو قصفها أثناء دخولها، ما جعل عمليات الاستيراد أكثر تعقيداً وخطورة. "نحن نبيع ونشتري في ظروف لا يمكن وصفها إلا بالمستحيلة وكل يوم هناك تحدٍ جديد". ويختم سعد حديثه: "السوق لم يعد سوقاً بالمعنى التقليدي، بل تحول إلى ساحة صراع بين الحاجة والقدرة على الشراء وبين التاجر والمستهلك وبين الاحتلال والحياة نفسها".
ويجمع اقتصاديون على أن ما يحدث في أسواق غزة ليس مجرد أزمة عابرة، بل سياسة إسرائيلية ممنهجة تعرف بخطة "التشويه الاقتصادي"، التي تهدف إلى إنهاك الجبهة الداخلية وإضعاف صمود الغزيين. ووفق الاحصائيات فقد ارتفعت معدلات الفقر إلى أكثر من 90% وقفزت البطالة إلى نحو 85% وأصبح 95% من الأسر تعتمد على المساعدات الإنسانية.
هذا الواقع ترك الأسواق في حالة شلل شبه كامل وأضعف ثقة المواطن بالاقتصاد المحلي، بينما يواجه التجار أنفسهم أعباءً هائلة في الاستيراد والتوزيع والتسعير.
وبعد عامين من الحرب، تبقى الأسواق الغزية صورة صادمة عن حرب اقتصادية تتوازى مع الحرب العسكرية وتكشف عمق المعاناة الإنسانية التي يعيشها سكان القطاع.