أزمة المياه والجفاف تهدد حياة النحل في البصرة العراقية
استمع إلى الملخص
- تدهور البيئة الحاضنة للنحل يعكس هشاشة القطاع الزراعي أمام التغيرات المناخية، مما يهدد الأمن الغذائي المحلي ويزيد الاعتماد على الاستيراد بسبب ارتفاع أسعار العسل.
- الأزمة تُظهر التداخل بين التغير المناخي والسياسات المائية، مما يتطلب سياسات مائية فعالة ودعم مباشر لمربي النحل والمزارعين لضمان استدامة النشاط الزراعي.
يهدد الجفاف الذي أدى إلى ذبول أشجار النخيل حياة النحل في مناحل عديدة على ضفاف شط العرب، حيث يلتقي نهرا دجلة والفرات في العراق. وفي مدينة البصرة الساحلية التاريخية، يواجه مربو النحل، الذين يحافظون على تقاليد عريقة في إنتاج العسل منذ قرون، أزمة ارتفاع ملوحة المياه في شط العرب، إلى جانب الحرارة الشديدة والجفاف المستمر، وهي عوامل أثرت بالنظام البيئي الحساس للنحل.
عسل البصرة
بدوره، قال محمود شاكر (61 عاماً)، أستاذ في كلية الزراعة بجامعة البصرة، ومالك لأحد المناحل لوكالة "رويترز" إن "النحل يحتاج إلى مياه نظيفة، غير راكدة ونقية. عدم توافر هذا الماء يؤدي بالتالي إلى هلاكه".
وأضاف شاكر: "ضفاف شط العرب كانت غابات من البساتين المتنوعة، وكان مربو النحل يعتمدون عليها بتأجير قطع من الأرض. هذه البساتين دُمرت بفعل تغير خواص المياه، وخصوصاً بعد ارتفاع نسبة الملوحة إلى مستويات لم يسبق لها مثيل". وأضاف أن النحل يعاني أيضاً من الحرارة الشديدة، وخصوصاً في فصل الصيف، موضحاً أنه "في البصرة تصل درجات الحرارة إلى 50 مئوية".
من جانبه، صرّح محمد مهدي مزعل الديراوي، معاون المدير في مديرية زراعة البصرة التابعة لوزارة الزراعة العراقية، لوكالة رويترز، أن هناك أكثر من أربعة آلاف خلية نحل موزعة على ما لا يقل عن 263 منحلاً في أنحاء المدينة. وأضاف أن الصراع والظروف البيئية القاسية أضرّت بنحو 150 منحلاً، ما أدى إلى هلاك ما لا يقل عن ألفي خلية نحل.
وتابع قائلاً: "النحل يتضرر من الظروف البيئية كأي كائن حيّ. ونتيجة للمد الملحي والحرارة، حدثت هلاكات كبيرة بأعداد الخلايا. بعض النحالين خسروا مناحلهم بالكامل". وأضاف: "نتوقع أن تنخفض إنتاجية العسل هذا الموسم بنسبة تصل إلى 50% مقارنة بالعام السابق، بسبب تأثير المد الملحي مباشرةً في النحل، وبشكل غير مباشر عبر تأثيره في الغطاء النباتي".
وأشار إلى أن إنتاج العسل في منطقة البصرة بلغ في ذروته نحو 30 طناً سنوياً، لكنه بدأ يتراجع منذ عامي 2007 و2008، وانخفض بشكل حاد في السنوات الخمس الماضية إلى 12 طناً سنوياً فقط. ومن المتوقع أن يتراجع هذا الموسم إلى ستة أطنان فقط.
وقال الديراوي إن ارتفاع ملوحة مياه شط العرب يهدد بقاء النحل، مشيراً إلى أن بعض المناطق على ضفاف النهر في جنوب البصرة توقفت بالفعل عن الإنتاج. وأضاف: "أتوقع إذا استمرت أزمة المياه بهذا الشكل خلال العام القادم، وخصوصاً إذا وصلت المياه المالحة إلى شمال البصرة، فسيتوقف إنتاج العسل بشكل كامل".
