أزمة لبنان: تأليف الحكومة لن يكفي

أزمة لبنان: تأليف الحكومة لن يكفي

03 اغسطس 2021
السلطة التنفيذيّة مقيّدة بحكومة مستقيلة لا تملك صلاحيّة الحل والربط (Getty)
+ الخط -

منذ العاشر من شهر آب/أغسطس 2020، أي منذ نحو سنة، استقال رئيس الحكومة اللبنانيّة حسّان دياب بعد أيام من انفجار مرفأ بيروت وما أثاره من غضب شعبي في الشارع. ومنذ ذلك الوقت، باتت السلطة التنفيذيّة مقيّدة بحكومة مستقيلة لا تملك صلاحيّة الحل والربط، إلا في الحدود الضيّقة لتصريف الأعمال كما ينص الدستور اللبناني.

وطوال هذه الفترة، فشلت الطبقة السياسيّة اللبنانيّة في التوصّل إلى تفاهم يمكّنها من تشكيل حكومة جديدة، بفعل الخلافات على أحجام الحصص الوزاريّة التي سينالها كل طرف، أو على نوعيّة الحقائب التي سينالها.

استطالة مدّة تصريف الأعمال إلى هذا الحد، كانت كفيلة في أي دولة أو نظام سياسي بالتسبب بأزمات لا تُحمد عقباها، خصوصاً إذا أصرّ رئيس الحكومة المستقيل على تضييق حدود مهامه إلى درجة الامتناع حتّى عن عقد جلسة للحكومة المستقيلة، كما فعل حسّان دياب نفسه.

لكنّ تداعيات هذا الشغور في الحالة اللبنانيّة كانت مضاعفة، لكونه تزامن مع أخطر مراحل الانهيار المالي الذي تمر به البلاد، لا بل تزامن مع أزمات كانت أخطر من أن تُترك بلا حل، كشح الأدوية والمحروقات وانقطاع الكهرباء.
وفي ظل الفراغ، خيّم الجمود على جميع الملفات المرتبطة بالأزمة المالية: فتوقّفت المفاوضات مع حملة سندات الدين الأجانب، وتفرملت المحادثات مع صندوق النقد الدولي. وتوقّف البحث في مسألة خطة التعافي المالي، بعد أن سقطت الخطة المقترحة سابقاً لغياب الإجماع السياسي والنيابي حولها.

لا بل كان أغرب ما في الأمر ترك البلاد بلا حتّى موازنة ترشّد إنفاقها خلال هذا العام، وبلا رؤية لكيفيّة التعامل مع مرحلة الخروج من آليات دعم الاستيراد التي كانت تعتمد على احتياطات المصرف المركزي، ما مهّد للارتطام العنيف الذي نشهده اليوم.
في ظل هذا الجو السوداوي بالتحديد، جاء تكليف رئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي بتشكيل الحكومة المقبلة في بداية الأسبوع الماضي. ولعلّ تردي الظروف الاقتصاديّة في ظل الفراغ القائم في السلطة التنفيذيّة برّر إلى حدٍ ما تلقّف هذا الخبر بإيجابيّة في الشارع اللبناني، رغم عدم وجود ما يضمن نجاح الرجل في التفاهم مع رئيس الجمهوريّة وسائر الأقطاب السياسيين على تشكيلة معيّنة للحكومة المقبلة.

يراهن بعضهم على علاقة ميقاتي بفرنسا من زاوية إمكانيّة دفعه باتجاه تبنّي الأجندة الماليّة الإصلاحيّة التي يحملها الفرنسيون، والتي يمكن أن تؤسس لعودة التفاوض مع صندوق النقد بصورة إيجابيّة

نقاط قوّة ميقاتي، التي يراهن عليها كثيرون، تكمن في قوّة علاقاته الدوليّة، وخصوصاً مع فرنسا التي باتت منذ انفجار المرفأ معنيّة عن قرب بتفاصيل المشهد الاقتصادي اللبناني، والتي تملك أساساً طموحات استثماريّة كبيرة في ما يخص مرحلة إعادة إعمار واستثمار المرفأ لاحقاً.

علماً أن ميقاتي نفسه امتلك شخصياً شراكات استثماريّة مع كبرى الشركات فرنسيّة في قطاعي الاتصالات والنقل. هذه العلاقات بالتحديد، هي ما دفع بعضهم إلى التفاؤل بقدرته على تأمين مظلّة فرنسيّة ودوليّة لمسار التصحيح المالي اللبناني، لا بل والقدرة على إعطاء ضمانات معينة للشركات الأجنبيّة التي يمكن استقطابها للاستثمار في لبنان.
الرهان على علاقات ميقاتي وارتباطه بفرنسا لا يقتصر على قدرته على تأمين المظلّة الدوليّة. فمن المعروف أن فرنسا تمتلك اليوم أجندة ورؤية خاصّة للملف الاقتصادي اللبناني، وهذه الرؤية لا تبتعد في عناوينها العريضة عن الشروط التي وضعها صندوق النقد للموافقة على الدخول في برنامج مع الدولة اللبنانيّة.

هذه الشروط تمتد من التدقيق الشامل في ميزانيات المصرف المركزي، إلى تحديد خسائر القطاع المالي بدقّة ومعالجتها، وصولاً إلى وضع خطة شفافة لقطاع الكهرباء وضمان استقلاليّة القضاء، بالإضافة إلى وضع أنظمة لضبط سيولة المصارف خلال فترة التصحيح، وبعض الشروط الأخرى التي تفرض التقشّف في ميزانيّة الدولة.
عملياً، لم يكن لدى الطبقة السياسيّة أي مشكلة في الشروط التقشفيّة الموجعة على المستوى الاجتماعي. لكن مفاوضات لبنان مع صندوق النقد تعثّرت خلال العام الماضي بسبب رفض كل طرف سياسي للشروط التي يمكن أن تمس مصالحه وصفقاته في النظام المالي ومؤسسات الدولة، وهو ما أفضى إلى فقدان الإجماع حول خطة الحكومة السابقة للتصحيح المالي التي كانت تجري على أساسها المفاوضات مع الصندوق.

إن تشكيل حكومة ميقاتي وحده لن يمثّل الحل المطلوب، حتى لو تمتّع ميقاتي بكل هذا الدعم الخارجي وتحديداً الفرنسي، وحتى لو امتلك نيّة تبني هذه البنود الإصلاحيّة

أما اليوم، فيراهن بعضهم على علاقة ميقاتي بفرنسا من زاوية إمكانيّة دفعه باتجاه تبنّي الأجندة الماليّة الإصلاحيّة التي يحملها الفرنسيون، والتي يمكن أن تؤسس لعودة التفاوض مع صندوق النقد بصورة إيجابيّة.

كما ثمّة من يتوقّع أن يتمكن من فرض هذه الأجندة على سائر الأقطاب السياسيين، مستعملاً علاقاته الدوليّة والغطاء الخارجي الذي يملكه، والذي يفوق بأشواط الدعم الذي تمتّع به سلفه حسان دياب.
بمعزل عن كل هذه الرهانات، يمكن القول إن تشكيل حكومة ميقاتي وحده لن يمثّل الحل المطلوب، حتى لو تمتّع ميقاتي بكل هذا الدعم الخارجي وتحديداً الفرنسي، وحتى لو امتلك نيّة تبني هذه البنود الإصلاحيّة.

فمخاطبة صندوق النقد، مستحيلة دون طرح خطة مالية كاملة، مع إجراءات تصحيحيّة تتحدى الكثير من مصالح الطبقة السياسيّة التي تتشابك مع مصالح النافذين في النظام المالي اللبناني.
وهذا النوع من الخطوات، سيستلزم إرادة مواجهة كبيرة، قد لا يملك ميقاتي جميع أدواتها. لا بل لا يوجد ما يدل على نيّة الرجل في السير بهذا النوع من المواجهات بمعزل عن التأثيرات الخارجيّة، وهو القادم من نادي الزعماء السياسيين التقليديين والمرتبط بمصالحهم.  

 أما التعامل مع أزمة القطاع المالي، وتحديداً أزمة المودعين، فمرتبط بقدرة الحكومة القادمة على فرض الاعتراف بالخسائر المصرفيّة ومعالجتها بما لا يمس بأصحاب الودائع الصغيرة والمتوسّطة، ومهما كانت الكلفة على أصحاب الرساميل.

وطوال الفترة الماضية، كان من الواضح أن الغالبيّة الساحقة من الكتل النيابيّة فضلت الانحياز إلى اللوبي المصرفي الرافض لهذه الخطوة، وهو ما سيمثّل تحدّيا كبيرا لأي حكومة مقبلة.

وبالنسبة إلى حملة سندات الدين الأجانب، فمن المستحيل أن تتمكن أي حكومة من التوصّل إلى تفاهم منطقي وعادل لإعادة جدولة ديونهم، وإعادة النظر بقيمة السندات وفوائدها، طالما أنها لم تنجز خطة تصحيح مالي ذات مصداقيّة.

وهذه مسألة مربوطة بدورها باستعادة الانتظام في النظام المصرفي، وفتح أبواب المساعدات الخارجيّة التي تربطها جميع الجهات الدوليّة بمصير المفاوضات مع صندوق النقد.
باختصار، تشكيل الحكومة لن يكفي. المطلوب أولاً أن تمتلك هذه الحكومة خطة واضحة للحل، وأن تمتلك ثانياً شجاعة المواجهة الداخليّة لفرض الإصلاحات المطلوبة على الجميع، وخصوصاً أقطاب الحياة السياسيّة الذين عرقلوا هذه الإصلاحات طيلة الفترة الماضية.

ولتتمكن الحكومة من الدخول في هذه المواجهة، عليها قبل كل شيء استعادة ثقة الرأي العام وكسبه إلى جانبها في هذه المعركة، وهذا تحدّ كبير في ظل نفور فئات واسعة من الشارع اللبناني من الزعامات التقليديّة والطبقة الحاكمة. أما السؤال الأهم، فهو عن كيفيّة الدخول في هذه المواجهة إذا كانت الحكومة ستتشكّل من ممثلي القوى السياسيّة الرافضة للإصلاحات نفسها.

المساهمون