حروب وأزمة مياه
كانت ضفاف شط العرب في السابق غنية بأشجار وفيرة يتغذى عليها النحل، منتجاً عسلاً عالي الجودة، شكل مصدراً مهماً لدخل مربّي النحل العراقيين. غير أن هذه المساحات الخضراء تقلصت تدريجياً نتيجة عقود من الصراع وتغير المناخ، ما يهدد أعداد النحل. ولم ينجُ سوى أقل من ربع أشجار النخيل على ضفاف شط العرب، إذ بقي أقل من ثلاثة ملايين نخلة من أصل 16 مليوناً في ذروة ازدهارها.
عانى العراق من عقود من الحروب بدأت بالصراع مع إيران في ثمانينيات القرن الماضي، مروراً بحرب الخليج في التسعينيات، ثم غزو عام 2003 وما أعقبه من عنف وتمرد وصعود وسقوط تنظيم الدولة الإسلامية. غير أن التحدي الأكبر اليوم يتمثل بنقص المياه الذي يعرّض بيئة البلاد بأكملها للخطر.
فالأمن المائي أصبح قضية ملحّة في الدولة الغنية بالنفط، حيث انخفضت منسوبات المياه في نهري دجلة والفرات بشكل حاد، وهو ما تفاقم بسبب السدود المقامة في أعالي النهرين، ومعظمها في تركيا. أما في شط العرب، فقد أدى تدفق مياه البحر من الخليج إلى المجرى المائي إلى رفع نسبة الملوحة إلى مستويات غير مسبوقة.
تُعد تربية النحل وإنتاج العسل جزءاً من النشاط الزراعي والاقتصادي في محافظة البصرة، ليس فقط لكونه مصدراً مهماً للدخل لمئات الأسر، بل أيضاً لأنه يرتبط مباشرةً بصحة المنظومة البيئية الزراعية. ويُعتبر العسل البصري منتجاً محلياً مميزاً يجذب الأسواق العراقية ويملك قدرة تنافسية، إلا أن تراجع الإنتاج ينعكس سلباً على سلاسل القيمة الزراعية في المنطقة، من الفلاحين إلى التجار والمستهلكين.
اقتصادياً، يمثل تدهور البيئة الحاضنة للنحل مؤشراً خطيراً على هشاشة القطاع الزراعي أمام التغيرات المناخية والبيئية. فارتفاع الملوحة في شط العرب نتيجة السدود المقامة في أعالي دجلة والفرات، وتراجع الإمدادات المائية، كلها عوامل تحدّ من التنوع الزراعي، وتقلل من فرص الاستثمار في الأنشطة المرتبطة بالزراعة كالعسل والتمور والخضروات.
وتفاقم الأزمة يهدد الأمن الغذائي المحلي، إذ يؤدي تراجع إنتاج العسل إلى ارتفاع أسعاره وفقدانه تدريجياً من الأسواق، ما ينعكس على المستهلكين. كذلك إن انهيار أعداد النحل قد يؤثر في عملية التلقيح الطبيعي للمحاصيل الزراعية، وهو ما يُضاعف الخسائر الاقتصادية ويزيد من مخاطر الاعتماد على الاستيراد لتغطية الطلب المحلي.
من زاوية أوسع، تُظهر هذه الأزمة التداخل بين التغير المناخي والسياسات المائية الإقليمية والاقتصاد المحلي. فالعراق، رغم كونه دولة نفطية، يبقى اقتصاداً هشاً في قطاعاته الزراعية والغذائية، ما يجعل صغار المزارعين والنحالين الأكثر عرضة للخسائر. أزمة النحل في البصرة تعكس صورة أوسع لانكشاف الاقتصاد العراقي أمام تحديات المياه والتغير المناخي. فارتفاع الملوحة، وتراجع الغطاء النباتي، والجفاف، عوامل تهدد ليس فقط إنتاج العسل، بل النظام الزراعي برمته. وفي حال استمرار الوضع على ما هو عليه، قد لا يقتصر الانخفاض على 50% هذا الموسم، بل يتطور إلى انهيار شبه كامل للقطاع في السنوات المقبلة.
ولذلك، تبدو الحاجة ملحة إلى سياسات مائية أكثر فاعلية، وإلى دعم مباشر لمربي النحل والمزارعين عبر حلول مستدامة كإعادة تأهيل الأراضي المتضررة، وتحسين شبكات الري، وإيجاد بدائل للتنوع الزراعي. فالمحافظة على نشاط تربية النحل ليست مجرد حماية لمنتج غذائي، بل هي ركيزة لحماية الأمن البيئي والاقتصادي لجنوب العراق.
(رويترز، العربي الجديد)